البخيتي يتبرّع بعشرة ألف دولار لسداد أموال المساهمين في شركة الزناني (توثيق)    فشل العليمي في الجنوب يجعل ذهابه إلى مأرب الأنسب لتواجده    تعليق على مقال زميلي "سعيد القروة" عن أحلاف قبائل شبوة    بنوك هائل سعيد والكريمي والتجاري يرفضون الانتقال من صنعاء إلى عدن    النخب اليمنية و"أشرف"... (قصة حقيقية)    لماذا نقرأ سورة الإخلاص والكافرون في الفجر؟.. أسرار عظيمة يغفل عنها كثيرون    اعتراف رسمي وتعويضات قد تصل للملايين.. وفيات و اصابة بالجلطات و أمراض خطيرة بعد لقاح كورونا !    مدرب بايرن ميونيخ: جاهزون لبيلينغهام ليلة الثلاثاء    ماذا تعني زيارة الرئيس العليمي محافظة مارب ؟    لأول مرة.. مصر تتخذ قرارا غير مسبوق اقتصاديا    رسالة سعودية قوية للحوثيين ومليشيات إيران في المنطقة    كأن الحرب في يومها الأول.. مليشيات الحوثي تهاجم السعودية بعد قمة الرياض    طفلة تزهق روحها بوحشية الحوثي: الموت على بوابة النجاة!    الكشف عن الفئة الأكثر سخطًا وغضبًا وشوقًا للخروج على جماعة الحوثي    وزارة الأوقاف بالعاصمة عدن تُحذر من تفويج حجاج بدون تأشيرة رسمية وتُؤكّد على أهمية التصاريح(وثيقة)    ليفاندوفسكي يقود برشلونة للفوز برباعية امام فالنسيا    ثلاثة صواريخ هاجمتها.. الكشف عن تفاصيل هجوم حوثي على سفينة كانت في طريقها إلى السعودية    عودة تفشي وباء الكوليرا في إب    رئيس مجلس القيادة: مأرب صمام أمان الجمهورية وبوابة النصر    الجرادي: التكتل الوطني الواسع سيعمل على مساندة الحكومة لاستعادة مؤسسات الدولة    حاصل على شريعة وقانون .. شاهد .. لحظة ضبط شاب متلبسا أثناء قيامه بهذا الأمر الصادم    القرءان املاء رباني لا عثماني... الفرق بين امرأة وامرأت    رئيس كاك بنك يشارك في اجتماعات الحكومة والبنك المركزي والبنوك اليمنية بصندوق النقد والبنك الدوليين    استشهاد 23 فلسطينياً جراء قصف إسرائيلي على جنوب قطاع غزة    فيتنام تدخل قائمة اكبر ثلاثة مصدرين للبن في العالم    ليفربول يوقع عقود مدربه الجديد    رباعي بايرن ميونخ جاهز لمواجهة ريال مدريد    عاجل محامون القاضية سوسن الحوثي اشجع قاضي    قائمة برشلونة لمواجهة فالنسيا    لأول مرة في تاريخ مصر.. قرار غير مسبوق بسبب الديون المصرية    المواصفات والمقاييس ترفض مستلزمات ووسائل تعليمية مخصصة للاطفال تروج للمثلية ومنتجات والعاب آخرى    يونيسيف: وفاة طفل يمني كل 13 دقيقة بأمراض يمكن الوقاية منها باللقاحات    وفاة امرأة وإنقاذ أخرى بعد أن جرفتهن سيول الأمطار في إب    واشنطن والسعودية قامتا بعمل مكثف بشأن التطبيع بين إسرائيل والمملكة    رغم القمع والاعتقالات.. تواصل الاحتجاجات الطلابية المناصرة لفلسطين في الولايات المتحدة    افتتاح قاعة الشيخ محمد بن زايد.. الامارات تطور قطاع التعليم الأكاديمي بحضرموت    الذهب يستقر مع تضاؤل توقعات خفض الفائدة الأميركية    اليمن تحقق لقب بطل العرب وتحصد 11 جائزة في البطولة العربية 15 للروبوت في الأردن    استهداف سفينة حاويات في البحر الأحمر ترفع علم مالطا بثلاث صواريخ    ''خيوط'' قصة النجاح المغدورة    الريال اليمني ينهار مجددًا ويقترب من أدنى مستوى    للمرة 12.. باريس بطلا للدوري الفرنسي    كانوا في طريقهم إلى عدن.. وفاة وإصابة ثلاثة مواطنين إثر انقلاب ''باص'' من منحدر بمحافظة لحج (الأسماء والصور)    ريمة سَّكاب اليمن !    