- استطلاع/ نبيل اليوسفي عند الغروب والشمس كرة صفراء ملتهبة تتزخلق فوق حصن الغراب في مدينة بئر علي التابعة لمديرية رضوم والمبتعدة عن مدينة عتق بمائتي كيلومتر وعن المكلا بمائة وعشرين كيلومتراً قذفت من على كاهلي عناء السفر الطويل، وأسلمت عيني المنتشية بالمهابة لأمواج البحر العربي «ميناء قنا قديماً» المتراقصة عند أقدام الحصن المتوثب كمصارع أسطوري والمتجذر في أعماق التاريخ ومسامات اللبان والبخور الذي لم تكن المعابد آنذاك تستطيع الاستغناء عنهما وكان يصدر بتجارته الرائجة إلى أفريقيا والهند وجنوب شرق آسيا. وتقدمت بخطواتي الطاووسية وعناق حار متمازج بين الشمس الذهبية وشفافية الماء المقابل للسماء الزرقاء الصافية وجهاً لوجه، وحدقاتي اللاهثة لإصطياد المشهد الساحر قبل أن تبتلعه جيوش الليل الجبارة وما بين السماء والبحر نوارس بيضاء فرحة كحظي المشرق تتطارد نشوانة تبشر الصيادين الذين زرعوا شباكهم ومراكبهم في أحشاء البحر بالرزق الوفير من الأسماك النادرة التي تزخر بها شواطئ بلادنا المسترخية على امتداد 2500 كم، وتدعو السياح العابرين إلى التوقف والذوبان في شاعرية المكان ونسيمه الرقراق الذي يكنس الهموم ويجرف سكاكين القلق ويداعب بذرات سعادته شغاف القلوب وهناك.. هناك عند المنتجع السياحي المتزاحم المناكب كان للرمال لغة أخرى هامسة لا تفهمها سوى الأذواق الرفيعة التي اعتلت بي صهوة الحصن المحتضن لآثار برج المراقبة وصهاريج المياه وأبنية ومواضع سكن عند السفح الذي برزت على أفقه المتلألئ علامة استفهام اسطورية معقوفة: بعيداً عن سكاكين الضيق وأمواس القلق؟ وزغردت الإجابة بأحرفها القمرية أن لادواء غير هذا الحصن الطبيب والعتيق الذي يتوافد على مشفاه الإعجازي آلاف السواح سنوياً، والذي أكد ذلك الأخ مدير عام السياحة بالمحافظة الأستاذ/أحمد سعيد الذي جمعتني به المصادفة من غير موعد فسكبت على معرفته كل مافي جعبتي من أسئلة. شبوة جذور حضارية شبوة جذور الحضارة الأولى ومنطلق قوافل التجارة عبر طريق البخور أرض شبوة، وهنا في مدينة بئر علي بشواطئها الحيوية تعجز الكلمات عن التعبير ويتمنى الإنسان أن يقضي بقية العمر هنا لأن عزرائيل ينسى أن يجوب هذا المكان الخالد بحصنه الفريد وبحيرته البركانية الوادعة «بحيرة شوران» لكن مايؤسفني أن أكثر أبناء بلادنا الحبيبة يجهلون خارطة آثارهم العريقة فتجد أن السياح الأجانب لا يكادون ينقطعون لحظة واحدة تاركين لتأملهم يغترف ماشاء الله من كنوز روحية وإبداعية وتليدة قلما يجدونها في بلدانهم، بينما لاتستطيع أن تستخرج من بين هذا الجمع وهذا التجمهر سوى بضعة يمنيين بعدد الأصابع وربما لاتجد البتة وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على قلة الوعي والتقدير لعبقرية أجدادنا. دعوة وأضاف في سياق حديثه منفعلاً: الحمد لله إقبال السياح يكاد يفوق كل تصور رغم تدنيه خلال العام المنصرم إلى «2400» سائح بسبب عمليات الاختطاف الإرهابية التي يقوم بها ضعاف النفوس وذوو النوايا السيئة التي تهدف أولاً وأخيراً إلى الإساءة لسمعة وطننا الغالي، لكن ذلك لن يثنينا عن مواصلة ترويجنا السياحي بفضل تشجيع وزير السياحة الأستاذ نبيل الفقيه والأخ/علي بن محمد المقدشي محافظ المحافظة الذي شدد على إقامة معرض في مدينة عتق للتعريف بالمناطق السياحية الجذابة وإصدار كتاب يضم ماتزخر به المحافظة من حصون ومعمار عريق..وعندما قاطعته محتداً عن إفتقار المنطقة لأبرز الترفيهات من فنادق وغيرها أجاب متحسراً. لايوجد هنا سوى المنتجع المتواضع الذي لايكاد أن يفي بمتطلبات الزوار فالبعض يحالفهم الحظ للفوز بمقعد والكثير يضطرون نادمين إلى السفر للسكن أما إلى مدينة المكلا أو مدينة عتق ومن ثم يعودون مرة أخرى لإكمال الإستمتاع بأوقاتهم..