- د. عمر عبد العزيز .. الشعر تعبير آخر عن موسيقا الوجود، وهو بهذا المعنى تعبيرٌ يعتد باللغة "الكلام" التي تعتبر من أكثر "اللغات" قدرة على المناورة والمداورة سواء في التشخيص الواقعي أم التجريد الغنائي، فاللغة ليست نابعة من الأنا القائلة فحسب، بل إنها قادمة من نواميس الكون والوجود، وما نطق الإنسان بها إلا بعد امتلاء بمقدمات الكلام، فالكلام الصادر من الإنسان موصول جبراً بتراكيبه الفيزيائية والنفسية، وهو إلى ذلك متواشج مع عناصر الطبيعة الاخرى، فالصوت المجرد يصدر من الإنسان كما الحيوان وكما تقلبات الطبيعة. هنا نستطيع الإمساك بماهية الشعر بوصفه ذروة الاختزال لكل تلك المقدمات، وبهذا تكون الغنائية البصرية الصوتية أصلاً أصيلاً في القول الشعري، بل إن غنائية الشعر أشبه ما تكون بذروة الغنائية على اعتبار أن كل كلام منثور يحمل في طياته وتضاعيفه البُعد الغنائي لأنه يستقيم على لوازم صوتية وكتابية لوغاريتمية. اللغة أرفع درجات التعبير عن الذات والموضوع، ذلك أن اللغة ليست قاموساً بمفردات، بل هي جماع المفردات والإشارات والإيماءات والفراغات والصورة، حتى أن الهيئة أو الصورة التي نراها أمامنا بوصفها كلمة تحمل في طياتها سلسلة موازية من التعابير أو اللغات، فالكلمة المكتوبة رسم وصوت وإشارة وموسيقى ومعنى، فهي رسم لأنها تمر عبر عدسات العين، وتترجم كمعنى يفيض بانزياحات وتعدد دلالات، فالكلمة حمّالة أوجه حتى وإن تأطرت بمعنى من المعاني القاموسية، وهي صوت لأنها تحمل الأصول الصوتية لكل حرف. من ذلك نرى أن الكلمة التي تحمل في طيّاتها الصورة والصوت تحمل أيضاً موسيقا الوجود، فهي مموسقة جبراً لا خياراً، آية ذلك تراتب الحركة والسكون في اللغات الإنسانية تراتباً موسيقياً، أيضاً تناوب ميزان الاستقامة الشكلية والصوتية في الكلام حتى أن كل كلام العالمين جميل، جميل، جميل.. وليس من لغة على الكرة الأرضية إلا وتحمل ذات القيم الجمالية التي تتروْحَنُ بتفاعلها الشامل مع الذات والموضوع "الإنسان والوجود"، ذلك أن ما نراه الآن في محركات البحث بأجهزة الكمبيوتر والتي تعمل وفق لوغاريتمات رياضية جبرية موسيقية وتتمكن من تحويل اللغات لبعضها البعض وتختزل الإشارات وتحيلها إلى صور وأصوات وتمازجات لا متناهية انما تستقيم على "لوغاريتمات مموسقة" لأنها محكومة بالميزان الرياضي هذا.. وقد تأسس علم الكمبيوتر المعاصر على سابقه علم السيبرنيتيكا، وهو العلم الذي يسمى أيضاً "علم المعالجة الالكترونية للمعطيات". محركات البحث ما كان لها أن تقوم بهذا العمل لولا البرامج اللغوية التي استفزت واستسبرت أسرار الكلام، فوجدتْ أن اللغة أشمل من قاموس المفردات وسياق العبارات ومألوف المعاني وما يتمّ درسه وترداده رسماً عن رسم.. فاللغة بحر من مداد لا ينفد، والكلمات غيض من فيض. [email protected]