في عالم الموضة والجمال وما يطالعنا به من جديد يومياً، لم يعد هناك ما يثير الدهشة ، أو يبعث الاستغراب والقلق، حيث أن فوضى الموضة والركض وراء جديد آخر تقليعاتها.. وبقدر ما باتت هاجساً يشغل بال الغالبية العظمى من سكان العالم رجالاً ونساء، بقدر ما أضحت صناعة لها مروجيها وتقنياتها وتأثيراتها، التي تتخطى حدود الزمان والمكان، والعادات والتقاليد وربما الأعراف والقوانين الاجتماعية، بل وتهدد بزوال كل ما يقف أمام سطوة ماهو جديد ومعاصر وجذاب. وما تشهده أسواق البالطوهات اليوم في اليمن ومعظم بلدان المنطقة العربية من جديد التقليعات وغريبها، يمثل خير شاهد على ما خلفته الموضة من حالة هوس وفوضى عارمة، وهي أشبة بكابوس العصر لا يتوقف عند حد، ولا نوع، ولا شيء من الأشياء بعينها، ليجتاح أحدا أكثر الملبوسات العربية التقليدية النسوية دلالة على معان الحشمة والعفة والطهارة ،قبل أن يأتي كابوس "الموضة" بأشكاله وتصميماته وأسماءه الجديدة ليحيلها إلى ملبوسات للإغراء والإثارة وإبراز مفاتن الجسد . اتبعني ......... صمود القديم تختلف أشكال العباءات والجلابيب والملبوسات التقليدية المصنوعة محلياً في اليمن من منطقة إلى أخرى تبعاً للتنوع التضاريسي والمناخي والثقافي ، إلا أن ارتداءها مثل منذ القدم وما يزال سمة ضرورية للمرأة اليمنية في مجتمع تقليدي محافظ ، باستثناء بعض المناطق التي عرفت نمطاً اجتماعياً تحضرياً معيناً بفعل اختلاف النظام السياسي الذي خضعت له في فترات سابقة والذي أدى إلى استبدال المرأة للعباءة بالحجاب كما في الشطر الجنوبي من اليمن سابقاً مدينة عدن. وما يعرف محلياً في اليمن وخاصة في المناطق الشمالية وصنعاء على وجه التحديد (بالستارة) و( الشر شف ) ، وغيرها من أشكال العباءات والسترات التقليدية المصنوعة محليا ، كانت وما تزال من أكثر الأنواع شيوعاً واستخداماً لدى النساء كأغطية خارجية ، إلا أن البالطوهات التي يجمع الكثير من المشتغلين والمتعاملين في أسواقها بأن دخولها لليمن يعود إلى أزمة الخليج الاولى واستقبال اليمن للكثير من العائدين، أضحت هي المتربعة اليوم على العرش ، بل والأوسع انتشاراً واستخداماً بين شابات ونساء اليمن ، وربما ألأكثر تهديداً بزوال وانقراض بقية الأصناف التقليدية سالفة الذكر. وتختلف الستارة عن الشرشف ، كما يختلف الاثنان عن البالطوهات، رغم واحدية استخدامها مجتمعة.. غير أن الستارة بألوانها الحمراء والزرقاء المفرطة والصارخة ، قطعة قماشية ملساء مربعة الشكل ، يتم صباغتها محلياً بألوان مختلفة في هيئة رسومات وإشكال مستوحاة من نباتات الطبيعية والزهور ، ميزت بارتدائها المرأة الصنعانية عن غيرها من النساء في المناطق المحيطة والمجاورة ، واعطت لإطلالتها في زحياء وأزقة وأسواق وشوارع مدينة صنعاء العتيقة طابعاً جمالياً أخاذاً ، يتناغم وطبيعة المدينة التاريخية ،ويجذب اليه انتباه الكثير من زوار المدينة من الأجانب. تفاصيل! ويعتمد ارتداء المرأة لهذه العباءة (الستارة) على وضع طرفها أعلى الرأس ،ومدها على الظهر ، ومن ثم لفها على باقي الثياب الخارجية التي تغطي الجسد ، وعادة ما يتم لبسها فوق الفستان الطويل ، مع "اللثمة" وما يعرف ب"المغموق" ، وهما قطعتان قماشيتان شفافتان تصنعان محلياً ، ويصبغ الأول باللون الأسود ، فيما يسبغ المغموق على شكل بقع دائرية ونواتيه حمراء وسوداء اللون ، بما يمكن المرأة من الرؤية ، ولا يسمح بالتعرف على ملامحها. لكن بفعل التطورات وطغيان الكثير من الأشكال والبدائل في سوق العباءات فان الستارة لم تعد تشكل بجمالها موضة بالنسبة للكثير من ساكنات مدينة صنعاء ،وبخاصة الشابات اللواتي عرفن بسحر