نقابة الصحفيين تدعو إلى سرعة إطلاق الصحفي المياحي وتحمل المليشيا مسؤولية حياته    الوزير الزعوري يهنئ العمال بمناسبة عيدهم العالمي الأول من مايو    حروب الحوثيين كضرورة للبقاء في مجتمع يرفضهم    عن الصور والناس    أزمة الكهرباء تتفاقم في محافظات الجنوب ووعود الحكومة تبخرت    الأهلي السعودي يقصي مواطنه الهلال من الآسيوية.. ويعبر للنهائي الحلم    إغماءات وضيق تنفُّس بين الجماهير بعد مواجهة "الأهلي والهلال"    النصر السعودي و كاواساكي الياباني في نصف نهائي دوري أبطال آسيا    البيض: اليمن مقبل على مفترق طرق وتحولات تعيد تشكيل الواقع    اعتقال موظفين بشركة النفط بصنعاء وناشطون يحذرون من اغلاق ملف البنزين المغشوش    رسالة إلى قيادة الانتقالي: الى متى ونحن نكركر جمل؟!    غريم الشعب اليمني    الوجه الحقيقي للسلطة: ضعف الخدمات تجويع ممنهج وصمت مريب    درع الوطن اليمنية: معسكرات تجارية أم مؤسسة عسكرية    مثلما انتهت الوحدة: انتهت الشراكة بالخيانة    جازم العريقي .. قدوة ومثال    تسجيل عشر هزات ارضية خلال الساعات الماضية من البحار المجاورة لليمن    دعوتا السامعي والديلمي للمصالحة والحوار صرخة اولى في مسار السلام    العقيق اليماني ارث ثقافي يتحدى الزمن    إب.. مليشيا الحوثي تتلاعب بمخصصات مشروع ممول من الاتحاد الأوروبي    مليشيا الحوثي تواصل احتجاز سفن وبحارة في ميناء رأس عيسى والحكومة تدين    معسرون خارج اهتمامات الزكاة    منظمة العفو الدولية: إسرائيل ترتكب جريمة إبادة جماعية على الهواء مباشرة في غزة    تراجع أسعار النفط الى 65.61 دولار للبرميل    نقابة موظفي الأرصاد بمطار عدن تعلن بدء الإضراب احتجاجًا على تجاهل مطالبها    الدكتوراه للباحث همدان محسن من جامعة "سوامي" الهندية    نهاية حقبته مع الريال.. تقارير تكشف عن اتفاق بين أنشيلوتي والاتحاد البرازيلي    الاحتلال يواصل استهداف خيام النازحين وأوضاع خطيرة داخل مستشفيات غزة    الصحة العالمية:تسجيل27,517 إصابة و260 وفاة بالحصبة في اليمن خلال العام الماضي    الحكومة تعبث ب 600 مليون دولار على كهرباء تعمل ل 6 ساعات في اليوم    "كاك بنك" وعالم الأعمال يوقعان مذكرة تفاهم لتأسيس صندوق استثماري لدعم الشركات الناشئة    لوحة "الركام"، بين الصمت والأنقاض: الفنان الأمريكي براين كارلسون يرسم خذلان العالم لفلسطين    البحرية الامريكية تعلن سقوط مقاتلة في البحر الأحمر وسنتكوم تؤكد استمرار الحملة العسكرية في اليمن    اتحاد كرة القدم يعين النفيعي مدربا لمنتخب الشباب والسنيني للأولمبي    صنعاء .. حبس جراح واحالته للمحاكمة يثير ردود فعل واسعة في الوسطين الطبي والقانوني    صنعاء .. حبس جراح واحالته للمحاكمة يثير ردود فعل واسعة في الوسطين الطبي والقانوني    النقابة تدين مقتل المخرج مصعب الحطامي وتجدد مطالبتها بالتحقيق في جرائم قتل الصحفيين    تسجيل 4 هزات أرضية جديدة من خليج عدن    رئيس كاك بنك يعزي وكيل وزارة المالية وعضو مجلس إدارة البنك الأستاذ ناجي جابر في وفاة والدته    اتحاد نقابات الجنوب يطالب بإسقاط الحكومة بشكل فوري    مئات الإصابات وأضرار واسعة جراء انفجار كبير في ميناء بجنوب إيران    برشلونة يتوج بكأس ملك إسبانيا بعد فوز ماراثوني على ريال مدريد    الأزمة القيادية.. عندما يصبح الماضي عائقاً أمام المستقبل    أطباء بلا حدود تعلق خدماتها في مستشفى بعمران بعد تعرض طاقمها لتهديدات حوثية    افتحوا ملفات رياض الجهوري.. عميل القاعدة ورفيق الإخوان    السوبرمان اليهودي الذي ينقذ البشرية    لتحرير صنعاء.. ليتقدم الصفوف أبناء مسئولي الرئاسة والمحافظين والوزراء وأصحاب رواتب الدولار    غضب عارم بعد خروج الأهلي المصري من بطولة أفريقيا    علامات مبكرة لفقدان السمع: لا تتجاهلها!    