- هادي حسن يسيل الآن مداد أمريكي كثير، حول الخروج من المستنقع العراقي الذي أغرقت الولايات المتحدة الأمريكية نفسها فيه يسهم بهذا المداد متخذو القرارات من سياسيين وخبراء عسكريين واستراتيجيين والكثيرين من المستشارين «القدماء منهم والمحدثون»، وكأن الجميع في حلبة سباق لتلمّس طريق الخلاص من هذا المأزق المميت الذي وقعت فيه إمبراطوريتهم العظمى كنتيجة لسياسة بوش: مايميز جميع هذه الكتابات هي النظرة الوحدانية للمأزق، فجميعهم يحدقون النظر بكيفية ضمان مصالح أمريكا أولاً وأخيراً «أقل الخسائر وأقصى مايمكن تحقيقه من مصالح لبلادهم»، أما ضحايا هذ ه الجريمة البشعة، فلا مكان لهم وفق هذه الرؤية الوحدانية. جميع هؤلاء كبراغماتيين، يركزون على ماهو راهن، أما لماذا وكيف كتب لإمبراطورية العصر أن تتمرغ بأطيان العراق، فذانك تساؤلان لايمكن الاقتراب منهما ماداما سيضعان الأصبع على مكمن الجرح. الكتاب الذي نعرضه الآن،كأنه يغرد خارج السرب: ينظر إلى جريمة العصر البشعة، جريمة إضعاف العراق، ثم ضربه، ثم غزوه واحتلاله، ثم ارتكاب أفظع جرائم التاريخ في فضاءاته ضمن الإجابة عن التساؤلين: لماذا؟ وكيف؟ والتي ستهدي المؤلفين إلى الطريق السليم والعقلاني للخروج من المستنقع العراقي. إن مؤلفي هذا الكتاب،لم يأتيا من قارة أخرى: هما أولاً وقبل كل شيء أمريكيان، وسيرتهما تؤكد أنهما أكاديميان مشهود لهما ثانياً، كما وإنهما كانا قد تسنما مراكز رفيعة في البنية السياسية الأمريكية في المقام الثالث. يتكون هذا الكتاب من ستة فصول وخاتمة «عن الدرس العراقي!!» لم يبخل فيه المؤلفان على قرائهما بالتقاط الأحداث والوقائع وتحليلها ليصيغا، بعد ذلك موقفهما المتبصر والعقلاني إزاء عناصر جريمة العصر البشعة لقد تتبعا، بكثير من الدقة والموضوعية، عناصر السيناريو الأمريكي في العراق منذ ماقبل تسعينيات القرن الماضي حتى اليوم، آخذين باعتبارهما طبيعة مكونات البنية الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والإثنية لبلاد مابين النهرين،الأمر الذي جعل من مقاربتهما أكثر واقعية من معظم رؤى زملائهما حول العراق. يستهل المؤلفان كتابهما بالقول: إن غزو العراق واحتلاله كان خطأً كارثياً: جرى قتل وجرح عشرات الآلاف من الشباب الأمريكي،وإصابة أكثر من أربعين ألفاً منهم بعاهات سيتطلب شفاؤهم منها عقوداً من الزمن، أما في العراق فكل فرد من المجتمع له قريب أو جار أو صديق يلوم الأمريكيين على وفاته جرى كل ذلك، بحسب قول الكاتبين،بحثاً عن سلاح دمار شامل يمثل «خطراً وشيكاً»، ولما لم يعثر عليه، قيل إن الغزو يستهدف تحقيق الديمقراطية، وحين جرى إدراك أن القوة العسكرية قد تغير نظاماً للحكم، لكنها لا تنشئ ديمقراطية، قيل إن الاحتلال سيقضي على الإرهاب، وبعد التأكد من انعدام صلة العراق بذلك، تصبح المسألة كلها مجرد تضليل لايستحق البقاء في العراق الذي يبدد أرواح الجنود الأمريكيين والمدنيين العراقيين. يفتتح ماكغفرن وبولك كتابهما بفصل مهم، جدير بالتأمل، يتعلق بكيفية صنع رأي عام مزيف، يضلل فيه الفرد والجماعة، من أجل تأييد ماتريد أن تقوم به إدارة حكومتهم، والمعروف أن الحاجة للمعرفة في أمريكا تقوم على قاعدة «تفرقة المعلومات»: تحجب المعلومة عن الأشخاص الذين ليست لهم حاجة بمعرفتها، في مايحوز آخرون عليها لغرض أداء واجباتهم، بيد أن الإدارة الأمريكية دأبت على التضليل، وهذا مابرهنته مؤسسة «الأجندة العمومية» حيث أظهر مسحها الذي أجرته في