رغم تسارع الأحداث وتوفر أفكار كثيرة للكتابة في هذه الظروف، إلا أنني آثرت الصمت طيلة الشهور الماضية، فثمة حيرة مصاحبة لزحمة الأفكار، وثمة وجع وغُصة مضافٌ إليهما كمية لا بأس بها من الإحباط؛ نتيجة لما يحدث وما يُتوقع حدوثه في ظل المؤشرات التي تبدو في أفق المشهد العام للبلد. في حوار مع شخصية سياسية لبنانية بثته إحدى الفضائيات تكلم الرجل عن قراءته للأحداث في تونس وليبيا ومصر وفي سوريا، وسرد توقعاته لمجريات الأحداث في تلك البلدان، رغم أن الوضع في بعض منها أسوأ مما هو حاصل في اليمن، غير أنه وقف معترفاً بحيرته وخانته كل القراءات في حال اليمن، وفي الأخير قال: إن الوضع في اليمن بين احتمالين هما: أن الأطراف السياسية في اليمن تلعب على الإقليم وتضحك عليه، أو أن الإقليم يضحك على اليمن واليمنيين ويتلاعب بهم. هنا تتضح ضبابية المشهد اليمني بصورة مؤكدة، ولكني أستبعد الخيار الأول، وأميل بقوة إلى الخيار الثاني، وهو أن هذا البلد صار ألعوبة بأيدي أطراف خارجية إقليمية ودولية.. على الأقل في كون تلك الأيدي والتدخلات تمنع التوصل إلى حلول توافقية ودائمة، فما يمكن التوصل إليه اليوم سيأتي من يخالفه في الغد ويلتف عليه وينسفه من جذوره. ليس هناك من دليل أكثر من الخلاف على مخرجات الحوار التي رقصنا لها طرباً وقلنا بأننا قد توافقنا عليها بالإجماع، وسارت الأمور إلى غير مسارها الطبيعي والمنطقي الذي حددته مخرجات الحوار الوطني. ثم إن الغريب في الأمر أننا نسمع جميع الأطراف تتحدث عن هذه المخرجات بقناعة مطلقة، ثم إنهم جميعاً يتراشقون بالتهم والمسؤولية عن محاولات الالتفاف على هذه المخرجات.. وهو ما يدل على وجود تفسيرات متعددة لنصوص تلك المخرجات المكتوبة بلغة عربية واضحة، أو وجود مشكلة في الفهم عند البعض، وفي الحالتين هناك مشكلة على أرض الواقع انعكست في كل الجوانب. لماذا لم تنجح مخرجات الحوار المسمى بالوطني الشامل في وضع حد للخلافات حولها وحول تنفيذها على أرض الواقع طالما وافق عليها الجميع واتفقوا؟ هذا هو مبعث الحيرة أولاً قبل كل شيء. التحليلات لم تعُد تُجدي في هذا الوضع، وبصراحة أقولها: لقد أشكل الوضع اليمني علينا - وعلى غيرنا بكل تأكيد - فمن ناحيتي أنام وقد تكونت لديَّ صورة من جملة قراءات ومتابعات، حتى يبدو لي بأني قد فهمت سيناريو الأحداث، وعندما أستيقظ في الصباح الباكر أجد أحداثاً جرت والناس نيام فتنسف ما كنت أحسب أنني قد فهمته.. ومن صباح الله أبدأ رحلة جديدة أقتفي أثر اللعبة والأحداث وأحاول صناعة فكرة أو رسم صورة لعلّي أستطيع فهم ما يجري، وبمجرد أن أمسك بخيوط الفهم تنقطع وتضيع مرة أخرى. لا أخجل من اعترافي بهذه الحقيقة وهي أن الخيوط قد تشابكت واختلطت الأوراق، ولم أعد أقدر على فك طلاسم هذه اللعبة التي عرفنا بعضاً من أطرافها وافترضنا أطرافاً أخرى وجدنا آثارهم واضحة للمراقب المتأمل والقارئ اللبيب. كل ما أستطيع قوله هو أنني لست الوحيد الذي تاهت عليه خيوط اللعبة، فثمة أناس لهم باع وذراع وأكثر من ذلك في السياسة وألاعيبها، لكنني لمست منهم ما يوحي بأن الألاعيب قد تشابهت عليهم ،واختلط حابل السياسة بنابلها عندهم. وفي كل الأحوال لا نريد شيئاً سوى أن نقول لمخرج هذه اللعبة ومساعديه في الداخل والخارج: نريد المشهد الأخير، فقد أرهقتنا المشاهد الكثيرة والمتغيرة والمتناقضة كثيراً.. نريد أن نستقر على حال ويكفينا صداع وحيرة، يكفينا تقلبات مناخات الأزمة المسببة للكثير من الأوجاع. وبالتأكيد نريد النهاية التي لا يموت فيها البطل بصورة غامضة وسخيفة؛ فالوضع لن يتوقف عند مجرد موت البطل، ولعل موته يدخلنا في فصل جديد لا نقوى على متابعته. نريد النهاية التي تُريحنا جميعاً بعد سنين من اشتداد الأعصاب، وبعد كل الخسائر المادية والبشرية التي دفعناها طول مدة هذا الفيلم، وكفى!.