تقطع مسافة (777كم) بالسيارة "الجيب"عبر الصحراء ، لكي تصل إلى محافظة حضرموت شرق العاصمة صنعاء، بعدها تستأنف رحلة طويلة تستغرق عشرات الأميال، لتتبدى لك مدينة سيئون عاصمة وادي حضرموت، حاضنة القصر السلطاني الآسر المبني من الطين والخشب على النمط التقليدي الحضرمي لسكان الوادي.. و بمجرد أن تحط الرحال فيه، وتسكن أحد غرفه الدافئة في عز الشتاء، حتى تتبخر مشقة وعناء رحلة السفر الطويلة تلك، وتغص وسط أجواء مهرجانية بهيجة من المهرجانات الشعبية التي عادة ما تقام فيه بطلب من الأفواج السياحية وتستمر باستمرار المواسم السياحية، كما تغرق في تفاصيل ليلة أسطورية لا تنسى من العمر، بما تحملك تجليات العروض الفنية الراقصة وجلسات ألدان الحضرمية الأصيلة بالزي المحلي،من عهد تقطعه على نفسك بالعودة إليه مرة أخرى مهما كلفك الأمر من مشقة وعناء. مانهاتن الصحراء في مدينة سيئون عاصمة وادي حضرموت التي جاء أقدم ذكر لها في مطلع القرن الرابع الميلادي، وتقع في الجانب الغربي للوادي، على بعد(12 ميلاً) من مدينة شبام الشهيرة ب"مانهاتن الصحراء"، و(22 ميلاً) عن مدينة تريم التاريخيتين ، يقع هذا القصر السلطاني ، وبالتحديد في منطقة خلع راشد أو ما يعرف بحوطة احمد بن زين نسبة إلى الشيخ أحمد بن زين الحبشي الذي يعتقد أنه شيده هنا قبل أكثر من مائة عام كأول مبنى في المنطقة .. كنت أول الواصلين من بين الزملاء الإعلاميين (من صحافيين ومراسلين) ممن قرروا زيارتها معي للاستمتاع بتصوير معالمها الأثرية والتاريخية قبل التوجه إلى جزيرة سقطرى (عذراء اليمن الفاتنة)، وصلت بالسيارة عصر يوم خميس مشمس إلى مدينة سيئون التي يذكر النقش الموسوم ب (Ir . 37 ) ، ويعود تاريخه إلى عهد الملك " ذمار علي يهبر ملك سبأ وذي ريدان وحضرموت ويمنات " الذي حكم في مطلع القرن الرابع الميلادي ، أن قوات سبئية اجتاحت " وادي حضرموت " وحاصرت " شبام " و " رطغتم" و" سيئون " و" مريمة " ثم " عراهل " و " تريم.. خرجت من مجمع سيارات الأجرة (الفرزة ) مباشرة باتجاه فندق قصرالحوطة الذي يتجلى من بين الأبنية المتراصة كتحفة فنية آسرة ، وكان السؤال الذي يجول في خاطري حينها يدور حول معرفة تاريخ المبنى الذي يكاد يكون مجهولاً بالنسبة للكثير من السكان المحليين الشباب ممن تقتصر حدود معرفتهم له على انه مجرد معلم تاريخي وفندق سياحي يقصده السياح وحسب، لكن المعلومات التي تم جمعها أكدت أنه كان السكن الخاص للشيخ أحمد بن زين الحبشي الذي توفى عام (414 هجرية ) ، ودفن في هذه الحوطة .أما هذه الحوطة فكانت تعرف- حسب الاهالي- ب خلع راشد ، حيث أسست في عهد دويلة آل راشد (400- 700ه) وكانت تتخذ من مدينة تريم عاصمة لها ، ويذكر أن مؤسس الحوطة هو السلطان عبدالله بن راشد بن شجعنة (593-616ه) مكان أشهر سلاطين آل راشد، اتصف بالعلم والعدل والصلاح ، وانتقل إليها الشيخ العلامة أحمد بن زين الحبشي الذي بنى فيها هذا القصر ومسجده بمنطقة (البها ) في عام ( 1080 هجرية) .