السعودية تعيد مراجعة مشاريعها الاقتصادية "بعيدا عن الغرور"    نداء إلى محافظ شبوة.. وثقوا الأرضية المتنازع عليها لمستشفى عتق    في ذكرى رحيل الاسطورة نبراس الصحافة والقلم "عادل الأعسم"    طلاب جامعة حضرموت يرفعون الرايات الحمراء: ثورة على الظلم أم مجرد صرخة احتجاج؟    كيف يزيد رزقك ويطول عمرك وتختفي كل مشاكلك؟.. ب8 أعمال وآية قرآنية    أسئلة مثيرة في اختبارات جامعة صنعاء.. والطلاب يغادرون قاعات الامتحان    الدوري الانكليزي الممتاز: مانشستر سيتي يواصل ثباته نحو اللقب    - نورا الفرح مذيعة قناة اليمن اليوم بصنعاء التي ابكت ضيوفها    من هنا تبدأ الحكاية: البحث عن الخلافة تحت عباءة الدين    قضية اليمن واحدة والوجع في الرأس    القات: عدو صامت يُحصد أرواح اليمنيين!    من كتب يلُبج.. قاعدة تعامل حكام صنعاء مع قادة الفكر الجنوبي ومثقفيه    الشاعر باحارثة يشارك في مهرجان الوطن العربي للإبداع الثقافي الدولي بسلطنة عمان    - أقرأ كيف يقارع حسين العماد بشعره الظلم والفساد ويحوله لوقود من الجمر والدموع،فاق العشرات من التقارير والتحقيقات الصحفية في كشفها    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



نظرية الغزالي السلوكية أساساً للإصلاح الاجتماعي
نشر في الجمهورية يوم 16 - 03 - 2007

كانت وراء اختياري لهذا الموضوع بواعث ذاتية وأخرى موضوعية؛ تمثلت الأولى في قناعتي الشخصية بغنى تراثنا الإسلامي غنى لايضاهيه إلا جهل به أو تجاهله في الصروح العالية للبحث العلمي، الأمر الذي جر إلى نتائج أحسبها وخيمة، كان من أهمها قصور الدراسات النفسية والاجتماعية عن تلمس الحقائق الكونية في هذه الميادين من جهة، واقتصارها، نتيجة لذلك، على ماله سمة الذيوع والانتشار من الأفكار ولو جانبت الصواب من جهة أخرى.
أما فيما يخص الدوافع الموضوعية لهذه الدراسة فشديدة الصلة بمضمونها الذي كشف لي بأن الإمام أبا حامد الغزالي1 هو صاحب النظرية المسماة بنظرية الإشراط، المنسوبة خطأ إلى «بافلوف»2 بل إن الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي ذكر في عنوان المقالة التي أشار فيها إلى هذا الخطأ، أن النظرية سرقت من الغزالي، فعنوان المقال يقول: «ماهي حقيقة الخير والشر؟ أو النظرية التي سرقت من الغزالي»3.
قد لا أميل إلى القول بسرقتها، وإن كان ذلك غير مستبعد، ف«بافلوف» لم يكن السباق إلى لفت الانتباه إلى فكرة الارتباط بين المثيرات والاستجابات حتى في الفكر التربوي الغربي، وأساس عدم استبعادي للسرقة أن الغرب دأب على أن ينسب إليه بنظريات ويدعي حيازة السبق فيها فتأتي الوقائع الحقة لتخالف ذلك، وتثبت أنها من نتاج غيره، ومن بنات أفكار آخرين.
لن أقارب في هذه الدراسة كل نظريات الارتباط بما ورد عند الإمام الغزالي، فذلك أمر يطول ويتسع،4 لكنني سأكتفي بمقارنة نظرية الإشتراط بين الغزالي و«بافلوف»، تاركاً بقية النظريات الاقترانية خارج حدود البحث؛ لأتوجه إلى الحديث عن آثار هذه النظرية السلوكية في الإصلاح الاجتماعي، وبيان الحاجة إلى استلهامها في فقه الواقع مقدمة للدعوة والتربية والتبليغ.
كثيرة هي المحاولات التي جدّت في تفسير سيكولوجية السلوك الإنساني، والملاحظ أن أكثر هذه المحاولات انطلقت من تجارب كانت تجرى على الحيوانات، فلم ترق بنتائجها إلى مستوى الحقائق العلمية الموثوق بها، بل بقيت فرضيات تعطي بعض الضوء ولاتهدي الإنسان إلى حقائق السلوك عند الإنسان، ذلك الكائن المجهول.