حضرموت اليوم قالت كلمتها لمن في عينيه قذى    القلة الصامدة و الكثرة الغثاء !    عصابات حوثية تمتهن المتاجرة بالآثار تعتدي على موقع أثري في إب    حضرموت والناقة.! "قصيدة "    حضرموت شجرة عملاقة مازالت تنتج ثمارها الطيبة    الأوقاف تحذر المنشآت المعتمدة في اليمن من عمليات التفويج غير المرخصة    ازدحام خانق في منفذ الوديعة وتعطيل السفر يومي 20 و21 أبريل    يا أئمة المساجد.. لا تبيعوا منابركم!    دور الشباب في صناعة التغيير وبناء المجتمعات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



العرب العاربة .. العرب البائدة قبل وبعد الطوفان
هذا هو تاريخ اليمن (الإرهاص)
نشر في الجمهورية يوم 01 - 12 - 2006


د. عبد الله علي الكميم
تناولت موضوع اللغة، والكتابة من حيث النشأة في المجلد الأول من مؤلفي هذا، ولكني مررت عليها مرور الكرام، وأجَّلت الخوض فيها بإسهاب لهذا الذي خصصته للغة اليمنيين وكتاباتهم التي أعتبرها كما يعتبرها الكثير من العلماء والكتاب وفي مقدمتهم العقاد أصل لغات الساميين وكتاباتهم، وهي لغة القرآن، وخط المسند هو خطه أيضاً كما ستثبت هذه الدراسة، إن شاء الله.
وسأتناول هنا معنى اللغة والكلمة مستعيناً بأهم المراجع المتيسرة مرتبة زمنياً ما أمكن.
ووهب بن منبه هذا هو الذي قرأ في اليمن ثلاثة وتسعين كتاباً مما أنزل الله على أنبيائه ورسله، وفي بعض الروايات أنه قرأ مائة وثلاثة وستين كتاباً، وهي الكتب التي أنزلها الله تعالى على جميع الأنبياء والرسل.
وقال عبيد بن شرية في رده على سؤال لمعاوية بن أبي سفيان الذي نصه: سألتك ألا خبرتني بما تكلم يعرب أو ما تكلم؟ قال: يا أمير المؤمنين ذكر اسم ربه عند نزوله بالعربية، وتكلم شعراً بها بعده ولده، قال معاوية: اذكر الشعر الذي قاله يعرب، قال عبيد: قال يعرب:
لست بنكال ولا مؤمل
أنا ابن قحطان الهمام الأقيل
بالمنطق الأبين غير المشكل
والمبتدئ باللسان المسهل
نحو يمين الشمس في تمهل
برزت والأمة في تبلبل
قد جاءنا نوح بقول فيصل
وتقهر الأمة في تفضل
لابد في عقب الزمان الأطول
ونوح جد للجدود الأول
بالنحو والإعراب والتنزل
غيركم ينطق بالمرسل
قال معاوية: فمن شخص بعد يعرب؟ قال: عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح حتى جاوره (وهنا وقع عبيد في خطأ إذ أخر عاداً وجاء بيعرب قبله، والمعروف أن عاداً قبل يعرب بعدة أجيال فيعرب بن قحطان، وقحطان بن هود، وهود هو رسول الله إلى عاد، ففي الكلام خطأ فاضح) وهذا من أجل توضيح السياق العام لأنساب أبناء قحطان، أما نظرية تبلبل الألسن والنزوح أولاً من العراق إلى اليمن فقد سقطت علمياً، وثبت علمياً كذلك أن اليمن هي المهد الأول للساميين وللإنسان العاقل وللعرب أجمعين أكتعين أبصعين، ولذلك فقد بعث الأنبياء والرسل أول ما بعثوا إلى اليمن، ومن اليمن نزح الساميون، ومنهم العرب الفراعنة، والبابليون، والآراميون والكنعانيون وغيرهم، قال معاوية: فما صار إليه شأنه (يعني عاداً) وبما أنطقه الله؟ قال عبيد : لما توجه إلى ما قبل يعرب تكلم بكلام يعرب (أي العربية) قال: فهل نطق بشيء من الشعر؟ قال: نعم كثير. قال: فاذكر بعض ما ذكره فإنا نرويه، قال عبيد: سأذكر لك من كل شيء سببا قال: لما استقر بعاد قراره أنشأ يقول:
ذو العز والقوة والسداد
إني أنا عاد الطويل النادي
يا قوم أجيبوا صوت ذا المنادي
والبطش والأموال والأولاد
من غير ما شخص ترون بادي
فقد سمعتموه إذ ينادي
فسرت بالطارف والتلاد
ففيه عبرة لذي السداد
قد قال نوح خيركم أولادي
حتى هللت بالهمام عادي
من ولد عوص الفرد ذي الميعاد
عاد المعادي غالب الأعادي
وحل عاد بالأحقاف، ثم شخص بعده ثمود بن عابر بن إرم بن سام بن نوح في وادي صنعاء ليعرب حتى حل في جهتهم وتكلم بكلامهم .
