ينشأ الإنسان العربي عموماً، واليمني خصوصاً، منذ نعومة أظافره في وسط ثقافي يتسم بالمؤامرة والتحفز ليتم إيهامه أنه مُستهدف من الآخرين، وعلى هذا الأساس يتم تحفيزه واستنفاره ومن ثم تجييشه ضد الآخر، ويزداد تشبثه بهذه الثقافة كسياج حامى.. هذه الرؤية تخلق رد فعل مساو من التوجس والقلق لدى الآخر, حيث يبدأ ينظر إلى صاحب هذه الثقافة كنتاج لشخص كاره وباغض ونابذ له ومستنفر ضده، بفعل ثقافته التي تحثه على ذلك.. فيخلق بالضرورة مناخاً من الحيطة والحذر والتوجس منه.. تخلص في النهاية إلى تبادل الكراهية والتحفيز.. ثقافتنا ثقافة هشة تدرك هشاشتها فتنتابها حساسية وثورة من أي كلمة نقد لتتحسس رأسها.. ثقافة تحس بأنها موضع اتهام وإدانة دوماً.. ثقافة تضعنا في موضع الإدانة، ونسعى طوال حياتنا لإثبات براءتنا دون جدوى!!!. مثل هذه الثقافة تنتفض وترتعش أمام أي نقد لها، فهي لا تدرك ماذا يعنى النقد والجدال الفكري.. لتعتبره تهجماً ورغبة مبيته للنيل من الآخر.. بينما المُفترض أن أي فكرة مطروحة للجدل والنقاش تفتح ذراعيها لكل نقد فكري فلا تقبحه أو تلعنه أو تشوه أهدافه بالإدعاء أن هناك مؤامرة ومخططات تريد النيل من صاحبها, فالأفكار القوية الواثقة من ذاتها وجدارتها ترحب بالنقد والبحث.. وهناك مبدأ فلسفي يشير إلى أنّ جوهر الحرية اختيار.. ومن هذا المنطلق، يشير المفكر الجزائري (شوقي الزين) إلى أنه تاريخياً كانت الفلسفة العدوّ اللدود لكلّ مَيل يسعى إلى التحكّم في العقول، لأنها تحرّر العقول وتدفع الإنسان إلى التساؤل والبحث والتفتيش للارتقاء بوعيه وضميره.. ونعرف ما كان مصير التهجّم على الفلسفة، سواء من الطوائف المذهبية أو من المذاهب السياسية: تمّ تشكيل أنظمة سياسية مقفلة تسوس الضمائر بيد من حديد؛ لكنها كانت تجهل أنّ الحرية البشرية التي يقوم عليها التفكير الفلسفي في رمّته هي بمثابة العنقاء (الفينيكس)، تخبو كالنار ولا تندثر؛ ثم تعود وتتوهّج في أزمنة الثورات والانقلابات فتدكّ الأنظمة السياسية أو المذهبية دكّاً.. فلا يمكن إذن، إخماد نار الحرية الدفينة في كل وعي، لأن الحرية بكل بساطة هي الهواء الذي يتنفسه الإنسان، إنها الأساس الذي بُني عليه الإنسان نفسياً في الوجود.. فالإنسان هو الوعي بالحرية.. ومن هذا المنطلق هناك توجهان مختلفان في فكرنا الثقافي.. توجّه يفجّر في الأصل إمكانات ورؤى تبعاً للقراءات والتأويلات السياقية (كما فعل ابن عربي في زمانه وبأدوات فكره).. وتوجّه يسجن الأصل ويحتكره، يستنسخه في أبشع النماذج: عنف، قهر، دكتاتورية، بربرية.. يتحدّث باسمه ويحوّله إلى سلاح للتدمير والترهيب.. وشتّان ما بين التوجّهين.. إن التوجهين السابقين يبرزان رؤيتين مختلفتين إلى المرجعية الإسلامية نفسها: رؤية توسّع الآفاق، تلتقي بالآخر، تحتفي بالاختلاف، لأنها تبحث عن المشترك في الجنس البشري ولا تستسلم إلى هواجس التجنيس والخصوصية؛ تبحث عن الحقيقة في ظواهر السفر والتجربة والمحنة، ولا تعثر عليها سشوى بقناعة التعثّر أمامها وعدم الوصول