إن النظرية العلمية هي جملة من القوانين الواضحة التفاعل فيما بينها، تعطي تفسيراً شاملاً لظاهرة رئيسية «نظرة داروين، أنشتاين...»، أما نظريات التعلم «وهو جزء من السلوك» فلا تعطينا تفسيراً شاملاً ومتفقاً عليه لما يحدث في أثناء التعلم؛ ولذلك فمن الأسلم اعتبارها مجرد نظريات افتراضية5، يؤخذ على هذا التعريف الذي أورده فوزي أيوب، إدراجه نظرية داروين ضمن النظريات العلمية، رغم أنها انتقدت وتجاوزها الباحثون في علم النفس وفي مقدمتهم تلامذة داروين أنفسهم، ولعل هذا ماجعل الدكتور نشواتي يكون أكثر حذراً في إعطاء تعريف للنظرية، فقال بأنها مجموعة من المبادئ الموجهة التي تزودنا بإطار يمكننا من فهم طبيعة سيكولوجية الأنماط السلوكية المتنوعة6.
إن أهم النماذج أو النظريات التي حاولت تفسير السلوك الإنساني انطلقت من ميدان التعلم، لكون التعلم نشاطاً تميز به الإنسان عن سائر المخلوقات الحيوانية، فتوجه علماء النفس إلى دراسته وتحديد ماهيته وآليته، وكان من أهم العلماء المحدثين الذين اشتغلوا بهذا الأمر «تورانديك» و«غثري»؛ فالأول منهما قال بنظرية التعلم أو الربطية «Connectionism»، ومعناها حدوث ارتباطات بين المثيرات والاستجابات «Learning by Selecting and Connecting»، وأهم تلك المثيرات الثواب، الذي يدفع إلى حدوث سلوكات يراد تعلمها، ويعد هذا العالم سباقاً في ميدان التعلم الإشراطي ونظريات التعزيز7، أما «غثري» Guthrieَ»، فقال: بأن «الحركة المرافقة لمجموعة من المثيرات تنزع إلى الحدوث ثانية لدى ظهور هذه المثيرات»،8 ومن هنا نفهم الفرق بين السلوك المعقد، والبسيط، المتعلقين بعدد الارتباطات قلة أو كثرة، وكلا الرجلين لا يعتمدان في تصورهما على الدافعية الفطرية التي يعتبرها بعضهم ذات أهمية لاتنكر في حدوث المتغيرات السلوكية9.
الملاحظ فيما سبق قوله، وفيما سيأتي من حديث عن «بافلوف» أن البحث في السلوك الإنساني لدى الغربيين سار على هدى من الفلسفة؛ نتيجة لانفصال العلوم عنها أو انفصالها عن تلك العلوم، وميدان البحث النفسي واحد من هذه الحقول المعرفية، التي اتسعت في ضوء المنهج التجريبي، المركز على الحالة المدروسة من دون الاستعانة بالبعد الديني أو الفلسفي للظاهرة، وهي مشكلة في المنهج عانى منها البحث في العلوم الإنسانية لدى الغرب ولايزال.
أتصور أنه من الأهمية بمكان استصحاب السياق أو الجو العام الذي نشأت فيه أيه فكرة أو نظرية؛ لأن ذلك يعطينا القدرة على تصور الجذور الحقيقة لما نريد أن نعالجه، ويساعدنا على تفهمه، ومن ثم نقده وتقويمه.
لقد كان سياق الإشراط عند الإمام أبي حامد الغزالي، أو «سبق الوهم إلى العكس» كما سماه هو البحث في حقيقة الخير والشر، تلك المسألة القديمة قدم الإنسانية، والتي تباينت الآراء فيها تبايناً إلى حد التناقض؛ فمثلاً يرجع البعض مفهوم الخير والشر إلى الأعراف، بحيث كان حنق طفل صغير في دنّ من الخمر خيراً عند قدامى الرومان، وكان وأد البنات كذلك خيراً وشهامة عند بعض العرب في الجاهلية، وقتل زالولد لوالده في مناطق المتجمد الشمالي براً مابعده برّ إراحة للكبير من قساوة الطبيعة وبرودتها.
وفسر آخرون حقيقة الخير والشر بقيمة السعادة الشخصية، التي هي حقيقة ذاتية لكل من الشر والخير؛ قال بذلك قديماً «أبيقور» «230ق.م» وحديثاً «هوبز» وقد كان الرجلان مدفوعين بنزعة الأنانية التي «هي ذروة ماتقوم عليه حقيقة كل من الشر والخير عند هؤلاء»، وقدرها «استيوارت ميل» و«بنتام» بالمنفعة العامة، ولكن هذه الأخيرة لايمكنها أن تكون إلا في صالح بعض من دون آخرين10.
