مفهوم النمطية يدل على التكرار وهو مفهوم أتى من حقل الصناعة . فالصناعة تُعيد إنتاج سلعها بقوالب ثابتة و مكررة وفق صور نمطية ثابتة، و التفكير الفلسفي بطبيعته النقدية والتجديدية يمقت النمطية والتقليد في التفكير و لنا في تاريخ الفكر الفلسفي أسوة حسنة في مناهضة التقليد . فالفلاسفة الكبار و الشعراء الذين ظلوا في ذاكرة البشرية و التواقون لإصلاح المجتمع وتغييره لم يؤكدوا حضورهم في التاريخ بالتبعية الفكرية و الركون إلى السائد و المألوف بل بمناهضته و إذا اقتضى الأمر الثورة عليه لأن التبعية تنتج الاستبداد وتلتهم الحرية و تمنع المجتمع من المضي في اكتشاف نفسه و تفجير طاقاته وكفاءاته والحصول على مستحقاته في العدالة الاجتماعية بمعناها العميق لتنظيف كل القاذورات التي تلصق بجسد المجتمع. إن العالم احتفى في الشهر الماضي باليوم العالمي للفلسفة لكن نحن سنحتفي مع المحتفين بطريقتنا الخاصة التي من صميم توجهها الدعوة إلى قيم الحق و الخير و الجمال و الترويج لهذه القيم بوصفها قيماً إنسانية يحتاج إليها كل إنسان . وطالما رفع الفلاسفة من شأن هذه القيم كل بطريقته ووفق لحظته التاريخية وتوجهاته الاجتماعية و الفكرية فنحن اليوم نعيد رفعها من جديد بما يتلاءم مع عصرنا وحاجتنا إليها. إن هذه المناسبة باليوم العالمي للفلسفة تقتضي منا أن نفكر تفكيراً فلسفياً و أن نعيد النظر في مشكلاتنا و ما وصلنا إليه من مآزق سدت علينا منافذ الولوج إلى حياة حرة كريمة و نريد أن نمضي إلى المجتمع المدني ونحن نرفع لواء العقل وبدون أن نتنكر للإيمان ونأخذ من الآخر المتقدم علينا علمياً وتكنولوجياً و عسكرياً بدون أن نضيع هويتنا . و من بديهيات المنطق أن لا نمضي إلى المجتمع المدني بطرائق في التفكير تستسلم للنمطية و التقليد وتناصب العلوم الاجتماعية والإنسانية العداء وترفع من درجة العداوة للفلسفة وفروعها العلمية. إن النزوع إلى الاستقلال الفكري ونبذ التقليد لم يعدم منه تراثنا الفكري و الحضاري . وإن الفلسفة بوصفها رؤية ثاقبة وناقدة ليس بالضرورة أن تمارس بطريقة تقليدية وتعيد إنتاج الأسئلة الكبرى وتجتهد في تقديم الإجابة عليها . نعم ليس بالضرورة أن تفعل ذلك ولكن بإمكانها أن تتحسس مشكلات المجتمع و تنتقد طرائق التفكير التقليدية الشائعة فيه وبخاصة إذا ما تمددت هذه الطرائق إلى الدرس الجامعي . لأن حال الدرس الجامعي سوف يسوء وسوف تتضاءل فيه مساحة العلم الجدي و الإبداع وسيكتب علينا الجمود و الثبات و المزيد من مصادرة الحريات. إن التفكير النمطي خطر على المعرفة و على طلاب الجامعة بالذات هؤلاء من يعول عليهم في بناء المجتمع المؤسسي الذي تكون فيه السيادة للقوانين و التشريعات المدنية و الحضارية والحريات الفكرية الحضارية ليس هذا فحسب بل حماية هذه الحريات من الإكراهات الاجتماعية و المذهبية و القبلية و العسكرية وغيرها من السلطة التي ترى في نفسها المالكة للحقيقة وبحكم طبيعتها ترفض المواطنة المتساوية ولا تتحمل أن يكون أفراد المجتمع أحراراً بدون استثناء و تتوهم هذه السلطات أنها هي من يمنح الحرية للجميع. إن الجامعة لا جدوى منها إذا لم تسهم في تحمل أعباء التنوير و استبدال طرائق التفكير النمطي بطرائق تفكير منفتحة