إليها مطلقاً. ورؤية تضيّق الآفاق، تتميّز عن الآخر في كل شيء، مهووسة بالخصوصية وبالتمركز الذاتي في نرجسية عقيمة. وتحيا في هذيان امتلاك الحقيقة. وعندما نقارن بين الرؤيتين، ندرك مدى عُقم الأولى.. ومدى عُمق الثانية.. فلا معنى لأيّ تنظيم ديني (يعمل كأداة في الترويع أكثر منه وسيلة في الدعوة) إذا لم يضع نُصب عينيه الشرط المطلق، الأساسي، الجوهري، الأزلي، للحرية البشرية. فكما يرى (ديكارت) أن حرية التفكير لا تنفصل عن صميم الوجود الإنساني، ولهذا يبدو أن الخوف من حرية المعتقد يرافق الأنظمة الأقل ديمقراطية عموماً والتي تمارس سلطتها الاستبدادية على الضمير والاختيار السياسي لمواطنيها عندما تسعى لفرض نمط اعتقادي أو حتى مذهبي خاص على المجتمع وتدعي رعاية (أمنه الروحي) بواسطة القهر.. لذلك قررت أن أحرر نفسي، جدياً، من جميع الآراء التي آمنت بها قبلاً وأن ابتدئ الأشياء من أسس جديدة.. كما أن هناك وحدة مشتركة بين جميع العقول مادام الصواب أعدل أشياء الكون توزُّعاً بين الناس. ويعتقد (إسبينوزا) أن أفضل الحكومات تعقلاً هي التي تصدر قوانين سليمة في الأمور الواقعة في نطاق سلطتها.. وتكف أيديها في المسائل المتعلقة بالعقيدة والتعليم.. ولكن من يشاء أن يضع الدين في القلب والعقل بالقوة والتهديد فما يضع ديناً بل إرهاباً. وهناك رأي للمفكر الإسلامي (السيد حسن فضل الله)، يقول فيه: إن التاريخ ليس مجرد تسجيل حرفي لقضية من قضايا الماضي، بل أصبح أداةً فاعلةً تسهم في عملية صنع الحاضر، ولهذا لا بد للباحث في المجال التاريخي من التخلي عن الهالة القدسيّة التي يحاول أن يحيط بها هذا التاريخ بكل ما فيه من انحرافات وأخطاء.. لذلك لا يمكن للأمة والمجتمعات العربية والإسلامية المعاصرة أن تنهض من كبوتها وتخلفها الحضاري الراهن شبه المقيم ما لم تمارس عملية نقد علمي موضوعي لتاريخها وماضيها القديم.. نقد يطال كثيراً من المسلمات والأفكار والاعتقادات الباطلة التي يعج بها هذا التاريخ. وقد كان (ياسين سعيد نعمان) موفقاً كثيراً في عبارة قال فيها: “استطاع هذا العقل الذي صنع من عجينه التعصب والتطرف والكراهية أن يقتحم مسار الحياة السياسية بعد أن جمع بين يديه أدوات العنف الضرورية وسيطر على منابعه واحكم قبضته على منتجيه.. المتوزعين بين بائع الفتوى ومشتري لهو الحياة الدنيا ومتسلط لا يتسع قلبه لغيره ومفسد لا تطرف عينه إلا لحجم ثروته. ونختم بالقول:إذا استمرينا متمسكين بثقافة العنف والإقصاء.. فإننا لن نستطيع تحقيق غايتنا الوطنية في بناء الوطن الضامن لاستمرار هويتنا اليمنية الجامعة.. الوطن الذي ناضل اليمنيون من أجل الوصول إليه طوال العقود الماضية.. ولم يتمكنوا من العبور إلى مشارفه حتى اليوم.. لذلك، علينا أن نغادرثقافة إلغاء الآخر أو تهميشه.. ونرفضها فكراً ونهجاً وسلوكاً وممارسة.. اعتقد أنه قد حان الوقت لأن نرتقي ونفكر كبشر بإرساء دعائم اليمن بيتنا المستقر، الذي يحفظ كرامتنا، ويمنحنا مواطنة متساوية دون تمييز!!!. [email protected]