أما علماء الإسلام فقد عالجوا هذه القضية في الفلسفة وفي علم أصول الفقه الإسلامي، وكان أبرز هؤلاء أبو حامد الغزالي، وقبل عرض ماقاله الغزالي وفي هذا الموضوع، أشير إلى أن سبب الاختلاف في مفهوم الخير والشر نابع من توهم بعضهم أن لهما مضموناً ذاتياً، في الوقت الذي لامضمون لهما، بل هما انعكاس لما نتصوره نحن من منطلق طباعناً وفطرتنا، التي بتبدلها تتغير قيمة الخير والشر وبثباتها تثبت إذا فحقيقة الخير والشر في المنظور الإسلامي اعتباري، رسخ مفهومها بطول الاقتران مع ما «يميل إليه الطبع أو بما يتناسق مع وضع التركيب الاجتماعي؛ فقد أورثها طول هذا الاقتران معنى الحسن أو القبح فيما تتوهمه النفس؛ حتى وإن انفكت العلاقة بينهما بعد ذلك، إذا إنها قد رسخت في النفس فهي ماثلة فيه»11.
إن الدافع الذي حدا بعلماء الإسلام إلى البحث عن حقيقة الخير والشر هو تأمل الأساس الذي قامت عليه الشريعة الإسلامية، التي ماجاءت إلا لحماية مصالح الإنسان التي لاتتبدل عبر الزمان والمكان، وهي حفظ الدين والنفس والعقل والمال والنسل، واجتمعوا مع غيرهم من الفلاسفة في هذا المضمار وشقوا لأنفسهم طريقاً أوصلهم إلى أن حقيقة الخير والشر اعتبارية، ويمثل الدكتور البوطي لنظرتهم ب «القطع المتناثرة لآلة محركة أو طابعة، فإذا ماتضامت الواحدة إلى بعضها، وشملتها جميعاً الهيئة التركيبية المطلوبة، تجلى فيها عندئذ معنى الحسن أو الخير، منبثقاً من العلاقة القائمة بين تلك القطع المتآلفة»12.
أما الطبيب الروسي «بافلوف» فلم أجد لديه سياقاً مقصوداً عندما بحث في الإشراط سوى أنه كان يدرس الجهاز الهضمي، ثم انتقل إلى دراسة فيزيولوجية الجهاز العصبي، لأهميته في التعليم، وحينها اكتشف كيفية تكوين المنعكسات الشرطية الكائنات الحية، ففسر بها ظاهرة التعلم، وعلى آثاره اقتفى مؤسس المدرسة السلوكية «واطسون» «.......» عام 1915م ليجعل نظرية «بافلوف» أساساً لتفسير السلوك الإنساني 13.
أورد الإمام أبو حامد الغزالي نظريته المسماة «سبق الوهم إلى العكس»:
ومضمونها ذاته تقريبا في نظرية «بافلوف» في معرض رده على المعتزلة في الحسن والقبح، والذي يتلخص في ثلاث نقاط:
1 الاصطلاح العامي المشهور، بأن الأفعال تنقسم بحسب مايوافق غرض الفاعل ومايخالفه إلى حسن وقبيح وعبث.
2 الحسن هو ماحسنه الشرع بالثناء على فاعله، وافق غرضه أم لا.
3 الحسن هو كل مالفاعله أن يفعله «فيكون المباح حسناً مع المأمورات وفعل الله يكون حسناً بكل حال» 14.
وبعد أن يعرض الغزالي رأي المعتزلة هذا، يرد عليه من أوجه ثلاثة ،لايعنينا في سياق هذا البحث إلا الوجه الثالث:
1 إن مرد القبح إلى طبع الإنسان الخاص، فالاستقباح شخصي وليس موضوعياً.
2 طول النشوء على استقباح أشياء واستحسانها يورث الاعتقاد بأنها دوماً كذلك.
3 أما الوجه الثالث في توهم الحسن والقبح، فسببها «سبق الوهم إلا العكس، فإن مايرى مقروناً يظن أن بالشيء أيضاً لا محالة مقرون به مطلقاً «...» ومثاله نفرة نفس السليم، وهو الذي نهشته الحية عن الحبل المبرقش «...» لكن خلقت قوى النفس مطيعة للأوهام وإن كانت كاذبة »15 ثم يورد الغزالي مثالاً آخر عن حالة المشرف عن الغرق وموقف المنقذ، «وسببه أن الإنسان يقدر نفسه في تلك البلية ويقدر غيره معرضا عنه وعن إنقاذه فسيتقبحه منه بمخالفة غرضه، فيعود ويقدر ذلك الاستقباح من المشرف على الهلاك في حق نفسه، فيدفع عن نفسه ذلك القبح المتوهم، فإن فرض في بهيمة أو في شخص لا رقة فيه فهو بعيد تصوره».