أما الهمداني فقد أورد نصاً مهماً يثبت أن الكتابة بالعربية المتينة (عربية اليوم) (قد وجدت على قبر هود عليه السلام، وذلك في رد الرجل الحضرمي على سؤال لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه، الذي وجه إليه هذا السؤال وقد يكون المقصود هنا المسند أصل اللغة المتينة):
أعالم أنت بحضرموت؟ قال: إذا جهلتها فما أعلم غيرها. قال: أتعرف موضع الأحقاف؟ قال: كأنك تسأل عن قبر هود؟
قال علي: لله درك ما أخطأت. قال: نعم. خرت وأنا في عنفوان الشباب في أغلمة من الحي ونحن نريد أن نأتي قبره لبعد صوته فينا وكثرة من يذكره فسرنا في وادي الأحقاف أياماً، وفينا رجل قد عرف الموضع حتى انتهينا إلى كثيب أحمر، فيه كهوف مشرفة، فانتهى بنا ذلك الرجل إلى كهف منها فدخلناه ، فأمعنا فيه، فانتهينا إلى حجرين قد أطبق أحدهما دون الأخرى، وبينهما خلل يدخل فيه النحيف تجانفاً، فدخلته فرأيت رجلاً على سرير شديد الأدمة، طويل الوجه، كث اللحية، قد يبس على سريره، وإذا مسست شيئاً من جسده أصبته صلباً لم يتغير، ورأيت عند رأسه كتابة بالعربية: (أنا هود الذي آمنت بالله وأسفت على عاد لكفرها، وما كان لأمر الله من مرد) . وأورد ابن خلدون مجموعة من النصوص عن عروبية عاد وثمود وحمير، فقال عن تداول الملك وانتقاله من شعب إلى آخر: واعتبر هذا بما وقع في العرب، لما انقرض ملك عاد قام به من بعدهم إخوانهم من ثمود، ومن بعدهم إخوانهم العمالقة، ومن بعدهم إخوانهم من حمير (لاحظ أنه لم يقل من سبأ لأن الحكم كان في حمير بعد وفاة أبيه سبأ، واستمر في حمير حتى أفل نجم الحضارة اليمنية، وهنا مسألة خلافية لا تزال مثار بحث من قبل المؤرخين)، ومن بعدهم إخوانهم التبابعة من حمير أيضاً ومن بعدهم الأذواء.
وفي مكان آخر يقول ابن خلدون: فالفرس طالت مدتهم آلافاً من السنين، وكذلك القبط، والنبط، والروم، وكذلك العرب الأولى من عاد وثمود والعمالقة والتبابعة طالت آمادهم ورسخت الصنائع فيهم فكانت مبانيهم وهياكلهم أكثر عدداً وأبقى على الأيام أثراً، واستبصر في هذا تجده كما قلت لك، والله وارث الأرض ومن عليها. وقال في موضع ثالث: وأما اليمن والبحرين وعمان والجزيرة وإن ملكه العربة إلا أنهم تداولوا ملكه آلافاً من السنين في أمم كثيرة منهم، واختطوا أمصاره ومدنه، وبلغوا الغاية من الحضارة والترف، مثل عاد وثمود والعمالقة وحمير من بعده والتبابعة والأذواء، فطال أمد الملك والحضارة، واستحكمت صيغتها وتوفرت الصنائع ورسخت فلم تبل ببلى الدولة كما قدمناه، فبقيت مستجدة حتى الآن. واختصت بذلك للوطن، كصناعة الوشي، والعصب، وما يستجاد من حوك الثياب والحرير فيها.
