كان قسم الفلسفة في كلية آداب جامعة صنعاء مرتبطاً بالمعرفة والإشراقات المستقبلية.. كان ملتحقيه الأوائل ومن أعقبهم من المحبين الحقيقيين للفلسفة يطمحون بتنمية نسق فكر المجتمع اليمني باتجاه الحداثة والتنوير, لكن خيبات الجهل المترسخ ومصدات القوى التقليدية حالت دون ذلك بسبب الفقهيات والاعراف المسيطرة المعيقة للتفكير إضافة إلى رسمية الاستخفاف بالعقل أصلاً. منتصف سبعينيات القرن الماضي –المرحلة التي تعد إلى حد كبير مرحلة ذهبية لطموح اليمنيين في الانطلاق والتحرر- تأسس هذا القسم المعرفي الجريء بمبادرة من المهجوسين بفكرة اليمن الجديد أولاً وأخيراً . وخلال مرحلتي الثمانينيات وحتى أوائل التسعينيات يمكننا القول: إن قسم الفلسفة بكلية آداب جامعة صنعاء كان لا يزال يتنفس عافيته قبل أن يؤول إلى الإقصاء، وتخنقه كل أحلاف التخلف. بالتأكيد تميز طلاب الفلسفةعموماً بالاعتداد والإرادة المثقفة ومنهم من تعرض لاستلابات كثيرة بفعل الاصطدام بالواقع والاضطهادات السياسية والفكرية والنفسية إلخ .. إلا أن عديد طلاب مبدعين من هؤلاء عرفوا كمثقفين وأدباء وباحثين فيما بعد ، لم ينهزموا نهائياً أمام نظرة المجتمع الدونية والاستخفافية لهذا العلم رغم ماعنوه. ذلك أن الوعي النقدي لهم ظل يقظاً ودؤوباً في استيعابه لتجليات الفلسفة ومفاهيمها وغاياتها في التطور والنهوض المعرفي .. وإذ ظلوا في مرمى الاستهداف الشمولي والرجعي منذ تخرجهم للأسف، إلا أنهم استمروا مقاومين لكل اشكال التخلف الفكري بشكل يثير الإعجاب، ولو أن معظمهم كما أعرف صاروا في السنوات الاخيرة مجرد مدرسين نمطيين لا أقل ولا أكثر لمناهج فلسفية تراجعت كثيراً عما كانته سابقا من تطور منهجي. بالمحصلة فإن تنمية الوعي بفكرة التحول المدني في اليمن لن تتم بشكل لائق دون حيوية الفلسفة داخل المجتمع ..الفلسفة بما تمثله خلفياتها ومحمولاتها الأدبية والثقافية والسياسية من قيم ومضامين . ثم إن المشكلة الفلسفية في المجتمع اليمني تكمن من وجهة نظري في عدم احترامنا للعقل، أي في عدم حثنا على احترام العقل، وبالتالي في كل الذين لازالوا يمجدون تلك المقولة الفاقعة: “من تفلسف فقد تزندق”. ويبقى الخوف من أن كل الأفكار الفلسفية الكبرى التي حاولت أن تتجلى في الواقع اليمني انهارت وتغربت كثيراً حتى انها لاتقوى على الانبثاق مجدداً ، بمعنى انها جراء عديد معوقات لم تستطع اثبات جدواها كما ينبغي من خلال مبادئ الحق والخير والجمال والحرية.. الخ ، فيما وجد حاملو تلك الافكار انفسهم بين رحى السلبية والنكوص ، أو التواري التغريبي المؤلم ، إذ لم تعد تهمهم مآزق العقل اليمني الذي صار يقع اليوم بين أسئلة الحاضر المخيفة ومآلات المستقبل الغامض دونما ثقة أو إدراك أو فاعلية معتبرة، كما صار الكثير من هؤلاء يعيشون كجزر معزولة فيما بينهم واجمين أو مستلبين فقط، بالإضافة الى انه لا كتلة علمية او نقابية تحميهم من الشتات أو توجه جهودهم بشكل معتبر بصفتهم على رأس النخبة، وبالتالي لهم أهمية قصوى في معركة التطور لاشك، مع العلم انه لاتوجد مجلة متخصصة ومحكمة حتى الآن تهتم بالدرس الفلسفي وكل مايتعلق به من شؤون التفكير وقضايا الفكر. غير أنني أتمنى من كل المهتمين بتفعيل النسق الفلسفي باعتباره مؤثرا فكريا اساسيا ضمن معطيات التحول المطلوبة في واقعنا الاجتماعي الذي اعاق احلام التنويريين كثيراً, العمل على احياء أفق التأسيس اليمني لتخصص الفلسفة الذي كان بنموذج بدايات الجامعة الأولى في البلد، مع الاخذ بالاعتبار أن الفلسفة هي ذلك العلم العقلاني الذي يغذي عملية التخفف من الجهل كما ينمي من عملية الاهتمام بالجدل، خصوصاً أن واقعنا الاجتماعي هو الأسوأ في تخلف نمطه التفكيري غير المشرف تجاه عديد قضايا معرفية تنعكس سلباً على مجمل اداءتنا الجمعية في الواقع من الأدب وحتى الاخلاق والسياسة بالطبع. [email protected]