وحتى لو تصور فطلب الثناء على إحسانه فهو الدافع؛ لأن المنقذ إذا كان وحده ولا أحد يعلم به فيتوقع أن يعلم فهذا يؤثر،لأنه رأى صورة الذي يقدم على إنقاذه غريق مقرونة بالثناء فظن أن الثناء دوماً مقرون بها16.
كما بحث الإمام الغزالي هذه النظرية مبكراً في كتابه «تهافت الفلاسفة» في سياق بحثه عن المعجزة، فقد ذكر أن الفلاسفة لم يثبتوا من المعجزات الخارقة للعادات إلا بثلاثة أمور:
1 بالخيال: وفيه يكشف للإنسان عن عوالم أخرى، ويتأتى ذلك يقظة للأنبياء ونوماً لبقية الناس.
2 بقوة الحدس: وهي سرعة الانتقال من معلوم لآخر، وقد اجتمعت في النبوة في كل الأوقات ولجميع المعقولات17.
3 بالقوة النفسية العملية،وهذا مايهمنا بالنسبة لنظرية سبق الوهم إلى العكس، «ومثاله أن النفس منّا، متى توهمت شيئاً خدمتها الأعضاء والقوى التي فيها، فتحركت إلى الجهة المطلوبة؛ حتى إذا توهمت شيئاً طيب المذاق تحلبت أشداقه، وانتهضت القوة الملعبة فياضة باللعاب من معادنه، وإذا تصورت الوقاع، «الجماع» انتهضت القوة، فنشرت الآلة، بل إذا مشى على جذع ممدود على فضاء طرفاه على حائطين، اشتد توهمه للسقوط فانفعل الجسم بتوهمه وسقط، ولوكان ذلك على الأرض لمشى عليه ولم يسقط ؛ وذلك لأن الأجسام والقوى الجسمانية، خلقت خادمة مسخرة للنفوس،ويختلف ذلك باختلاف صفاء النفوس وقوتها، فلا يبعد أن تبلغ قوة النفس إلى حد تخدمها القوة الطبيعية في غير بدنه؛ لأن نفسه ليست منطبعة في بدنه، إلا أن لها نوع نزوع وشوق إلى تدبيره، خلق ذلك في جبلته، فإذا جاز أن تطيعها أجسام بدنها لم يمتنع أن يطيعها غيرها» 18. ومن ثم فإن مانلاحظه في الكون من تلازم الأسباب والمسببات ليس ضرورياً أبداً، لأن السب إذا حل محله شيء مقترن به أدى إلى النتيجة نفسها والمعجزة هي ظاهرة تفسر بخروج المسببات عن أسبابها 19.
وللتذكير فإن ابن رشد في «تهافت التهافت»، الذي استدرك فيه على الغزالي بعض الأمور، لم يعلق على ماقاله الغزالي مما نقلناه لبيان ريادة الإمام في هذه النظرية السلوكية؛ مما يعني أن الفيلسوفين متفقان.
من هذا المنطلق الفلسفي أبدع الغزالي نظريته، مما يوحي بأن العلوم في الإسلام لا تنفصل عن النظرة الشاملة للكون «الإنسان والحياة» بخلاف البحث في المنظور الغربي الحديث، الذي أثر على منهجنا في البحث فتبعناه حذواً بحذو وذراعاً بذراع؛ ف «بافلوف»، الذي تنسب إليه هذه النظرية خطأ، أجرى اختباره على كلب، وضعه «في صندوق عازل للصوت بعد تعرضه لعملية جراحية يتم بها تحويل فتوحات القنوات اللعابية إلى خارج الفم والجلد، لتسهيل ملاحظة إفراز اللعاب وقياس كميته، ويتناول الكلب في أثناء وجوده داخل الصندوق مسحوق اللحم بعد قرع جرس معين، ففي كل مرة يقرع فيها الجرس، يقدم مسحوق اللحم للكلب مباشرة لدى سماعه لصوت الجرس، وبعد تكرار عدد من المحاولات على هذا النحو، أي قرع الجرس فتقديم المسحوق، يتعلم الكلب إفراز اللعاب نتيجة لسماع صوت الجرس فقط» 20.
إن الإشراط الكلاسيكي هو في جوهره تشكيل ارتباط بين مثير شرطي ما واستجابة ماناتج عن ارتباط بين مثير شرطي وغير شرطي، أي بين صوت الجرس ومسحوق اللحم، والجرس في حد ذاته لايملك صفة الإثارة وحده، وإنما اكتسب ذلك بعد طول الاقتران مع مسحوق اللحم، لذلك فهو يفقد صفة إثارة اللعاب إذا تكرر قرع الجرس من دون تقديم مسحوق اللحم.