كانون الثاني/ يناير 2006، أن نصف الجمهور الأمريكي لم يتم إخباره بالحقيقة عن غزو العراق. تقف خلف ذلك كامل مؤسسات الإدارة الأمريكية، من الرئيس حتى الصحافي البسيط: إن إعادة صياغة الرأي العام الأمريكي، حول غزو العراق جرت وفق بلبلة لا مثيل لها، على الرغم من طغيان الحرب على شاشات الفضائيات وعناوين الصحف ومقالات المجلات وبيانات الحكومة والتقارير الرسمية، لكن كل ذلك، برأي المؤلفين، لايعدو كونه مجرد تشويش أكثر من كونه مدعاة للتوضيح، فحيثما تسود البلبلة تتشوه الحقائق. بدأ مسلسل البلبلة منذ عام 2001، حين حاولت الإدارة الأمريكية تسويق تهمة علاقة العراق بالقاعدة في عملية تفجير مركز التجارة الدولية، لكن سرعان ماأثبتت الأحداث والوقائع أن ذلك مجرد كذبة، بشهادة فاسلاف هافل رئيس جمهورية التشيك، وأكدتها الاستخبارات الأمريكية في مابعد، لكن لايزال التضليل حول هذه القصة راسخاً بأذهان الأمريكيين، فثلتهم يعتقد أن صداماً كان مشاركاً بذلك ليس هذا وحسب، بل إن الإدارة الأمريكية استخدمت حتى مالا يقبله العقل والحقائق العلمية، من أجل تزييف الرأي العام، كماهو الحال مع قصة الطائرات العراقية بلا طيار التي كانت سترش المدن الأمريكية بالجراثيم القاتلة، والحال أن العراق يبعد عن أمريكا ستة آلاف ميل، في حين أن مدى مثل هذه الطائرات لايتجاوز 300 ميل !! وكذا الأمر بالنسبة إلى فزاعة السحابة الذرية فوق أمريكا!! التي كانت قد استحضرتها كوندوليزا رايس حين كانت مديرة لمجلس الأمن القومي. إن قائمة الفزاعات التي كانت الإدارة الأمريكية تنسجها، لخلق رأي عام مزيف، تطول كما يسرد المؤلفان،لتشمل مرحلة التحضير للحرب، وأثناء الاحتلال وحتى اليوم: هلّلت هذه الإدارة وطبّلت، مثلاً، للبشرى التي زفها للرأي العام الأمريكي، أحد عملائها المدعو كنعان مكية، أن العراقيين سيستقبلون القوات الفاتحة بباقات الزهور التي لن تكلل هاماتهم فحسب، بل ستفرش لهم الدروب!! وحين تحولت باقات الزهور الموعودة إلى قنابل ومتفجرات، لم تتوقف الإدارة الأمريكية عن عزمها في التضليل، حيث حولت كل وسائل الإعلام، المرئية منها والمكتوبة، إلى مجرد ناطق باسم القادة العسكريين،وحاربت جميع وسائل الإعلام التي كانت تنطق بالحقيقة، ويستشهد المؤلفان بقصف مكاتب فضائية الجزيرة، التي احتلت مكانة ال «سي،إن.إن» إبان حرب الخليج الأولى على العراق، وبأمر من بول بريمر نفسه، لقد جرى تضليل الجميع وصياغة رأي عام أمريكي مزيف، وبخاصة أن غالبية الأمريكيين لايعرفون شيئاً عن العراق. الواقع أن الصورة التي يرسمها ماكغفرن وبولك لصياغة رأي عام مضلل ومزيف، جديرة بالتمعن، ذلك لأن القرارات المصيرية التي تتخذها الإدارة الأمريكية تعتمد على ذلك، واستشهادها بمقولة أحد رعاة البقر رمزية في هذا السياق!! إن خطاب هذا الكتاب موجه، بالدرجة الأولى إلى المجتمع الأمريكي، وهذا بين من الاقتضاب الذي تناول فيه المؤلفان التعريف بالعراق والعراقيين، وهو أمر مبرر، لأنهما يخاطبان مجتمعاً يجهل العراق: جغرافيته وبنيته الاجتماعية والاقتصادية والإثنية، وطبيعة التطورات التاريخية لنشوئه، ولم يكتفيا بذلك، بل إنهما عقدا مقارنة بين الخطوات التي اتخذتها بريطانيا عند احتلالها العراق في بداية القرن العشرين،والخطوات التي يتخذها الاحتلال الأمريكي في بداية هذا القرن: تنصيب حاكم يختاره الاحتلال، وتشكيل حكومة من وزراء عراقيين لكن بموافقة المحتلين، على أن يكون لكل وزير مستشار من سلطة الاحتلال، وكتابة