من بوابة الملف الأمني.. إخوان اليمن يحاولون إعادة الصراع إلى شبوة    النعي المهيب..    الذهب يهبط إلى أدنى مستوى في 4 أسابيع    الشيخ الزنداني يروي قصة أول تنظيم إسلامي بعد ثورة 26سبتمبر وجهوده العجيبة، وكيف تم حظره بقرار روسي؟!    كيف تسبب الحوثي بتحويل عمال اليمن إلى فقراء؟    متهم بجريمة قتل يسلم نفسه للأجهزة الأمنية جنوبي اليمن    صحة غزة: ارتفاع حصيلة الشهداء إلى 34 ألفا و568 منذ 7 أكتوبر    رسالة تهديد حوثية صريحة للسعودية .. وتلويح بفشل المفاوضات    هربت من اليمن وفحصت في فرنسا.. بيع قطعة أثرية يمنية نادرة في الخارج وسط تجاهل حكومي    توحيد إدارة البنك المركزي في صنعاء وعدن.. خبير مصرفي يكشف عن حل مناسب لإنهاء الأزمة النقدية في اليمن    الذكرى 51 لجريمة قتل الدبلوماسيين الجنوبيين بتفجير طائرتهم في حضرموت    زيود الهضبة يعملون على التوطين في مأرب وسط ويحابون كوادرها المحلية    برفقة حفيد أسطورة الملاكمة "محمد علي كلاي".. "لورين ماك" يعتنق الإسلام ويؤدي مناسك العمرة ويطلق دوري الرابطة في السعودية    وزير الدفاع يؤكد رفع مستوى التنسيق والتعاون بين مختلف الوحدات والتشكيلات العسكرية لهزيمة الحوثيين    جماعة الحوثي تفاجأ سكان صنعاء بهذا القرار الغير مسبوق والصادم !    التعادل يحسم قمة البايرن ضد الريال فى دورى أبطال أوروبا    حزامٌ ذهبيٌّ يُثيرُ جنونَ لصٍّ: شرطةُ سيئون تُلقي القبضَ عليهِ بتهمةِ السرقةِ!    نجل الزنداني يوجه رسالة شكر لهؤلاء عقب أيام من وفاة والده    روما يسعى لتمديد إعارة لوكاكو    الحوثيون يتلقون ضربة موجعة بعد رسالة قوية من الحكومة اليمنية والقضاء    السفير السعودي يبحث مع بعثة الاتحاد الأوروبي "خارطة الطريق" ومستجدات الأزمة اليمنية    "لا تلبي تطلعات الشعب الجنوبي"...قيادي بالانتقالي يعلق على رفض مخرجات لقاء الأحزاب    شاهد...عمار العزكي يُبهر جمهوره بأغنية "العدني المليح"    انقلاب مفاجئ.. الانتقالي يوجه ضربة قوية للشرعية ويهدد بالحرب بعد يوم تاريخي في عدن.. ماذا يحدث؟    أول تحرك يقوم به أبو زرعة في عدن بعد وصول العليمي مأرب    كأس خادم الحرمين الشريفين ... الهلال المنقوص يتخطى الاتحاد في معركة نارية    دوري ابطال اوروبا: الريال يتجاوز جحيم الاليانز ارينا ويفرض التعادل امام البايرن    توجيهات واحصائية".. اكثر من 40 ألف إصابة بالسرطان في اليمن و7 محافظات الاكثر تضررا    وزير المالية يصدر عدة قرارات تعيين لمدراء الإدارات المالية والحسابات بالمؤسسة العامة لمطابع الكتاب المدرسي    الوزير الزعوري يهنئ العمال بعيدهم العالمي الأول من مايو    بالفيديو.. عالم آثار مصري: لم نعثر على أي دليل علمي يشير إلى تواجد الأنبياء موسى وإبراهيم ويوسف في مصر    برشلونة يستعيد التوازن ويتقدم للمركز الثاني بفوزه على فالنسيا برباعية    تراجع أسعار الذهب إلى 2320.54 دولار للأوقية    اختتام برنامج إعداد الخطة التشغيلية للقيادات الادارية في «كاك بنك»    بيان الرياض يدعو الى اتخاذ خطوات ملموسة لحل الدولتين وإيقاف فوري لإطلاق النار في غزة    تنفيذية انتقالي لحج تعقد اجتماعها الدوري الثاني لشهر ابريل    البكري يجتمع ب "اللجنة الوزارية" المكلفة بحل مشكلة أندية عدن واتحاد القدم    المخا ستفوج لاول مرة بينما صنعاء تعتبر الثالثة لمطاري جدة والمدينة المنورة    ماذا لو أصدرت المحكمة الجنائية الدولية أوامر اعتقال ضد قادة إسرائيل؟    