وتتدخل في هذه التجربة عدة عوامل مؤثرة منها:
1 كمية التدريب: والمقصود بها عدد مرات اقتران المثير الشرطي بغير الشرطي، بحيث إذا تكرر الاقتران يعطي الاستجابة المرغوب فيها، وتبلغ مداها بعد ثلاثين اقتراناً تقريباً خلال أسبوعين.
2 الأفضل أن يكون الفاصل الزمني بين تقديم المثير الشرطي وغير الشرطي هو نصف ثانية والزيادة والنقصان يضعفان.
3 أثبتت الدراسات وجود علاقة بين شدة المثير غير الشرطي وقوة الاشراط 21.
إن هذه العوامل المساعدة على فهم شدة الارتباط بين المثير الشرطي وغير الشرطي تمكن الدارس لسلوك المجتمع من قراءة الواقع الذي يتحرك فيه بعمق، فكيف إذا كان ذلك الدارس مصلحاً اجتماعياً له رسالة في الحياة؟
حاول السائرون على طريق «بافلوف» الارتقاء بالنظرية من المجال الحيواني إلى تعميم يطول الإنسان، فقالوا بأن «مستوى أداء الأفراد الذين يتلقون تعليمات لفظية قبل عملية الإشراط بعدم طرف جفن العين بالصدمة الهوائية، كان أقل من مستوى أداء الأفراد الذين يتلقون مثل هذه التعليمات» 22.
فاعتماد اللغة والتجريد نقل مستوى الاشراط من البسيط الذي يشترك فيها الحيوان والإنسان إلى الراقي الذي يحدث عند الإنسان وحده 23.
إن الموازنة بين هذه النظرية لدى كل من «بافلوف» والإمام الغزالي من حيث التسمية، تجعلنا نقول بأن في التسمية النظرية بالاشتراط عموماً، وفي ذلك تركيز على العلاقة بين المثير والاستجابة، أما تسمية الغزالي لها بسبق الوهم إلى العكس فتنطلق من الماهية التي هي أدق في إعطاء التعريف من التركيز على العلاقات.
هذا فيما يخص التسمية، أما فيما يتعلق بالمضمون فهو متقارب إلى حدّ كبير بين الرجلين، والفوارق تكمن في أن الغزالي وصل على اكتشافها من باب الفلسفة، حين بحث في حقيقة الخير والشر وظاهرة المعجزة، أما «بافلوف» فكان يدرس الجهازين الهضمي والعصبي من خلال تجارب على الكلاب!
وهذا الأمر يثير قضية منهجية في علم النفس، تكمن في مصداقية الأبحاث التجريبية على الحيوان بهدف الوصول على معرفة النفس البشرية.
كما يعتبر الطبع والاعتبارية من عوامل هذا الاقتران، وبعبارة أخرى أن سبب الاقتران شخصي وليس موضوعياً، فيمكن تغيير المثيرات وتنويعها، مايجعل حقيقة.
الخير والشر اعتبارية وليست ذات قيمة ذاتية،الأمر الذي يفسر ظاهرة السلوك عند الإنسان،ومنها ظاهرة التعلم،التي ركز عليها أصحاب الإشراط.
يضاف إلى هذه المقارنة للنظرية عند الغزالي و«بافلوف» أمر يتعلق بالمثير الشرطي، فقد يكون واضحاً في بعض الأحيان وقد يكون غير واضح لدقته24،ولذلك آثار على السلوك الإنساني كما سيأتي بيانه.
نشير هنا إلى ملحوظة مهمة تتعلق بتطوير هذه النظرية في بُعديها الإسلامي والغربي؛فقد عني الدارسون بالحديث عن نظرية الإشراط لدى «بافلوف» تجريباً وتطبيقياً،فتعرضوا للعوامل المؤثرة فيها،كالفاصل الزمني بين تقديم المثير الشرطي ،وشدة المثير،ودرجة الاستجابة ،وكمية التدريب ،أما الدراسات التي اشتغلت انطلاقاً من نظرة الغزالي فلم يكتب لها الانتشار،وبقيت حبيسة الرفوف في المكتبات.