على احتياجات العصر ومتطلباته التي تقتضيها مسيرة التطور الحضاري و المدني و على الجامعة أن تمارس هذا الدور بإخلاص وليس من باب الدعاية الرخيصة و أن يكون لمؤسساتها المعنية بالبحث العلمي رؤية ناضجة تشجع وتدعم البحث العلمي الذي يكشف قصورنا وتضع اليد على الظواهر الاجتماعية التي تعرقل تقدمنا نحو المجتمع المدني وما أكثر هذه الظواهر ومنها ظاهرة الفساد الذي جر العباد و البلاد إلى كوارث نعاني منها إلى يوم الناس هذا إذ ترسخ وعي في المجتمع بأن هذه الظاهرة لا يمكن حلها ويردد بعض اللئام من البشر بأن الطبيعة البشرية ضعيفة و أن هذا الضعف يدفعها إلى حب المال و المفارقة في هذه القضية أن من يناقشها هو جزء من المشكلة وعرَّابها ويتم تمييع هذا الأمر و لا يستطيع أحد أن يوجه التهمة لأفراد بعينهم بل تُعوّم المسألة وتوجه تهمة الفساد للجميع وتتحول زمرة الفاسدين إلى كيان هلامي لا نعرف له هوية و نقع في (حيص بيص.) علينا أن نسأل ونحن نبحث عن هذه الظاهرة هل التقليل من هذه الظاهرة يتطلب إرادة سياسية قوية تستطيع أن تحمي القوانين و تنفذها؟ هل هؤلاء الفسدة المصرون على الفساد مرضى في عقولهم ويحتاجون معالجة نفسية، هل هناك وعي متغلغل في نفوس القائمين على القرار أنّ نهب مال الدولة و الأمة حلال و لا بأس من نهبه بضراوة. إن مثل هذه الظاهرة لا بد من درسها ومقاربتها من أكثر من علم وبطرائق منهجية متنوعة أي أن تسهم العلوم الاجتماعية في دراسة هذه الظاهرة حتى من موقع علم النفس الاجتماعي والعقلي . وحين نزعم بأن العلوم الإنسانية هي القادرة وهي التي تقوى على دراسة هذه الظاهرة لا يعني التقليل من العلوم الطبيعية فكل علم في مجاله مهم وليس هناك علم بأفضل من علم بصورة مطلقة فالطب على جلالة قدره و خدماته الجليلة التي يقدمها لصحة الإنسان لا يقوى على دراسة التعصب و التطرف الديني بل إن الذي يقوى على بحث الظاهرة هو علم الاجتماع و الفلسفة و الانثربولوجيا و علم النفس , وكل علم يبحثها من زاوية معينة ويقدم نتائج وأسباباً عن هذه الظاهرة ويقترح حلولاً لمعالجتها كما أن هذه العلوم لا تستطيع أن تقول ولو كلمة حاسمة في الأمراض الجسدية للإنسان . وهكذا نرى أن العلوم كلها مهمة وأقوال المكابرة و المفاضلة بين العلوم لا تصدر إلا من الجهلاء. إن تراجع هذه العلوم الاجتماعية و إهمالها من الجهات المعنية بها يعني مؤشراً على تراجع الحريات وانتصار الفساد و الإصرار عليه . وكأن هناك تحالفاً غير مكتوب بين الجامعة وأصحاب القرار النجباء الذين لا يريدون بحث وتعرية الكثير من الظواهر كالتعصب والتطرف الديني و النظرة الدونية للمرأة وتزايد فقهاء السوء الذين لا تفصل بينهم وبين السلطة أي مسافة فهم يروجون لها في السر و العلن وهي تحميهم وتملي جيوبهم بالأموال . إن كل هذه الظواهر لا يراد لها أن تُدرس في العمق و السطح حتى تسوء الأحوال و تستمر حالة التخلف في المجتمع. إن غياب مثل هذه الأبحاث التي تحمل قيمة معرفية و اجتماعية مؤشر على غياب النخب الثقافية في المجتمع وغياب المعرفة المنتجة و المفيدة ولا يتردد بعض هذه النخب المثقفة من عرض خدماته على السلطة الفاسدة وتصبح هذه النخب دمى متحركة بأصابع السياسة المتردية و المذهبية المتعصبة.