وتعد الحوطة ذات أهمية جغرافية كونها تتوسط منطقة ( السليل ) وسط وادي حضرموت الرئيس وتتوسط أيضاً الطريق بين سيئون وشبام إضافة إلى ارتباطها بوادي بن علي، وإلى جانب أهميتها الجغرافية وتعد اليوم مركزاً تجارياً مهماً لمنطقة السليل ، الأمر الذي ترتب عليه التوسع العمراني المضطر للحوطة. ويفيد السكان المحليون أن القصر قبل أن يكون بشكله الحالي كان مجرد مبنى وحيد مكشوف يتألف من ثلاثة طوابق ويضم بئراً، ظل مهجوراً فترة طويلة من الزمن يعاني من الإهمال والخراب الذي طال الكثير من أجزائه خلال فترة التشطير. . لكن عملية الاهتمام بالقصر وإعادة ترميمه، لم تبدأ سوى بعد أن تسلمته وكالة العالمية للسياحة عام 1992م ، وبدأت حينها بدراسة مشروع ترميم القصر بما يحافظ على النمط المعماري المميز له بهدف تحويله إلى فندق سياحي من الطراز الرفيع.. ولم تمنع الاحداث التي وقعت في صيف 1994م من استمرار مشروع العالمية للسياحة رغم تعرض المبنى ومواده للنهب والسرقة حينها، حيث استأنفت العالمية العمل في مشروع ترميم وصيانة القصر بعد انتهاء الاحداث مع الحفاظ على الطابع المعماري القديم له ، واضافة بعض اللمسات والتحديثات بما يخدم النشاط الخدمي الفندقي.. وبعد انتهاء المشروع الذي بلغت تكلفته حينها 280 مليون ريال يمني، شملت إضافة مبنيين إلى المبنى القديم على نفس الطراز المعماري التقليدي (الطين والخشب) تم افتتاح المشروع في أكتوبر 1997م من قبل نائب رئيس الجمهورية عبد ربه منصور هادي. وبات القصر اليوم واحداً من أهم المعالم التاريخية والحضارية والسياحية في المنطقة، يقصده السياح العرب والأجانب من الوافدين لمدينة حضرموت على كثرتهم بصورة مستمرة ودائمة باعتباره محطة معمارية مهمة تجسد خلاصة البناء المعماري الحضرمي المتميز الذي يحتل أهمية بالغة على الخارطة المعمارية والحضارية والتاريخية والثقافية لليمن والمنطقة العربية عموما. يصعب على الزائر معرفة خصوصية البناء المعماري لهذا القصر ، دونما المام كامل بمميزات الطابع المعماري الحضرمي بشكل عام والعوامل المؤثرة فيه، والتي تتعدد بتعدد الظروف التضاريسية والمناخية لمدن حضرموت عموماً والتي يسودها المناخ المداري الحار الجاف، وهو المناخ السائد في إقليم جنوب شبه الجزيرة العربية مع بعض الخصائص المحلية في الصيف حيث تتجاوز درجة الحرارة (38ْ مئوية) في المناطق الداخلية للمحافظة وفي المناطق الساحلية (35ْ مئوية) بسبب هبوب الرياح الموسمية الصيفية الجنوبية المشبعة بالرطوبة ، وفي فصل الشتاء لا تتجاوز درجة الحرارة (20 ْمئوية) . كما يتنوع الطراز المعماري حسب التضاريس الطبيعية للمحافظة المقسمة إلى أربعة أقسام تتوزع على السهل الساحلي ، والجبال والهضاب ، ووادي حضرموت ، والسهل الصحراوي، ما جعل من طرازها المعماري يتمتع بتنوعه وتفرده كواحد من اهم الطرز المعمارية العربية الاصيلة التي لم تتأثر بأي طابع معماري دخيل على الاطلاق، لدرجة أن الخبراء والمهتمين بفنون العمارة العربية ، يذهبون إلى الاعتقاد بان طرازها المعماري يجسد في عناصره خصوصية الطابع المعماري لسكان شبه الجزيرة العربية والخليج بشكل عام. ففي حضرموت عموماً تشيد الأبراج والأبنية المعمارية بمادة اللبن (الطين )المخلوط بالقش على أساس من كتل الأحجار ، فيما تطلى الجدران بالجص وأخرى بالطين من