إن لنظرية الإشراط بمفهومها الغزالي لا البافلوفي تشكل أساساً ثقافياً مهماً للداعية والمصلح الاجتماعي في تحركه بدعوته وإسلامه؛ فالسلوك عند أغلب الناس يتغير بلا وعي غالباً مع مرور الزمن،وهذا التغير في الواقع الذي نعيشه لايخرج عن وجود مؤثر أنتج استجابة سلوكية، وبعامل الوقت وتكرار المؤثر تجد الفرد غيّر من سلوكاته ويدل، من دون الالتفات إلى فطرته وقناعاته السابقة،بل إن كثيراً ما يحدث من ذلك للفرد والمجتمع يكون
بغير رضى منهم وإرادة،ماجعل الكائدين ممن لا يبغون للأمة الخير،وعلى رأسهم علماء النفس والاجتماع العاملون لصالح المؤسسات الاستعمارية يفيدون من نظرية الإشراط،التي أبدعها علماؤنا وطوّرها غيرنا ليوجهوا سلوكنا في غير ما نشتهي ونؤمن،وفي المقابل غفونا عنها نحن وولينا أدبارنا لها ويممنا وجوهنا شطر العفوية واللاوعي فيما نعمل ونسلك،فكنا كما صيرتنا الأقدار، عدلاً وإنصافاً،أمة تابعة لامتبوعة،ومتأثرة لامؤثرة.
لو أن المصلح الاجتماعي استصحب معه هذه النظرية كما سماها الإمام الغزالي «سبق الوهم إلى العكس» لاستطاع أن يتحرر هو نفسه عما استقر في تربيته من أوهام قادته إلى بعض السلوكات الشاذة،كالنرجسية وحب الذات ،وبطر الحق وغمط الناس،وغير ذلك مما ارتبط في الذهن بمرور الوقت حسنه بين الناس،أو قل عظمته والإشادة به،حتى غدا حامل الدعوة والتبليغ ضحية هذا التأثير من حيث يدري ولايدري.لك أن ترى في تعاطي المشايخ مع الناس ،فهو تعاد لايخلو دائماً من الاستعلاء والمباهاة بالمال والسلطان،وهما مثيران يقدرهما كثير من البشر وليسا في حقيقة الأمر بشيء.
لقد تكونت في المجتمع عادات وترسخت أعراف باتت تحكم خصائص المجتمع وتوجه سلوكه،فالبيت أصبح جزءاً من الشخصية في مجتمعات عربية كثيرة،وبات الطموح في بلوغ مراتب عالية بين الناس طريقة اكتناز المال وامتلاك القوة المادية ،التي تتيح للفرد ،الوصول إلى تلبية الحاجات المادية،من سكنى فارهة،ومراكب متعددة مريحة،ووسائل اتصال حديثة ،وقدرة على الاستشفاء في أغلى المشافي، والدراسة في أشهر الجامعات....وكل هذا وغيره كثير وهمٍ سيطر على الأفراد فتنافسوا فيه لبلوغه رجاء الشعور بالذات،والتسلط على الناس ،والتكبر على عباد الله ،بما يمتلك من قدرة ومال،بل غدت تلك الوسائل المادية السبيل الأوحد في حس الناس لبلوغ أعلى المناصب والوظائف. وما يقال بخلاف ذلك دروشة وقلة وعي وافتقاد للشطارة،فما بقي للآداب والأخلاق ساح في الأفئدة والقلوب، بل إن الدنيا غابة يأكل القويّ فيها الضعيف،ومن أعيته الحيلة فمصيره الهلاك والمسكنة.
تلك هل المعادلة الاجتماعية التي تحكم سلوك الناس،وذلك هو الوهم الذي يسبق الإنسان إلى العكس فيتصرف وفقه من دون تأمل وتدبر،ولو تدبر لعلم أن الله سبحانه وتعالى أراد ماهو خير له وأبقى ،وأي خير أحسن حالاً مما وصف الخالق وقدر،وهو وإن كان لايخرج في معظمه عن ارتباط وإشراط .فنعم العلاقة هي!
إن الإسلام في أساسه ميثاق أخذه الله تعالى من بين آدم أول الخلق«وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألستُ بربكم قالوا بلى» 25 ولطول الزمان نسي بنو آدم هذا الميثاق وران على فطرتهم ما اقترفوه من فساد وضلال،فابتعث الله تعالى لهم الأنبياء ليذكروهم.«وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين»26 وما الذكرى؟أليست كلمات تثير في النفس أموراً،فتدفعها إلى فعل شيء أو ترك آخر،وذلك هو عين الإشراط ،.إن الكلمة هي رأس مال الأنبياء والحكماء ،وهي المثير التجريدي الذي يليق بالإنسان العاقل ،والعقل هو مناط التكليف،والاستجابة بالعبودية والاستسلام لله تعالى هي السلوك أو النتاج التعلمي المرجو.