والله وارث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين
وفي تاريخ ابن خلدون وردت النصوص التالية:
قال الطبري: وفهم الله لسان العربية عاداً، وثمود وعبيل وطسماً وجديساً وأميم وعمليق وهم العرب العاربة وربما يقال: أن من العرب العاربة يقطن أيضاً.
وقال: (وأعلم أن جيل العرب بعد الطوفان وعصر نوح عليه السلام كان في عاد الأولى وثمود والعمالقة وطسم وجديس، وأميم وجرهم، وحضرموت، ومن ينتمي إليهم من العرب العاربة من أبناء سام بن نوح، ثم لما انقرضت تلك العصور وذهب أولئك الأمم وأبادهم الله بما شاء من قدرته، وصار هذا الجيل في آخرين ممن قرب من نسبهم من حمير وكهلان، وأعقابهم من التبابعة ومن إليهم من العرب المستعربة .
وتحت عنوان الطبقة الأولى من العرب. وهم العرب العاربة، وذكر نسبهم والإلمام بملكهم ودولهم على الجملة، قال ابن خلدون: هذه الأمة يعني (عاداً) أقدم الأمم من بعد قوم نوح، وأعظمهم قدرة، وأشدهم قوة وآثاراً في الأرض، وأول أجيال العرب من الخليقة فيما سمعناه، لأن أخبار القرون الماضية من قبلهم يمتنع اطلاعنا عليها لتطاول الأحقاب، ودروسها، إلا ما يقصه علينا الكتاب، ويؤثر عن الأنبياء بوحي الله إليهم، وما سوى ذلك من الأخبار الأولية فمنقطع الإسناد، ولذلك كان المعتمد عند الإثبات في أخبارهم ما تنطق به آية القرآن في قصص الأنباء الأقدمين، أو ما ينقله زعماء المفسرين في تفسيرها من أخبارهم.
وقال في مكان آخر: هؤلاء العرب العاربة شعوب كثيرة، وهم عاد وثمود وطسم، وجديس، وأميم، عبيل، وعبد ضخم، وجرهم، وحضرموت، والسلفات.
وسمي أهل هذا الجيل العرب العاربة إما بمعنى الرساخة في العروبية كما يقال: ليل أليل، وصوم صائم، أو بمعنى الفاعلة للعروبية والمبتدعة لها بما كانت أول أجيالها.
فأما عاد وهم بنو عاد بن عوص بن إرم بن سام فكانت مواطنهم الأولى بأحقاف الرمل بين اليمن وعمان إلى حضرموت، والشحر، وكان أبوهم عاد فيما يقال أول من ملك من العرب وطال عمره وكثر ولده.
أما المؤرخون المحدثون فيأتي في مقدمتهم الدكتور المرحوم جواد علي، الذي قدم دراسة مفصلة عن طبقات العرب وعن عاد وعروبتها فقال: اتفق الرواة وأهل الأخبار أو كادوا يتفقون على تقسيم العرب من حيث القدم إلى طبقات: عرب بائدة، وعرب عاربة، وعرب مستعربة، أو عرب عاربة، وعرب متعربة، وعرب مستعربة، أو عرب عاربة وعرباء وهم الخلص، والمتعربة.
واتفقوا أو كادوا يتفقون على أن القحطانيين هم عرب منذ خلقهم الله على هذا النحو من العربية التي نفهمها، ويفقهها من يسمع هذه الكلمة فهم الأصل، والعدنانية الفرع منهم أخذوا العربية، وبلسانهم تكلم أبناء إسماعيل بعد هجرتهم إلى الحجاز، شرح الله صدر جدهم إسماعيل فتكلم بالعربية بعد أن كان يتكلم بلغة أبيه، التي كانت الآرمية أو الكلدانية أو العبرانية على بعض الأقوال. (هذا على أساس أن إبراهيم لم يكن من كَلَد اليمن بيافع). بل إنه لكذلك فهو من يافع عليه السلام
وأضاف: وجماع العرب البائدة في عرف أكثر أهل الأخبار هم عاد وثمود، وطسم، وجديس وأميم وجاسم وعبيل وعبد ضخم وجرهم الأولى والعمالقة وحضور، هؤلاء هم مادة العرب البائدة وخامها، وهم أقدم طبقات العرب على الإطلاق في نظر أهل الأخبار.