جمالهن الأخاذ، بقدر ما أصبحت موضة تقليدية ترمز للوقار ويقتصر ارتداءها اليوم على فئة قليلة من النسوة متوسطات وكبيرات السن ، تماماً كما هو الحال مع الشرشف ، الذي يتكون من ثلاث قطع سوداء اللون تقترب في شكلها من البالطو ، ويتم تفصيلها إلى ثلاث قطع تعرف ب(الفوطة والجناح وألخنه) ، ويعتقد أن النوعين من بقايا مخلفات الاستعمار التركي لليمن . (حُسن) مشتغلة في صناعة الملبوسات التقليدية النسائية بمدينة صنعاء ، رغم ما يعتريها من حالة استياء وخوف نتيجة سطوة جديد التقليعات على ماهو تقليدي من العباءات والأزياء ككل، وتأثير ذلك على صناعة الملبوسات التقليدية التي تشهد تراجعاً وانحساراً ملحوظاً في ظل غياب ألاهتمام بالمحافظة عليها من قبل الجهات المعنية ، وانصراف الكثيرات عن مزاولة هذه الصنعة ، إلا أنها بحديثها عن سر جمالها وخصوصيتها ، بينما يداها مشغولتان بوضع الصبغة على قطعة قماشية موضوعه أمامها على الطاولة ، تبدي اعجاباً وإصراراً قوياً على التمسك بالصنعة، ولسان حالها يقول: (من يشبهك من؟). وتقول :" الستارة والشر شف ظلا لسنوات طويلة وما يزالان إلى حد ما محتفظان بقيمتهما الأخلاقية والدينية ، وكذا شكل تصميمهما السابق ، دون تغيير جوهري أو تجديد عدى في نوع وخامة القماش..لكن البالطوهات لم تبق على تصميمها وشكلها الأول ، بقدر ما أن تغيير وتحديث وتطوير أشكالها وموديلاتها المستمر حسب إيقاع حركة الموضة ، ساهم إلى حد كبير في ابتعادها عن الغاية منها في ستر جسم المرأة الخارجي ، وجعلها رداء للإغراء والإثارة ، بدلاً من كونها تميز للحشمة والوقار والاتزان، لدرجة أن عدم ارتدائها أفضل في تقديري". وتعد الجلابيب الطويلة ، من أكثر أنواع البالطوهات حشمة وربما أقدمها ،قبل أن تصبح اليوم موضة تيمز نساء وفتيات الأسر المنتمية للتيار الديني المحافظ والملتزم .. على عكس تقليعات البالطوهات "الضيقة" ، و"المفتوحة" ، و"المجنحة" ، و"المزخرفة" ، والبراقة ، التي تمثل موضة التيار الآخر من الفتيات المنفتحات ، ممن بدأت هذه التقليعات في الآونة الأخيرة تتسرب في أوساطهن على استحياء وخجل خاصة بنات المدارس والجامعات والموظفات. إثارة ورغم أن نظرة الاحتقار هي النظرة السائدة لدى المجتمع تجاه من يرتدين هذه الأنواع، فإن من المفارقات أن تحرر الفتاة وانفتاحها من عدمه تقاس من وجهة نظر الكثيرين إلى جانب المستوى التعليمي والانفتاح الفكري من المظهر الخارجي للفتاة . ويكمن الاختلاف بين هذه التصميمات من حيث شكل التصميم ، وعدد الفتحات وطريقة تفصيل القماش وألوان الزخارف وأشكالها، أما مستوى مدى إثارتها فإنه يتحدد ، حسب نوعية الموديل والخامة ، وكذا نوعية ما يتم تركيبه على البالطو من أنواع ما يعرف "بالبراقع" ، سواء كانت الطويلة الغامقة ، أو القصيرة الشفافة منها ، بالإضافة إلى نوعية البنطلون (الجينز) ،ومدى ارتفاع كعب الحذاء . غير أن معظم هذه التصميمات، لا يكتفي بإبراز مفاتن الجسد ، وإثارة الغرائز، لتأتي أسماء موديلاتها المستوحاة من مسميات ومصطلحات هابطة ، لتجريد الرداء من وظيفته ، وتجعل من مجرد ارتدائها الملفت للانتباه ، وغير المكترث برد فعل الشارع العام ، أشبه بمحاولة فرض قناعة تقبلها واعتيادها من قبل الشارع. ومن بين المسميات التي تحملها هذه التصميمات (السهرة ، والمشلخ ، والمخلع ، وأتبعني إلى غرفة النوم ، والبرتقالة ، ..