إن حياة الإنسان بمثابة سلسلة من المخاوف: الخوف من الطبيعة.. الخوف من الفشل.. الخوف من المجهول.. الحاجة إلى الأمان.. ليس هناك من كلمة أخيرة في دراما الصراع البشري سوى ضرورة أن يؤمن الإنسان بالقيم، ويتمسك بالوفاء للحياة.. فالحياة قيمة وواقع معاش لا مجرد أحجبة أو ألغاز.. وتحويل القوة إلى فعل الخير.. فنحن لا نحقق ذواتنا لأنفسنا وبذواتنا فحسب، ولكن بالآخرين وللآخرين أيضاً.. وما الحياة إلا نشاط إنتاجي هادف إلى فضفضة قوانا الخاصة.. ولكن ترتبط قيمة الحياة بمعاني التضحية والبذل والعطاء بسخاء. ولذلك، اهتم الفلاسفة كثيراً بتفسير مشكلة الحياة، فيقول (أونامو) عنها: إننا لا نحيا إلا على متناقضات، ومن أجل متناقضات.. فليست الحياة إلا مأساة وصراع مستمر لا يعرف الانتصار، بل ولا حتى أمل الانتصار.. إنها التناقض، ولا شيء سوى التناقض.. ويقول (سينوزا): إن آخر ما يفكر به الإنسان الحر هو الموت.. لأن الحكمة لديه تكمن في تأكل الحياة.. لا الموت. فالحياة عبارة عن قالب فارغ علينا أن نملأه.. أو كما يقول (هوراس ولبول): إذا كانت الحياة ملهاة في نظر الإنسان الذي يفكر.. فإنها مأساة في نظر الإنسان الذي يشعر.. وبالتالي، يرى (بيتر فوست) أن الإنسان لا يجد الإشباع التام في الحياة.. ولا يجد الراحة النهائية في العقل. وقديماً قيل إن مباهج الحياة ثلاثة: اللعب، والضحك، والحب.. فالضحك ظاهرة إنسانية.. يضحك الإنسان لأنه يتألم.. تمل طبيعة البشر حياة الجد والصرامة والعبوس.. الفكاهة تخفف من أعباء الواقع عن كواهلنا.. الأصل في الضحك شعورنا بالتفوق والامتياز على الغير.. وفيه عناصر ثأر وانتقام.. وبالضحك نعالج هموم الحياة وآلامنا البشرية. لذلك، كان لقمان الحكيم يقول: “للضحك وقت وللبكاء وقت”.. ومهما قد تبدو بساطة هذه الحكمة.. إلا أنها تذكرنا بأن الوجود الإنساني في جوهره هو هذا الاستقطاب الحاد بين البكاء والضحك.. بين الآلام والآمال.. بين فلسفة الشقاء والسعادة.. وليس بمقدور الإنسان أن يتجاهل أحد هذين القطبين، أو أن يضغط على أحدهما لصالح بقاء الآخر.. وما دام الإنسان يحيا في عالم يسوده هذا التناقض، فسيظل وجوده مسرحاً خصباً لهذا التعارض الأليم بين الخير والشر.. بين الصواب والخطأ.. بين النجاح والفشل.. بين الضحك والبكاء.. ولو غاب هذا التناقض لما تمكنا من التفريق بينها.. ولما وجدت القيم والضمير.. ولا يمكن أن يصبح الخير - مثلاً- مجرد قانون من قوانين الطبيعة يمكننا تقبله.. والسبب في ذلك أن القيم لا توجد إلا بالقياس إلى الوعي البشري الذي يقابل بينها، ويحكم عليها، ويمارس حريته في قبولها أو رفضها.. ومن هنا، فإن الشر، والألم، والخطأ، والفشل، واليأس، والبكاء، هي عبارة عن الواجهة الخلفية للحياة.. وأن واجهتها الأمامية تحمل صور الخير، والسرور، والصواب، والنجاح، والأمل، والنشوة. من هذا المنطق أكد بعض علماء النفس إلى أن المهمة الأولى التي تقع على عاتق التربية هي تحقيق عملية