- د. عمر عبد العزيز منذ أن دخل الإنسان عالم الملكية الخاصة والدولة ، تأثر الفن بالمجتمع تأثراً يتزايد بقدر تزايد نفوذ الدولة والملكية الخاصة ، فالدولة بحسب تعريفات علماء الانثربولوجيا جاءت عطفاً على نشوء التقسيم الاجتماعي للعمل والذي أفضى إلى أن يتمكن البعض من توفير حاجات الآخرين جراء الفيض الإنتاجي في الزراعة أو الاصطياد وغيرها من أنواع النشاط الإنتاجي الحيوي ، هذا النوع من التكامل في الحاجات ميّز التقسيم الاجتماعي للعمل ، كما انسحب على نظام التبادل البسيط الذي كان يرضي مختلف الأطراف ولا يتسم بأية درجة من الاستغلال أو إجبار الآخرين على العمل نيابة عن المتنفذين ، كما حدث في الطور اللاحق عندما نشأت العملة بوصفها مستودعاً معيارياً للقيم المادية ، ثم وسيطاً للتبادل . تلك المقدمات المادية التاريخية مهّدت لنشوء ما يمكن تسميته بنظام ( التكديس ) للقيم المادية ، وتركيز تلك القيم في أيدي البعض ، وكان عليهم تبعاً لذلك أن يؤمّنوا تلك الثروات عبر تنظيم قامع تسمى لاحقاً بالدولة . فالدولة التاريخية لم تكن إذاً سوى تعبير عن مؤسسة القوة المالية والاقتصادية ، وقد اتّسمت بقدر كبير من العنفوان والقمع ، كما استفادة من مختلف المناحي المادية والروحية لتأمين سيطرتها بما في ذلك القيم الدينية . وكان الفن اللاحق لنشوء الدولة و آلياتها التاريخية محكوماً بالمرجعية التي ترتئيها تلك الدولة ، فالفنان الفلورنسي في إيطاليا في القرن الثاني عشر لم يكن بمقدوره تجاوز تعليمات الدولة الإقطاعية والمرجعية الكنسية ، فقد كان عليه أن يرسم النبلاء الإقطاعيين ، وان يعيد إنتاج النصوص الواردة في العهدين القديم والجديد من الكتاب المقدس ، وقد أدرك الفنان النهضوي الإيطالي هذه اللعبة وتماهى معها ولم يتجاوز نواميسها وأعرافها . حقاً إن البعض استخدم الدهاء الفني والمناورات البصرية الذكية للذهاب بعيداً إلى أحوال الواقع ، ولكن بطريقة شفيفة ما ورائية ، فقد كان بمقدورنا أن نلحظ في بعض أعمال تلك الفترة التشكيلية ملامح لأحوال مجتمعية تظهر كخلفيات باهتة للوحات القصور النبيلة ، وبورتريهات سدنة تلك القصور . هل كانت لعبة الفن الحديث تجد أصلها العميق في تلك المراحل المتقدمة من فنون التصوير الزيتي ؟ أم أنها مقطوعة الجذر بالماضي البعيد ؟ . المتتبع لتاريخ فن التصوير سيجد أن الأصل كان ومازال حاضرا ، غير أن الجديد الذي جاءت به المرحلة البرجوازية من التطور التاريخي لأوروبا كان اكبر واشمل في افق التماهي مع لعبة الدول والأمم بالمعاني الأيديولوجية ، فلم ينعتق الفن من نفوذ تلك القوى المهيمنة ، بل حاول المناورة عليها قدر الإمكان ، لكن الغالبية العظمى من الفنانين استسلموا لنواميس اللعبة ، وحاولوا البحث عن منزلة بين المنزلتين ، فقدموا فناً خالصاً ، ولكن بقدر وافر من الانتماء للمنظومة المؤسسية التاريخية التي كانت سائدة . [email protected]