الخ ) ، وهي مسميات كما يقول منتجوها ومروجوها : "عادة ما نطلق نحن ، وأما أن يتم تسميتها من قبل الفتيات أنفسهن ، أو تأتي من بلدانها في الخارج مسماه جاهزة ". . وما يثير الانتباه ليس ما يكشفه اختلاف منتجيها حول مصادر هذه التصميمات بين ما يرد من الخارج وخاصة من بلدان الخليج ، وما يتم ابتكاره من قبلهم كما يؤكد الغالبية "حسب نوعية وجودة القات " ، الذي عادة ما يتم تعاطيه أثناء الاشتغال عليها ، بل المثير هو انتشار استخدام البالطوهات على نطاق واسع في مناطق اليمن بما فيها مناطق الشطر الجنوبي سابقاً ، والتي كانت فيها المرأة أكثر تحرراً وانفتاحاً في مظهرها عما هو اليوم ، بيد " أن من الانعكاسات السلبية لتحقيق وحدة الوطن عام 1990م انتشار البالطوهات في أوساطهن بشكل لافت للنظر" ، على حد قول المهتمين. اجانب واحراجات! عمال أجانب كما أن من الملاحظ من خلال زيارة محلات إنتاج البالطوهات ، انتشار الكثير من العاملين الأجانب وتوليهم لعملية الخياطة وغالبيتهم من الهنود والباكستان الذين يعملون في مجالات كثيرة في اليمن إلى جانب الخياطة ، وخاصة الإشراف على الفنادق والمستشفيات . وعادة ما يكون المانع وراء تحرج الكثيرات من ارتداء مثل هذه الأنواع من البالطوهات مرتبط بالعادات والتقاليد الاجتماعية السائدة والوازع الديني والأخلاقي ، وبقدر ما تواجه الفتيات خاصة المنتميات إلى أسر محافظة أصناف شتى من أشكال الردع والتوبيخ التي تحول بينهن واقتناء وارتدائها قد تصل إلى حد الضرب أحياناً ، فان غيرهن من الفتيات لا يجدن أي مشكلة تذكر في ارتدائها ، خاصة وان غالبيتهن من المنتميات إلى أسر منفتحة جداً ومتعلمة ، أو من الفتيات القاصرات السن والتعليم واللواتي يواجهن مشاكل أسرية تتصل بالحرمان وفقدان أحد الأبوين. ويتحفظ منتجو هذه البالطوهات في المصارحة بوجهة نظرهم حول مدى قناعتهم بترويج مثل هذه التصميمات وبيعها إذا ما اقترن ذلك بتنافيها مع الأخلاقيات العامة وخاصة اليمنيين منهم لكنهم يجمعون على أن الإقبال عليها يقتصر على الفتيات المراهقات واللواتي عشن خارج اليمن "المغتربات" . تعاطي خجول والغريب في مجتمع محافظ عدم إثارة النقاش حول هذه المسألة على مستوى واسع و بشكل علني ، رغم الاستياء الواسع عليها ، بل أن الاعتراض عليها قد يقتصر على مواقف وآراء مختلفة يجرى تبادلها في أحاديث جانبية سواء في مجالس تعاطي القات والأماكن العامة ، أو في ردود أفعال متفاوتة الحدة قد تواجهها الفتاة في الشارع في هيئة عبارات لوم وشتائم وتجعلها أكثر عرضة من غيرها للتحرشات. ويرى بعض المحافظين في من يرتدينها خروج عن القيم والأخلاق والمبادئ ،أما أصحاب الفكر المنفتح يعتبرون الالتزام بها نوع من أنواع تقييد حرية المرأة ويطالبون بإلغائها تماماً . أما المختصون الاجتماعيون فيتحاشون الخوض في هذا الموضوع بحجة أن إثارته يوسع من الظاهرة ولا يحلها.. ويكتفي المختصون بالإشارة إلى إن الفتيات اللواتي يقمن بارتداء هذه البالطوهات لا يمثلن نسبة تثير القلق .. ويقولون: " أنهن يرتدينها بعلم أهاليهن ممن يدعون بالانفتاح ". ويحصرون هذه المشكلة على اليمنيات القادمات من الخليج والأجنبيات، وإذا كان هناك من فتيات يمنيات ، فان السبب في تصورهم لا يعدو في الغالب "إهمال وتسيب من أرباب الأسر".. غير أن تغطيه هذه الأنواع من البالطوهات لمعظم مخرجات مراكز ومحلات البيع والإنتاج ، مثلما ساهم في إرغام من لا تناسبهن هذه الأنواع من البالطوهات على تفضيل تقديم المواصفات التي تتناسب مع أذواقهن والانتظار بالتالي لتجهيزها على أخذ البالطوهات الجاهزة . كما أن تزايد انتشار هذه البالطوهات المستمر قد دفع خطباء المساجد إلى الإعراب عن امتعاضهم من هذه التقليعات " المخلة بالآداب العامة" ، وأجمعوا إلى جانب تحميلهم أولياء الأمور مسئولية "هذا الانفلات" ، على عدم جواز ترويجها ولبسها ،باعتبارها تسهم في تدمير الأخلاق والتمسك بالقيم الإسلامية.