لا يحسن بالمربي أو المصلح الاجتماعي أن يعمل في حقله بين الناس وهو بمنأى عن هذه الثقافة النفسية التي تبصره بواقع الحال،ولو فعل ذلك فبدأ بجرد مافي نفسه وما في نفوس الآخرين من سلوكات مبناها أوهام لاتمت للدين والآداب والفضائل بصلة لأدرك كيف يؤكل لحم الكتف،ولأبصر العلاقات الخفية التي تحكم أفعال الناس،فسعى بحكمة ووعي إلى تفكيكها ثم إعادة بنائها على أسس دينية متينة،فينبه الناس قولاً وعملاً يؤثر في سلوكهم سلباً فيقضي عليه،وإلى ما يؤثر في نفوسهم إيجاباً فيحضهم عليه.إنه إن فعل ذلك فَقِهَ واجبه وأدّى ماعليه وزيادة،«فذكر إنما أنت مذكر،لست عليهم بمصيطر» 27ومن تولى وكفر فأمره إلى الله ،إن شاء عاقبه وإن شاء غفر.
الهوامش
1 هو أبوحامد محمد الغزالي ،خرساني المولد والوفاة،فيلسوف ومتصوف وأصولي ،له نحو مائتي مصنف،يقال له الغزالي «نسبة إلى غزالة من قرى طوس» أو الغزالي «نسبة إلى صناعة الغزال» من كتبه: إحياء علوم الدين،المستصفى ،تهافت الفلاسفة...ولد في «450505ه /10581111م».
«يراجع الزركلي :الأعلام «10أجزاء» .ج7 ص247و248،ط2 مطبعة كوستا توماس وشركاه،القاهرة 1376ه /1956م.
2 هو «إفان باتروفيتش بافلوف» «13491963م» روسي ،نال سنة 1904م جائزة نوبل في الطب، اشتغل في عدة مخابر عالمية،وإليه تنسب نظرية الإشراط إلى اليوم.
Jacques Bersamil et dautres:Encyclp dia Universalis,corpus 17.p652-654,Editeur Paris 1996.
3 محمد سعيد رمضان البوطي ،من الفكر والقلب :فصول في النقد في العلوم والاجتماع والآداب،ص24،دار الفارابي ،دمشق 1414ه /1994م.
4 يكفي أن أشير هنا إلى أن فايز الحاج تقدم بأطروحة دكتوراه في هذا الموضوع سنة 1971م،حملت عنوان« نظرية سبق الوهم إلى العكس عند الغزالي مع مقارنة علمية بآراء الفلاسفة المتقدمين والنظريات الإشراطية الاقترانية الحديثة»،ولقد بحثت عن هذه الأطروحة في المكتبات والأسواق فلم أر لها أثراً،مايعني أنها لم تطبع كما أشار البوطي مع الأسف الشديد «يراجع البوطي: من الفكر والقلب .ص28»
5 فوزي أيوب،نظريات التعلم ،محاضرات مصورة لدبلوم الدراسات العليا بكلية التربية بالجامعة اللبنانية«1998م/1999م»ص2
6 عبدالمجيد نشواتي،علم النفس التربوي ،ص317.ط6، دار الفرقان ومؤسسة الرسالة ،عمان وبيروت 1413ه/1993م.
7 عبدالمجيد نشواتي ،علم النفس التربوي ،ص 82 و93.
8 المرجع السابق .ص329
9 المرجع نفسه.
10 البوطي ،الفكر والقلب ،ص24 و25
11 البوطي من الفكر والقلب ،ص28
12 المرجع السابق،ص26
13 يراجع،نشواتي،علم النفس التربوي،ص336 فوزي أيوب ،نظريات التعلم ص2و3
14 أبوحامد الغزالي «505ه» ،المستشفى ؛من علم الأصول «جزءان» ،ج1 ص 56،دار صادر،بيروت.
15 المصدر السابق ،ج 1 ص59.
16 المصدر نفسه .ج1 ص60.
17 أبوحامد الغزالي «505ه»:تهافت الفلاسفة ،ص 236 و237 تحقيق سليمان دنيا،ط5،دار المعارف ،القاهرة 1972م.
18 المصدر السابق ،ص237،238
19 المصدر نفسه ،ص235، 236.
20 نشواتي،علم النفس التربوي ،ص337
21 المرجع السابق ،ص340 342
22 المرجع نفسه،ص 342
23 فوزي أيوب،نظريات التعلم،ص3
24 يراجع : البوطي ،.من الفكر والقلب ،ص28
25 سورة الأعراف ،آية 7 172.
26 سورة الذاريات آية 5155
27 سورة الغاشية ،آية 88/2122


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.