ويقف الأستاذ: محمد نجيب البهبيتي في مقدمة المدافعين عن عروبية عاد وثمود، وعن صحة الشعر العربي اليمني القديم المنسوب إلى عاد وثمود وقحطان وأحفاده في مقدمتهم حمير، وبالذات ذلك الذي تضمنته الكتب الثانوية أو الصغيرة، وهي الكتب التي لم تهمل فقط، بل وشوهت وأسيء فهمها باعتبارها كما زعم البعض أساطير وحكايات خرافية، بينما هي في نظر البهبيتي وأمثاله من علماء الأمة النابهين - وفي نظرنا كذلك- ذات قيمة علمية وتاريخية عظيمة، وهي من أهم مصادر التاريخ العربي اليمني بالذات، إذ لا يمكن أن تأتي من فراغ وإنما هي تاريخ ممزوج بقصص وحكايات شعوب قدمت الكثير من العطاء للإنسانية، وعكست واقع تلك الشعوب صانعة الحضارة ومالكة زمام الكلمة، إذ لا يعقل أن تأتي قصص أمة من الأمم دون أن تكون هنالك مصادر مكتوبة ومتداولة على أيدي الناس من جيل إلى جيل، وبالذات تلك التي صنعت الحضارات.
ولشد ما أدهشتني تلك الإلمامة العبقرية، بل أقول النظرية التي جاء بها البهبيتي حيال ملحمة (جليجامش) إذا اعتبرها معلقة العرب الأولى ونسبها إلى أحد القادة اليمنيين العظماء (أعني ذا القرنين) الذي آتاه الله من كل شيء سببا، فأتبع سببا، وقال عنها: وفي كتاب تاريخ الشعر نظرت في (جلجامش) باعتبارها قصيدة عربية وثمرة عربية، لا هي عراقية، ولا هي مصرية، وإنما هي عربية بنفس أمة جليلة في واحد من أبنائها فقدمها إلى العرب تقديماً جديداً بوصفها (ملحمة شعرية) صدرت عن الأمة العربية أول ما صدرت ملحمة عن أمة، فقدمت بذلك صورة من صور التعبير الإنساني، تابعتها فيها شعوب جاءت بعدها، فأخذتها عنها، ووفقت يومها عندما قال الأوروبيون عنها، من أنها قد ترجمت إلى اليونانية في قصة هرقل، ولكني كنت أشعر أن من وراء ذلك أشياء كثيرة أكبر من كونها (ملحمة شعرية) بناها خيال أمة وتاريخها.
ويسترسل قائلاً: ثم كانت أمامي فرصة أخرى كانت روحي تهفو إلى اقتناصها، وهي الاتصال باللغة التي كتبت فيها هذه القصيدة، لقد كنت أثق أنها عربية، وأنها لهذا تقدم لي مرحلة من مراحل صور العربية في طريق نموها وتكونها، فانطلقت إليها لا ألوي، لقد كان القرآن الكريم يتحدث عن حضارة (عاد) وعن عروبتها العرباء، وكان مؤرخونا يرددون أقوال سالفيهم عن حضارة عاد وكانت المفاصل التي تنتهي بها كثير من أسماء ملوك المنطقة في العراق خاصة تنتهي بهذا الفصل، وعاد كانت تتحدث العربية العرباء فلا غرابة في أن تكون هذه القصيدة عربية اللغة أصيلة في عروبتها، ثم كان (حمورابي) وموجته عربيين جاءوا من الجزيرة العربية مجددين لتاريخ أمتهم ولدمها في العراق.
لأنه متيم بحب قومه، وعارف بتاريخ أمته، عالم بمعنى التاريخ، وملم بما تعرض له تاريخ الأمة المتمثل في تاريخ اليمن القديم، باعتبار اليمن مهد العرب ومنبعهم، وميدان حضارتهم ومنبت الساميين، أقول: لأن البهبيتي يعرف هذا كله وغيره مما تعرض له تاريخ اليمن، من تجاهل وتشويه ومسخ من قبل بعض التنابلة أمثال ابن سلام الجمحي ومن قبله ابن العلاء، ومن بعدهما حامل لوائهما طه حسين، في القرن العشرين، الذي تولى كبر المسألة، فإن البهبيتي قد وقف مدافعاً ومبيناً بعلمه وجهده الوجه الحقيقي للتاريخ اليمني الناصع العظيم، ويقول لأولئك الجهلة كفاكم إثماً أن تقولوا عن تاريخ الأمة في فجره المشرق ما لا تعلمون، والله تعالى قد بين بما فيه الكفاية مدى عظمة ذلك التاريخ، والقدر الذي بلغه ذلك الإنسان العبقري الحصيف صانع تلك الحضارة قبل كل الناس في غسق فجر الإنسانية وفي دياجير ظلام الآخرين!!