وهكذا دواليك، وماأود أن أقوله من خلال منبركم هو أن على جميع المستثمرين أن يأتوا إلى هنا ليفتتحوا شاليهات ومنتجعات وفنادق وأنا أضمن لهم الربح مائة في المائة على هذا البساط الذي تستلقي الأجساد المنهكة على أديمها لتزيل الآلام العالقة بها. مذاق برائحة البخور وأختتم حديثه قائلاً: إن لمدينة بئر علي مذاقها الخاص ورائحتها البخورية العتيقة وسحرها المنفرد عند إقترانها بحصن الغراب أو ببحيرة شوران أو بعين بامعبد الحارة الطبيعية التي تشتهر بإنتصارها المتكرر على الأمراض الجلدية وأمراض الروماتيزم وغيرها، وهذه القوة الثلاثية سارت بصيتها متجاوزة أشجار النخيل الباسقات وذوائب الجبال المشقرة بالسحاب واخترقت الحضارات الغربية الزائفة لتثبت أن يمننا المزدهر غني بمعجزاته التي تقهر المستحيل وغني بآثاره التي لايمكن أن يبلغ نصف عمرها أقدم الآثار. روعة مضى على مكوثي يومان ولم ينتقص من طاقتي وحيويتي شيء بل كانت تزيد رغم اللا جلوس أو التوقف الذي منحه أياي مرحي وقوة سحرية لا أعلم من أين مصدرها وخلال هذين اليومين مسحت ببصري كل شيء..الرمال المتلونة والبحر والسماء والمنازل السوداء المتفحمة والأشجار المترنمة بالنسيم والأحجار والوجوه الموناليزية الملامح التي حرضني فضولي على سؤالي إياها عما يعتلج في وجداناتها. الأخوان علي محمد سنان العواضي ويوسف سبأ أجابا ويدهما متشابكتان بأخوية وكل واحد يدير دفة حديث الآخر: نحن أتينا من محافظة إب الخضراء لا لشيء سوى لزيارة هذا المعلم العريق الذي حدثنا عنه أحد أصدقائنا وما إن غمرتنا نشوته حتى تسربت الأيام من بين أصابعنا دون أن نشعر وكلما مر يوم يأتي اليوم الذي يليه بمذاق آخر وطقس مبتكر يرغمنا على التلذذ والانغماس في أجوائه والانتظار لاكتشاف أشياء أخرى جديدة تغذي الروح وتدفئ النفس وأضافا متضحاكين: أثناء سفرنا إلى هناك كانت صور الكآبة تجثم على كواهلنا، وأمواج اليأس تزلزل أفئدتنا وهموم أخرى توخز بمساميرها الحادة جراحاتنا الخفية التي ولدتها طبيعة الحياة وعندما وصلنا إلى هذه الجنة الضائعة عاد كل شيء ضاع منا إلى مكانه..أيامنا المزهرة وطفولتنا البريئة وحياتنا الخالية من بهرجاتها المصطنعة. حضارة واختتما حديثهما بالقول: إن للتاريخ القديم ميزة خاصة وكلما غاص الخيال في متاهاتها كلما ومضت وأبهت الفرحة في أعماقنا فتهزنا من قمة رؤوسنا إلى أخمص قدمينا، ومانود أن ننوه إليه هنا هو أننا ندعو كل أصدقائنا الذين يسافرون للبحث عن الوهم في الخارج أن يعلموا علم اليقين أن بلادنا غنية بكل مايبحثون عنه، وهنا في محافظة شبوة قامت ثلاث ممالك قديمة قتبان وعاصمتا تمنع ثم أوسان عاصمتها مسورة، والدولة الثالثة هي حضرموت عاصمتها شبوة القديمة بمديرية عرماء..أفلا يدل هذا على حضارتنا الجبارة التليدة؟! اكتشافات جديدة أما الأخ/مهدي حسين باحكر فقد أبتدأ حديثه قائلاً: الحقيقة أن محافظة شبوة غنية بمناطقها الأثرية التي لم تكتشف بعد، وهنا في ميناء قنا الأثري اكتشفت بعثة التنقيب البريطانية نفقاً يربط حريضة وادي دوعن بميناء قنا التاريخي ووجدت نقوشاً وكتابات مع العلم أن مدينة حريضة هي التي تقع بالقرب من «ريبون» التي أقيمت على أنقاض مدينة مذاب التي يعود تاريخها إلى عصور سحيقة جداً ويوجد فيها معبد «سين» أو معبد القمر لمملكة حضرموت القديمة..وأضاف متفائلاً: إننا في مدينة بئر علي التي يبلغ تعداد سكانها حوالي أربعة آلاف نسمة نأمل أن يكشف لنا المستقبل عن أسرار وضعها أجدادنا العباقرة. سلام لوحت بيدي في الهواء فارتفعت غابات من الأيادي كالأعلام البيضاء تردد علي تحيتي وعلى أفواهها ترتسم ابتسامات عريضة وكلام صامت لايتجاوز الألسنة الأعجمية التي أخرستها عدم اتقاني للغاتهم المختلفة وجهلهم بلغتي، فتحولنا مباشرة إلى لغة الأعين التي لايمكن أن تجاريها أي لغة في العالم..كان أغلبهم مستلقين على الشاطئ ومجردين من ثيابهم المهملة بعيداً إلا من المايوهات البكينية رجالاً ونساءً والبعض الآخر أخذهم هوس السباحة ونهمهم عليها إلى التصادق مع البحر مغمورين في مداعباته لايقطعهم عنه سوى وجبات الطعام وأشياء أخرى، أما فريق ثالث راح يتسلق صهوة حصن الغراب منتظراً أن ينفض أرياشه ويطير إلى حيث يرشده القدر، وجميعهم يوحدهم الاهتمام بهذا المشهد الذي تلاقت فيه السياحة الطبيعية والشواطئ التاريخية الأثرية والسياحة العلاجية..تركتُ لدي حرية التلويح لرقتهم وحسرة غريبة تشتعل نيرانها فيني بسبب قلة وعي أبناء بلادنا بمعالمهم التاريخية وتجاهلهم لها ومازالت الحسرة تحرقني حتى هذه اللحظة.