الدستور. هذه هي الخطوات نفسها للاحتلالين، وكأن التاريخ يعيد نفسه، لكن على شكل مهزلة، كما كان قد قال ماركس. وكما كان الإنكليز قد أقاموا قواعد عسكرية، يقيم اليوم الاحتلال الأمريكي القواعد. الأمر الجديد هو إقامة مدينة أمريكية في قلب بغداد اسمها «المنطقة الخضراء» فما أشبه اليوم بالبارحة، بالنسبة إلى الذاكرة العراقية. يعرض المؤلفان الظروف التي ترافقت مع احتلال الكويت من قبل صدام ويشيران إلى تلك المقابلة التي تمت بين السفيرة الأمريكية إبريل غلاسبي وصدام حسين، واعتبرت حينها بمثابة الضوء الأخضر لغزو الكويت، ويتطرقان إلى النتائج الكارثية التي انعكست على العراق: هجوم أمريكي هو الأضخم من أي عملية عسكرية في التاريخ،قصف العراق بثمانية وثمانين ألف طن من القنابل ومئات الصواريخ، وحين توقفت الحرب فرض المنتصرون، عن طريق مجلس الأمن في نيسان/إبريل 1991برنامج عقوبات وحصاراً، الذي كان من ضحاياه ربع أطفال العراق الذين هم مابين الستة أشهر والخمس سنوات من العمر، كما أصيب عدد كبير آخر من العراقيين بآثار مميتة تتجاوز آثار القتال من جراء استخدام اليورانيوم المنضّب الذي استخدمته القوات الأمريكية آنذاك، لقد جرى إنهاك هذا البلد طوال عقد من الزمان «عقد تسعينيات القرن الماضي»، ليفاجأ بهجوم أوسع من قبل الأمريكان والبريطانيين في عام 2003، الذي سمى ب «الصدمة والترويع» الذي أحدث أضراراً مادية تقدر بمائة مليار دولار، وخسائر بشرية لن تعرف أعدادها بالضبط، وتقدر حتى الآن بعشرة آلاف مدني، ضمنهم ثلاثة آلاف طفل، إلى جانب عشرات الآلاف من الجنود العراقيين: إنها حقيقة جريمة العصر البشعة، تلك التي يتوقف أمامها مؤلفا هذا الكتاب. يقول المؤلفان وهما على حق حين يفكر أبناء الشعب العراقي ببريطانيا وأمريكا فهم لايفكرون بالديمقراطية، وإنما تتحرق أذهانهم غضباً وحزناً على الدمار الذي حاق ببلادهم بفعل الأجانب الغزاة. لقد فتح الغزاة، باعتراف قادتهم، أبواب الشر على أنفسهم: إنهم بالفعل يغطسون في المستنقع العراقي. يتوقف ماكغفرن وبولك ملياً إزاء حجم الأضرار المادية والبشرية من جراء استمرار الاحتلال للعراق، فحتى تموز/يوليو 2006 بلغ عدد قتلى الجيش الأمريكي 2578 قتيلاً، وأضعاف ذا العدد من الجرحى والمعوقين، هذا إلى جانب الآلاف من الجنود المصابين الآن بإشعاعات اليورانيوم المنضّب الذي كانوا قد استخدموه هم أنفسهم أثناء المعارك، فضلاً عن آلاف الجنود الذين أصيبوا بعاهات نفسية، أما التكاليف المادية فهي خيالية، تبلغ، بأقل التقديرات: تريليون دولار،لايقتصر بالطبع تأثير ذلك على التكاليف الأسمية للحرب، بل يمتد إلى نوعية الحياة التي سيتدنى مستواها بالنسبة إلى المواطن الأمريكي، ويرى المؤلفان أن التأثير الأخلاقي لذلك خطير: فالحرب القاسية تحط من شأن الجميع «الأمريكان والعراقيين» لأنها تجعل من الطرفين أكثر وحشية، فالخوف والغضب يفسران، وإن جزئياً الفظائع التي ترتكب في القتال، لكن وبحسب رؤية المؤلفين، لايمكن أن يفسرا المعاملة الشنيعة لأسرى معصوبي الأعين ومربوطي الأيدي!! هل إن ارتكاب التعذيب هو بسبب الغضب، أو بسبب السلطة المطلقة للسجانين، أو إن المسألة تتعلق بالضبط الاجتماعي؟ الواقع أن ماكغفرن وبولك لم يشيرا إلى جريمة أبو غريب والمآسي الشنيعة التي ترتكب بحق العراقيين، بوضوح في سياق السقوط الأخلاقي للامبراطورية الأمريكية، هذا على الرغم من أنهما يشيران إلى أن الحوادث التي تقع خارج السجون هي الأكثر إيلاماً. ويلوذ المؤلفان بحجة وحشية الحروب، لكنهما يقران أنها ممارسة أمريكية بامتياز حدثت في الحرب الفليبينية عام 1900، وفي فييتنام في ستينيات القرن الماضي، وتحدث الآن في العراق. يقدم المؤلفان رزمة استراتيجية متماسكة للخروج من العراق الآن، ويحذران من فرض نمط معين من نظام الحياة في هذا البلد: يجب ترك الخيار للعراقيين بالكيفية التي يريدون إدارة شؤون بلادهم، ويؤكدان، وهم على حق بذلك، أنه إذا ما استمر الاحتلال على العراق، فإن احتمالات تفتته وتقسيمه ستكون قوية، ويؤكدان أن هنالك اتفاقاً مشتركاً بين مختلف الاتجاهات الأمريكية بضرورة الانسحاب الآن من العراق، كما إن أغلب العراقيين يريدون رحيل أمريكا عن بلادهم «81 في المائة من السكان بحسب استطلاعات الرأي» لأنهم محتلون لا محررون ويرى ماكغفرن وبولك أن الانسحاب هذا الذي يقترحان له تاريخ 30 حزيران/يونيو 2007، لايتحقق من دون كلفة، لكن لابد منه ويقترحان لتحقيق ذلك أن تقوم الحكومة العراقية بطلب قوة شرطة دولية لأمد قصير، لتعمل خلال فترة الاحتلال وبعده، وستكون هذه القوة مقبولة إذا ماتألفت من الأقطار العربية أو من الأقطار الإسلامية، على أن يتم ذلك برعاية جامعة الدول العربية أو الأمم المتحدة. وسيكون من مصلحة العراق أن تقوم الولايات المتحدة بدفع كلفة هذه القوة وفي الوقت ذاته تقوم هذه الأخيرة بتدريب الشرطة الوطنية العراقية، على أن تؤخذ بعين الاعتبار الانقسامات الإثنية والدينية والسياسية، وخلق قوة شرطة عراقية وطنية موحدة، على أن تدعم بحرس شعبي يتألف من أبناء مناطق السكن والقرى والعشائر. ويقترح ماكغفرن وبولك إطلاق سراح جميع أسرى وسجناء الحرب الذين تحتجزهم القوات الأمريكية، وأن تقوم أمريكا بالمساعدة في تأسيس فرقة إعمار وتدريبها كما يتوجب الإيقاف الفوري لبناء القواعد العسكرية الأمريكية وهي أكثر من مائة قاعدة وتسليمها إلى الحكومة العراقية ويؤكد المؤلفان ضرورة الانسحاب من المنطقة الخضراء وتسليمها إلى الحكومة العراقية، وتقوم السفارة الأمريكية بشراء أرض وإقامة مبانيها أو تستأجر مباني لها، وعلى الاحتلال أن يلغي المرتزقة الذين جلبوا للعراق ويبلغ عددهم 25000 رجل مسلح، وضرورة قيام قوات الاحتلال بنزع الألغام هذا إلى جانب الإسهام بتعويض الأضرار ودعم العراق بإعادة البناء، وإجراء تدقيق حسابي لأموال العراق خلال فترة الاحتلال، وهنالك العديد من المقترحات التقنية والفنية والمالية التي تدخل ضمن الرزمة الاستراتيجية التي يقترحانها للخروج من المأزق العراقي. يتساءل المؤلفان، بعد كل ذلك ماذا سيحدث لو لم ننسحب من العراق؟ والجواب بكل بداهة: المزيد من الخسائر في الأرواح بالنسبة إلى الأمريكيين وللعراقيين على حد سواء والمزيد من الخسائر المادية التي لم يعد المجتمع الأمريكي مستعداً لتحملها، والنتيجة الحتمية هي فقدان الأمن الإقليمي وشيوع الاضطراب وعدم الاستقرار ليس فقط في العراق، وإنما في المنطقة العربية والإسلامية وعدم الانسحاب من العراق الآن برأي المؤلفين، سيعرض أمريكا إلى خطر شنيع وربما إلى خطر مميت. فهل ثمة من درس تتعلمه أمريكا من العراق؟ يستشهد المؤلفان بمقولة الفيلسوف الألماني هيغل «إن الشعوب والحكومات لم تتعلم أي شيء قط من التاريخ، ولا عملت وفق المبادئ المستخلصة منه» وتنطبق هذه المقولة على أمريكا بكيفية نموذجية فمن الفليبين إلى فييتنام ثم من أفغانستان إلى العراق، الممارسة هي نفسها. - باحث في مركز دراسات الوحدة العربية