أقول: لأنه كذلك وأكثر فإنه لم يقف عند حدود إعادة قراءة وتحليل ملحمة (جلجامش) والغوص في أعماقها، والبحث في أحشائها عن مكوناتها ومكنوناتها، وطرح تصوره الفذ عنها وعن صاحبها الحقيقي، وأنه ذلك الفاتح اليمني العظيم (ذو القرنين) الذي آتاه الله من كل شيء سببا، فأتبع سببا.
إن البهبيتي لا يكتفي باكتشاف أغوار ملحمة كلكامش والوقوف عند تخومها، ولكنه يأتي بما هو أعظم من ذلك، وأبعد أثراً وأكثر إثارة، إذ يذهب بنا بعيداً بعيداً، ولأول مرة يكتشف أن اليمانيين في إحدى وثباتهم التاريخية وفي عمق التاريخ يتجهون صوب أمريكا، ويتركون هنالك بصماتهم في نقوش مسندية يمنية خالدة، يقول البهبيتي:
سترى في سياق الدراسة التي أنت مقبل عليها لهذه القصيدة لماذا دعوتها معلقة، وسيذهلك بقدر ما أذهلني أول مخالطتي لها سعة مدلولها الحضاري، وكون بطلها قد ترك طابع قدميه على كل بقعة في الدنيا، وأنه كان من منشئ حضارة رائعة سامية، بنتها أجيال عربية أولى في القارتين القائمتين وراء المحيط الأطلسي، والمدعوين اليوم ظلماً ظالماً بالأمريكيتين، وأن هذه الحضارة كانت قد خططت لها خطوط مسارها المستقبل لتجنبها المآسي التي مرت بها الإنسانية، في العالم القديم، وأن الأفاك الدولي (كولومبس) قد عرف بوجود هاتين القارتين عن طريق اتصاله الوثيق بالعرب في المشرق وفي الأندلس، وذلك بعد أن انحل عنهما نطاق السرية التي كان القدماء من آبائنا يرفضونه حولهما، حماية لهما مما وقع بهما بالفعل بعد أن شاع العلم بوجودهما في الشرق العربي وفي الأندلس من تدمير أوروبا لأهلهما ولحضارتهما والانتفاع بنهبهما في تحصيل أسباب القوة التي غلبت بها على العالم.
ويضيف قائلاً: ولقد تم هذا البحث وتمت لي نتائجه من واقع دراسة (قصيدة) جلجامش مع الاستعانة في استيضاح جوانبه التفصيلية بالقرآن الكريم وبكتب التفسير، وبما كتبه الأوروبيون عن تفاصيل ما وقع منهم بعد نزول القارتين الجديدتين القديمتين جميعاً، وعرفوا طريقهم إليهما، وكانت النتائج حاسمة لا يماري فيها إلا مبطل مزيف يعز عليه أن ينهار زيفه فهو كظيم.
ويشاء الله أن يأتي بعد ذلك الدليل النصي القاطع بصحة ما خرجت إليه قياساً واستدلالاً وفحصاً وتحقيقاً، فيحل عالم أوروبي طلاسم لوحات ثلاث كانت في الولايات المتحدة عثر عليها في كندا، وفي المكسيك، ومن بينها واحدة كتب عليها بالفينيقية: (أنا هانئ بن تيم قد مررت من هنا).
وكيلا يكون كلام البهبيتي إنشائياً وعاطفياً لمجرد إرضاء الغرور نراه يؤكد أنه يمتلك الدليل الذي لا يمارى فيه فيقول: وهانئ بن تيم هو من يدعوه المؤرخون اليونان (هانون القرطاجي) وهو أمير من أمراء البحر العرب، كان عاملاً لقرطاجنة على غرب الأندلس، وقد قام على رأس أسطول بحري مؤلف من ستين سفينة من عابرات المحيط تحمل كل سفينة خمسمائة عربي قرطاجني من الرجال والنساء والأطفال، أي ثلاثين ألف نفس ومعهم طعامهم ومتاعهم وماؤهم لرحلة تصل قرابة الشهرين إلى القارتين الحديثتين، فبلغها، ووزع هناك جملة من قومه للنزول الدائم، ثم عاد إلى قرطاجنة فسجل في معبد الشمس أخبار رحلته مموهة منكرة مواصلة منه لسرية الرحلة وهدفها، فكان توفيقاً من الله دونه كل توفيق، فأضيف خبره تفصيلاً إلى الكتاب كما أوردته الصحيفة التي قرأته فيها أقطع الطريق على الممارين.