التوازن بين إعاقة النمو، والعمل على تزايد النمو دون الإخلال المستمر بحالة التوازن.. ومفهوم التوازن له تاريخ عريق، فقد دعا (أفلاطون) إلى إقامة نوع من التوازن بين قوى الإنسان الثلاث: القوة الشهوانية، والقوة الغاضبة، والقوة الناطقة. حيث نجد أن الحياة البشرية تتركز في ثلاثة أنشطة هي: الفكر، والفعل، والقول.. فالعقل يعمل على (تعقيل) الحياة.. في حين تعمل الحياة على (إحياء) العقل.. لذلك لابد للإنسان أن يعمل كصاحب فكر، وأن يفكر كصاحب عمل. ولكن تكامل الإنسان مرهون بقدرته على التوازن الحركي، ولكن الحقيقة أن الحياة نفسها لابد أن تقوم على نوع من هذا الاتزان، أو الإيقاع، بين حالتين متعارضتين: الثبات والتغير، الأمن والمخاطرة، الضرورة والحرية.. فإذا انعدم الطراد والاستمرار، لما كان هناك قدر كاف من الثبات والانتظام في أي عملية، بحيث يتمكن الإنسان من الوقوف على التغير نفسه، ومن ثم الحكم عليه بأنه نافع أو ضار، أو أنه حافز على ارتقاء الحياة أو دافع إلى هدمها.. فالاتزان- كسمة أساسية تميز الإنسان عن غيره من المخلوقات- حالة عضوية ضرورية للاستمرار في البقاء، وشرط أساسي أيضاً لمواصلة النمو والارتقاء. كما أن الحب يعد صورة عميقة معقدة من صور الوصال البشري في الحياة.. يجمع كل ما في الوجود من متناقضات ويعيد صياغتها بأسلوب بديع.. وهو الذي يكشف لنا عن بذور الخير والطيبة والنقاء والجمال في كل مخلوق مهما كان تافهاً.. والحب يصقل النفس ويحلق بها عالياً.. الحب هو الحياة.. والحياة هي الحب.. بالحب نكتشف أن المرء لا يعيش ليموت، بل يضحي بنفسه ويموت ليعيش الآخرون.. الحب هو الذي يعلمنا أن الشمعة لا تحترق لتذوب، بل تتوهج لكي تضيء للآخرين.. الحب هو الذي يعلمنا أن الحياة هي البذل والعطاء، وأنها الفيض والسخاء، وبالحب يحول حياة الإنسان إلى ما يشبه الينبوع الذي يتدفق ويفيض.. فالمرء قبل الحب فرد.. وعند الحب شخص.. وبعد الحب شيء!. ونختم بالقول: إن الحب قيمة إنسانية كبرى، وهو سبب كاف لتبرير وجودنا، وبالحب نشارك الآخرين أفراحهم وآلامهم.. والمعنى الحقيقي للحياة البشرية هو المشاركة في حياة الكل، ولهذا لا حياة للبشر بدون المحبة.. وأجمل ما في الحب هو لذة العطاء.. لأن رسالة الحياة هي نداء يهيب بالشخص أن يبحث عن هويته، ويؤدي رسالته في الحياة، وهي ليست مهمة فردية، بل عمل جماعي، يتمحور مضمونها في أنك لا تشرع في الحياة إلا عندما تنسى حياتك.. وأن فهمنا للحياة يقتضي منا - بالضرورة- أن نتجاوز الحياة.. فليس هناك حل نهائي حاسم لمشكلة الحياة.. لأنها نسيج من المتناقضات.. ولكن دور القيم يفرض علينا الدفاع عن الحياة.. والدفاع عنها هو رفضنا لدعوى العبث.. ونقول لمن يشكو من قصر الحياة: إن العبرة بعمقها وليس بطولها، ولذا فلن يكون الإنسان إنساناً إلا إذا عرف كيف يقضي كل يوم من أيام حياته في اجتلاء الجمال، والبحث عن الحقيقة، والمضي في طريق الخير، والسعي نحو الكمال. [email protected]