الداخل والخارج، بينما تضم الأبنية أكثر من طابق، وتزود المستوطنات المعمارية بشبكة صرف صحي مصنوعة بالطريقة التقليدية من الفخار بهيئة أنابيب مضلعة قائمة الجوانب، كما تشمل أبنية المستوطنة مظاهر معمارية متنوعة تتجلى في المداخل ذات العقود المدببة والمحدبة والمثلثة أو الشبابيك والكوى الطولية والمربعة والمعينة ، أو بهيئة رؤوس سهام وغيرها من العناصر المعمارية الجمالية، التي تجعل من الأبنية والأبراج المتجاورة تشكل وحدة معمارية جمالية فريدة ، كما هو الحال في مدينة شبام التاريخية المسجلة ضمن 3 مدن تاريخية في اليمن بقائمة التراث العالمي ودرج على وصفها بمانهاتن الصحراء. أهمية القصر تنبع أهمية القصر من قيمته المعمارية والتاريخية والسياحية ، كخلاصة للطراز المعماري الحضرمي الذي يتميز بتكيفه مع الظروف المناخية والتضاريسية للمنطقة ، وبتخطيطه الهندسي الفريد الذي يتناسب مع طبيعة الخدمات الفندقية الراقية.. ويمزج القصر في جميع عناصره ومكوناته بين الأصالة والمعاصرة بطابع كلاسيكي رومانسي مميز، ويتجلى ذلك في كل شيء ابتداء من تصميم المبنى الخارجي، والنوافذ والأبواب الخشبية التقليدية المزخرفة، والقمريات الهلالية المفرغة الممتدة على الممرات، مروراً بتصميم الديكور، وتقسيم الغرف وأثاثها التقليدي البسيط، وتوزيع الإضاءة ، وانتهاء بالمهرجانات والحفلات الشعبية الراقصة التي يقدمها حسب طلب السياح الأجانب وتهدف إلى إبراز المكنون التراثي والحضاري الهائل لحضرموت. وتمثل مادة اللبن والقش المادة الخام الرئيسة التي بني منها القصر، وتتميز جدرانه الخارجية بطلائها بمادة الجص الأبيض التي يتم تجديدها ما بين فترة وأخرى ليبدو أكثر توهجاً وجاذبية، بينما تميز جدران الغرف الزخارف والنقوش النباتية والحيوانية التي تظهر على الأقواس الهلالية والمربعة في حواف النوافذ والأبواب الخشبية الداخلية والخارجية وفي العقود الهلالية المفرغة الممتدة على الممرات.. كان القصر إلى فترة قريبة مبنى بسيط، لكنه اصبح اليوم يتألف بشكل عام من ثلاثة مباني يحيطها سور طيني، ويتكون المبنى الرئيس من ثلاثة طوابق والمبنيان الإضافيان من طابقين تضم جميعها 58 غرفة وأربعة أجنحة، وملعباً للأطفال وحديقة واسعة ومسبحين أحدهما للصغار والآخر للكبار، بالإضافة إلى موقف للسيارات وصالة كبيرة للطعام وشرفة للمشروبات ، وصالة للاستقبال.. وتعلو القصر أبراج مستطيلة تحمل العديد من الرؤوس المدببة والعنقودية، كما يحيط مجمع القصر سور طيني مطلي بمادة الجص ينتهي عند بوابته الكبيرة التي تطل منها على نافورة وحديقة واسعة تضم أشجار النخيل والحناء والسدر والعلب والحشائش والورود المتنوعة.. وليس وحده سقف المبنى الرئيس المسقوف بمادة الخشب التقليدية ، فالمبنيان الإضافيان كذلك تم سقفهما بالخشب لينسجما مع المبنى الرئيس في الكثير من عناصر البناء التقليدية ، حيث يضمان غرفاً مستطيلة ومربعة تحمل نفس التصميم التقليدي للمبنى الرئيس. ولم تتأثر الجدران الخارجية للمبنى الرئيس بعوامل الزمن والإهمال، لهذا فإن أعمال الترميم تركزت فقط على الجدران الداخلية وطلائها ، وإعادة النوافذ وترميم الممرات واستحداث ممرات تربط بين المبنى الرئيس والمبنى الشمالي والغربي اللذين تم استحداثهما بما يتناسب مع طبيعة الخدمة الفندقية الجديدة للقصر مع مراعاة الطابع المعماري التقليدي والتخطيط الهندسي للمبنى الأصلي..