وأخيراً يضيف قوله: وقد أملت هذه الاستمرارية الحضارية العربية على متابعة التطور الحضاري الإنساني على مجرى التاريخ منذ زمن جلجامش، وسنرى أنه ملك من ملوك اليمن، أمم قصته الشاعر العراقي، وأنه هو الذي يسميه القرآن الكريم (ذا القرنين) .
وهو بعد هذا وقبله لا يفتأ يؤكد أن الله قد خلق العرب، وأسند إليهم مهمة قيادة المجتمع الإنساني نحو النور والتحضر منذ فجر التاريخ، وأن الله خلق العرب وخلق لغة العرب، وألقى إلى العرب أول الدهر بنور من عنده، فتولوا على هداه قيادة الناس إليه في موكب جليل من الحضارات تتعاقب حلقاته منذ أول شعاع للفكر في دنيا الناس .
ومن غير عاد وثمود (اليمانيين) تولوا هذه المهمة عند مطلع فجر التاريخ الإنساني؟
والبهبيتي هذا المبدع الرائع يخرج من قراءاته الواسعة للتاريخ العربي القديم ولتراث العرب اليمني، يخلص إلى نتائج باهرة، مؤداها أن التاريخ ليس سلسلة من الأحداث والوقائع تقرأ من أجل المتعة، أو العظة والعبرة فحسب، وإنما هو مجموعة من الأحداث والتراكمات يقوي بعضها بعضاً، ويؤثر أولها على مجريات آخرها، ويمهد الأول الطريق للآخر، وعليه فإن العرب الأولين الذين صنعوا الحضارة الخالدة بنصوص القرآن وشهادة خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم، وفتحوا الأصقاع البعيدة في القارات الخمس: آسيا، وأوروبا، وإفريقيا، والأمريكتين، قد عبدوا الطريق للفاتحين الأواخر الذين حملوا راية الإسلام وهيأوا الأرض لاستقبالهم. وهناك أمر ثالث يجب التنبيه هنا إليه، ومن يهمله يخون التاريخ، أو يثبت جهله: وذلك أن العرب حينما خرجوا للبلاد التي فتحها الله على الإسلام لم يخرجوا إلى أرض لم تكن لهم، وإنما خرجوا إلى تحرير أراضي آبائهم اقتحمها عليهم اليونان أولاً، ثم تبعتهم الدولة الرومانية في فترة من فترات التخلخل التاريخي الإنساني .
ولشدة ولعه بتاريخ أمته وإيمانه بهذا التاريخ العظيم، ذلك التاريخ الموغل في القدم منذ (عاد) التي أرست مداميك الحضارة الإنسانية، واستهلت زمن أمة الرسالات الإلهية فإنه يخلص إلى القول: وهنا تعرض مسألة تحتم علينا بحكم من حضارتنا، ومن تاريخ الرسالات الإلهية التي قام عليها تاريخنا كله، أن ننظر فيها لأن في حالة هؤلاء القوم الذين أصبح الجوهري من تاريخهم معروضاً أمامنا مثلاً حاضراً مطبقاً لماض عريق مر به تاريخنا القديم على عهد عاد وثمود، فانتهت حضاراته فجأة وابتتاراً بمثل ما انتهت به حضارة هؤلاء الأزد الذين بقي لنا تاريخهم في جوهره منقولاً على ألسنة ممثلي العذاب الذي نزل بهم، كما تم الحديث الذي تنطق به آثارهم ما بقي منها) !؟
والبهبيتي لا يتخلى ولو للحظة في التعبير بصوت عالٍ عن قناعاته بعظمة التاريخ اليمني وصحة الشعر العربي اليمني القديم.
نرى هذا ثاوياً في ثنايا كتاباته كلها مثل قوله: وأنا لا يكاد يخامرني أي شك في أن كثيراً جداً من الشعر الجاهلي الصحيح النسبة إلى أصحابه، أو إلى العهد الجاهلي قائم في الكتب الباقية بين أيدينا الآن، وأن كثيراً من التاريخ الجاهلي الصحيح مثل الشعر قائم كذلك في هذه الكتب، ولكنها ليست من الكتب التاريخية المشهورة، ولا من مجامع الشعر الجاهلي الذائعة الصيت.
إنما يقع هذا كله في كتب تدخل عندنا وفي اعتبارنا في مجال القصص المصنوع، لأن القدامى وضعونا في قالب متحجر من تصور الشعر الجاهلي، ومن تصور التاريخ الجاهلي، بحيث أصبح التاريخ الحي عندنا قصصاً، وما اندرج خلاله من الشعر مصنوعاً، أما ما قدموه هم من السخف الرخيص عللاً للأحداث الجسام فهو التاريخ.
