إلى أمام سكنه وبين أهله وفي منتصف نهار بعاصمة مسكونة بالخوف والقلق؛ جاءت رصاصة الغدر لتجدّد في أيامنا حضور الجريمة ولتذكّرنا وقد غفلنا أو شغلنا بأعلام المجد الزاحف حثيثاً إلى فجر يمن يخرج من ليل القتلة وإن غنّت صنعاء بنغم حزين: “يا قافلة عاد المراحل طوال”. هكذا رحل الثائر والمناضل عبدالكريم الخيواني في نهار صاخب بذكرى الكرامة, ومكانٍ قريب من دماء اشتاقت إلى حياة جديدة تنبعث ثانية وفي الذكرى الرابعة ل«جمعة الكرامة» من نبض شهيد وعزم إنسان أدمى الحياة صموداً في وجه القمع والسجن والاضطهاد والمصادرة المتزايدة للحرية والحقوق, وللحياة والوجود الكريم على أرض الوطن وتحت سمائه التي تزيّنت لتضيف إلى شهبها ومضاً من ذات النور الذي أضاء حياتنا النضالية بمن سبقوا عبدالكريم الخيواني في سجل ابتدأ بالحريبي وتعزّز بجار اللّه عمر واستدار كهيئته يوم انتفض الشعب اليمني بالثورة والكفاح, فكان المتوكل وهجاً أضاء الطريق لدم جديد, فالصاعدون من دمائهم إلى ذُرى الكرامة يستبشرون بالخيواني شاهداً وشهيداً. لعلّي معني بدموع تبكي في الخيواني: إنساناً تسلّح بالإيمان والشجاعة التي لا تهاب الخطر ولا تخشى الغدر, وكان حتى آخر قطرة دم روت درب الكرامة على إنسانيته كحقيقة وحيدة عاشها بنفسه ولشعبه بتواضع كريم ونبل أصيل, وقد سنحت له الفرصة ووافته القدرة على أن يتبختر في الأرض مطوّقاً بالحرّاس محاطاً بالمسلّحين, لكنه أبى أن يحتمي بغير إنسانيته وأن تحرسه قوّة غير القيم والمبادئ التي آمن بها وأخلص لها القول والفعل ووهب لها النفس والجهد ولم يبخل عليها بالبذل والتضحيات, راضياً أن يعيش محروماً من رضي السلطان مطروداً من نعمته وهدفاً لغضبه ونقمة جلاديه والسجون. قال كلمته ومضى بها في فضاء القول منفرداً بالجرأة والسبق, وانتمى لهذه الكلمة وهي سلاحٌ في مواجهة بغي السلطة وجور السلطان كما هي نور يضيء للناس سبيل الحرية والعزة والكرامة, كما انتمى إليها وهي شعور في النفس ووهج في الروح ينساب بين الحنايا عاطفة جيّاشة بجميل الشعر وجمال الإبداع, وقد كتب الخيواني حياته بحبر القلب وصلابة الموقف وقوّة الإيمان بالنصر والخلاص, واختتم الرحلة المتألقة بأمجاد الثورة والكفاح بذات الحبر المسفوح هذه المرة بيد الغدر لا بيده, وعلى بياض الأرض لا الورق, وبرصاص القتل لا قلم الكاتب والقدير والصحافي الماهر والشاعر والإنسان. لم يذهب القتلة إلى مواقع القتال وإلى قلاع المسلّحين بالحراس والبنادق؛ وإنما سوّلت لهم أنفسهم المريضة بعار الجبن وخزي الغدر أن يذهبوا إلى رجل أعزل ومناضل في سبيل المدنية ضد العنف والسلاح, فوجدوه قريباً من سكنه, وخارجاً من متجر غادره قبل لحظات وبيده بعض مثلجات عاجلته رصاص الجبناء قبل أن يكملها وأرداه الغدر قبل أن يبادر القتلة بالتحيّة والسلام, ويقول لهم كما كان صوته الشجاع ينتصر للضحايا والمظلومين: إن كان دمي سيحرّركم من أغلال الغدر ويخرجكم من ظلمات القتل, فخذوه هبة منّي فداءً لشعب مغدور ووطن مقهور. ذات لقاء, اقترب مني في لقاء جمعنا حول نشاط ثقافي, وهمس في أذني برقّة وحنان: لماذا تهتم كثيراً بالكتابة حول القضايا القومية ولا تهتم إلا نادراً بقضايانا الوطنية..؟! وأردف مشجّعاً ومقدّراً: إن الوطن أولى بك وبحاجة إلى قلمك, أكبرت له الشعور الجميل نحوي, وحرصه على ألا يسمع غيري انتقاده لي. فقلت له بكل اعتزاز: أيها المناضل النبيل؛ إن الوطني لا ينفصل عن القومي, وحين وجدت ما يكفي من الأقلام المنشغلة بالوطني, أردتُّ أن أستحضر القومي بكل ما له من ارتباط عضوي بقضايا يمنية. ذهبتُ إليه منكسراً بخجلي من تقصيري في زيارته إلى السجن وتضامني معه, فتقدّمت إليه لأعتذر فإذا به ينهض من مكانه في غرفة المقيل المكتظة بالمهنئين بخروجه من السجن, مرحّباً بي، مبادراً إلى تقديم الشكر على مقالات كتبتها تضامناً معه ومنتصراً لحقّه في الحرية وفي سيادة القانون وعدل القضاء, فأكبرت هذا النُبل والجمال في خُلق الكريم عبدالكريم, معتذراً عن تقصيري الكبير في حق زيارته إلى السجن, وهو التقصير الذي أعتذر منه مجدّداً في حضرة الصعود الجديد لدم الشهيد. لقد خسر النضال الوطني شجاعة الخيواني وجُرأته في قول الحق وصلابته في الانتصار للحرية والكرامة والسلام, كما خسرت الكلمة فارساً كبيراً من فرسان الانتماء إليها والإيمان بها والإخلاص لقيمتها والإبداع في فنون التعبير عنها نثراً وشعراً, كتابةً وصحافةً, وإن الخيواني وقد حلّق بنا في سماوات الانتماء الصادق للإنسان والأوطان, يقدّم بصعوده الجديد إلى ذُرى الكرامة مثلاً أعلى للمناضل والثائر والمعارض والمواطن والمتمسُّك بإنسانيته في البقاء واحداً من الناس وبينهم بكل احترام وسلام. وستكون خسارتنا كيمنيين وكزملاء حرف ورفاق درب أفدح إذا علمنا أن الراحل شهيد كان من موقعه في الإطار السياسي لجماعة «أنصار الله» عنوان أمل بالحكمة والعقل ومصدر ثقة بتغليب منطق الحوار وخيار السلام, ولعل الجبناء ممن يتربصون باليمن, الأرض والإنسان شرّاً مستطيراً قد أدركوا هذا فأخرجوا مما تخفيه صدورهم من حقد وغدر رصاصات أودت بحياة الخيواني وأرتنا بدمه صعوداً مجيداً إلى ذرى الكرامة في زمن الغدر وفحش الجريمة والإجرام. [email protected]