المبنى الرئيس تم تخصيص طابقه الأول كصالة للاستقبال، وفي جزء منه تقع صالة الطعام، إلى جانب بعض الحمامات الصغيرة، والممرات التي تتفرع لتربط الطابق الأول بالطابقين العلويين من جهة وبين المبنى الرئيس بالمبنيين الإضافيين، أما الطابقان العلويان للمبنى الأصلي فهما عبارة عن غرف للنزلاء يتميز طلاؤها من الداخل باللون الأبيض كما هو الحال في غرف المبنيين المستحدثين اللذين تطل نوافذ غرف بعضهما على الحديقة والمسبحين فيما تطل الشبابيك الخشبية الأخرى على المدينة.. ورغم ماللمحافظة من زخارف ورسوم جدارية في القصر، إلا أن تصميمه الداخلي قد تغير بشكل عام وذلك حسب طبيعة الخدمة الفندقية التي يقدمها، ويظهر ذلك في حالة التعقيد والتكلف في محاولة المزج بين الطابع التقليدي الشعبي القديم لأثاث صالة الاستقبال والغرف وبين طابع الحداثة، حيث يدخل الزائر لصالة الاستقبال على أرضية مفروشة بالسجاد الإيراني المستورد والحصير التقليدي المصنوع من سعف النخيل ، وكذلك أثاث الغرف التي تضم إلى جانب المجلس الشعبي أسرة خشبية وحديدية مستوردة. مركز غونتر غراس يوفر فندق قصر الحوطة للنزلاء من السياح والوافدين، إلى جانب الوجبات التقليدية الحضرمية وتنظيم برامج تأجير السيارات، خدمة حجوزات الطيران وتحويل العملات والصرف وتنظيم الرحلات السياحية وإقامة الحفلات الغنائية والمهرجانات الشعبية الفلكلورية الراقصة بالزي التقليدي التي تشد إليها الأنظار وهي تبرز الموروث الفلكلوري التقليدي الوارف لحضرموت. يقول وافق عبد الحكيم المسؤول عن إدارة فندق قصر الحوطه، :" نحن حريصون من خلال اقامة مثل هذه المهرجانات على تحقيق نوع من التوازن والتكامل فيما يمكن أن يخرج به السائح من انطباع وتصور بحيث تكون لديه فكرة متكاملة عن تجليات الموروث الثقافي والفلكلوري الشعبي لمدن حضرموت وخصوصية الفن المعماري الأصيل.. و يضيف :" ليس من المبالغ القول أن تميز القصر بالطابع المعماري الحضرمي جعله وجهة مهمة للكثير من أهم الوافدين للمنطقة، والإحصاءات تبين أن النسبة التشغيلية للفندق خلال المواسم السياحية بالذات تصل إلى 80 بالمائة ما يصعب تحقيقه عند غيرنا. هذا هو فندق قصر الحوطة 4 نجوم، الذي يعد وجهة مهمة للكثير من الوفود من كبار الشخصيات السياسية والاجتماعية والثقافية والأدبية والفنية المحلية والعربية والعالمية ،وأبرز على سبيل المثال لا الحصر إلى جانب رئيس الجمهورية علي عبد الله صالح رئيس الوزراء الماليزي الأسبق مهاتير محمد ورئيس جمهورية جزر القمر الأسبق احمد بن جوهر والفنان الكبير نور الشريف والأديبة الكويتية ليلى العثمان والأديب العالمي غونتر غراس الذي لدرجة إعجابه بما يعكسه القصر من خصوصية الطابع المعماري الحضرمي ، قرر أن يترك بصماته هنا ،ويبادر بإنشاء مركز تعليمي هو الأول من نوعه لدراسة فنون العمارة الطينية وأصول هذا الفن المعماري العربي والإسلامي الأصيل.