ويمضي متدفقاً بكلامه الجميل قائلاً: (على حين أننا إذا نظرنا في هذه الكتب وجدنا التناسق فيها قائماً بين الشعر والخبر، ووجدنا التاريخ فيها يتدفق في حياة تطوي الأحداث الكبرى، وتضعها عند عللها الكبيرة التي يصدقها ويؤيدها مجرى التاريخ، ويزكيها الماضي المستشف من وراء النتائج الخطيرة المترتبة عليه، ووجدنا فيها من تفاصيل الأحداث ما يفسر كثيراً من الوقائع الثابتة التي اندرجت عفواً فيما قدمه المؤرخون الذين جرى العرف على تسويد ما قدموه إلينا من معارف، ووجدنا منها أحياناً إشارات توافق ما ورد في كتب العدو الأجنبي عن العرب فيشهد بصدقها.
وإنما نفى هذه الكتب عندهم المعياران اللذان قدمت الحديث عنهما في تصحيحهم الخبر وفي تصحيحهم الشعر، المثل الإسلامي، المثل البلاغي). وعن أهمية كتب التراث ومدى خطورة وفداحة إهمالها يقول:
(والذي لا شك فيه كذلك أن إهمال هذه الكتب والتنازل عنها، واعتبارها قصصاً كلها وشعراً منحولاً كلها، قد أدخل عليها الضيم، وأطمع فيها القاص فأطلق في بعض جوانبها قلمه؛ لأن إهمالها صيرها للسباع، وللضياع جميعاً نهباً مباحاً، فسقط فيها الخطأ من حيث أراد القاص الإغراء، ومن حيث أطلق لحميته العنان، غير أنها مع ذلك لا تزال تحتفظ في أجزائها الصحيحة بأصالة عصمتها عن الاختلاط بالدخيل... )
ويسترسل: (بل إنه ليبدو لي أن كثيراً من القصاص كانوا أصح فهماً لكثير من التاريخ من كثير من المؤرخين، وأنهم انتفعوا انتفاعاً واسعاً بمعلومات تاريخية حصلوها من مصادر أهملها المؤرخون لأنها لا تنسجم مع معاييرهم، ولا مع الجو الذي عاش فيه العرب تحكماً واستبداداً، وأن هذه المراجع قد انقطعت عنا.
إذن فالعرب عامة وعلماؤهم خاصة قد أجمعوا أو كادوا يجمعون على حد تعبير (جواد علي) على عروبة عاد، وأنهم تكلموا باللغة العربية، وهم كما بينا قبل إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام بحوالي عشرة آلاف عام.
كما أجمع العرب أو كادوا أيضاً، وأجمع علماؤهم كذلك على أن إسماعيل عليه السلام حينما أوصله أبوه الخليل عليه السلام إلى مكة لم يتكلم العربية، وإنما كان يتكلم بلغة أبيه (السريانية) (هذا إذا لم يكن من كَلَد اليمن كما أوضحنا) وأنه قد تكلم العربية حينما أصهر إلى جرهم، وعليه فإنه ليس أول من تكلم العربية القديمة، وهكذا تسقط أكبر فرية في التاريخ العربي القديم،وتسقط معها حجج أولئك المبطلين أمثال ابن العلاء وابن سلام، وسليلهما طه حسين وأمثاله من المحدثين!! المهزومين!!
أخيراً إننا نقول وبكل ثقة واطمئنان ونحن نعي خطورة ما نقول: إن عاداً وثموداً وما بعدهما من بني قحطان قد تكلموا اللغة العربية، وقالوا الشعر بهذه اللغة، وكتبوه بالخط المسند، وقد بدأت بشائر هذا الشعر المكتوب بالمسند تظهر للناس وتجأر للعين في هذا العصر، ولنشر هنا إلى ترنيمة الشمس التي اكتشفها د/ يوسف محمد عبد الله واستعرضها مع اللغة المتينة هذه التي نكتب بها الآن، وهي اليمنية المتطورة الشاعر السوري سليمان العيسى، وسنورد نصها لاحقاً إن شاء الله.
على أننا نكتفي هنا بذكر ثلاثة نصوص لابن خلدون وابن كثير، وجواد علي عن تعلم إسماعيل اللغة العربية من جرهم بعد مصاهرتهم. قال ابن خلدون: (فإسماعيل سكن مع جرهم بمكة، وتزوج فيهم، وتعلم لغتهم، وتكلم بها، وصار أباً لمن بعده من أجيال العرب، بعثه الله إلى جرهم والعمالقة الذين كانوا بمكة، وإلى أهل اليمن فآمن بعض وكفر بعض.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.