يجب طردهم من ألمانيا إلى بلدانهم الإسلامية لإقامة دولة خلافتهم    السامعي: مجلس النواب خاطب رئيس المجلس السياسي الاعلى بشأن ايقاف وزير الصناعة    استشهاد وإصابة أكثر من 100 فلسطيني بمجازر جديدة للاحتلال وسط غزة    هذا ما يحدث بصنعاء وتتكتم جماعة الحوثي الكشف عنه !    بنوك هائل سعيد والكريمي والتجاري يرفضون الانتقال من صنعاء إلى عدن    لماذا نقرأ سورة الإخلاص والكافرون في الفجر؟.. أسرار عظيمة يغفل عنها كثيرون    النخب اليمنية و"أشرف"... (قصة حقيقية)    اعتراف رسمي وتعويضات قد تصل للملايين.. وفيات و اصابة بالجلطات و أمراض خطيرة بعد لقاح كورونا !    مدرب بايرن ميونيخ: جاهزون لبيلينغهام ليلة الثلاثاء    وزارة الأوقاف بالعاصمة عدن تُحذر من تفويج حجاج بدون تأشيرة رسمية وتُؤكّد على أهمية التصاريح(وثيقة)    عودة تفشي وباء الكوليرا في إب    حاصل على شريعة وقانون .. شاهد .. لحظة ضبط شاب متلبسا أثناء قيامه بهذا الأمر الصادم    القرءان املاء رباني لا عثماني... الفرق بين امرأة وامرأت    يونيسيف: وفاة طفل يمني كل 13 دقيقة بأمراض يمكن الوقاية منها باللقاحات    كيف يزيد رزقك ويطول عمرك وتختفي كل مشاكلك؟.. ب8 أعمال وآية قرآنية    - نورا الفرح مذيعة قناة اليمن اليوم بصنعاء التي ابكت ضيوفها    من كتب يلُبج.. قاعدة تعامل حكام صنعاء مع قادة الفكر الجنوبي ومثقفيه    الشاعر باحارثة يشارك في مهرجان الوطن العربي للإبداع الثقافي الدولي بسلطنة عمان    - أقرأ كيف يقارع حسين العماد بشعره الظلم والفساد ويحوله لوقود من الجمر والدموع،فاق العشرات من التقارير والتحقيقات الصحفية في كشفها    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المشترك بين آبيون ولوثر وهتلر .. وأخيراً كارتر

قبل نحو عشرين إلى ثلاثين سنة قبل ميلاد السيد المسيح ، ولد في واحة سيوة بمصر المؤرخ الذي يعده معظم المؤرخين اليهود أول المعادين لليهود في التاريح . لم تكن تسمية العداء للسامية قد ظهرت بعد .. لكن من المؤكد أنها وقد ظهرت فإنه من وجهة النظر هذه يعد
أول المعادين للسامية في التاريخ.. اسمه آبيون ( Apion) وقد عاش معظم حياته في مدينة الإسكندرية ،
وكان من أبرز علماء النحو اللغوي كما كان من الفلاسفة من المدرسة
السفسطائية اليونانية وكان مؤرخاً.
بطبيعة الحال لسنا بصدد رصد سيرة آبيون ولا فلسفته ولا مؤلفاته في التاريخ ، إنما يهمنا أن نذكر هنا أن العالم ، والتاريخ ، لم يعرفا أي شيء عن آبيون إلا من خلال ما كتبه اليهود عنه .. حتى أقواله وحججه ضد اليهود وكتبه في التاريخ وفلسفته في النحو لم يعرف عنها إلا من خلال كتاباتهم عنه.
وأول من كتب عنه كان المؤرح اليهودي الأشهر في الزمان القديم فلافيوس جوزيفوس الذي أرخ أساساً للحرب الأهلية اليهودية ، إذ أنه ألف كتاباً بعنوان ضد آبيون جمع فيه من وجهة نظره آراء آبيون في اليهود وردوده أي جوزيفوس عليها . أما كتب آبيون ورمحاضراته فقد آختفت تماماً .. ولولا ما كتبه جوزيفوس لما عرف التاريخ عنه شيئاً.
مفارقة تاريخية أن يؤرخ لأول عدو لليهود أنفسهم . هم صاغوا أفكاره وهم وضعوا ردودهم عليها ، أي إنهم صنعوا تاريخه بوجهيه الشخصي والعقلي وقيموه وصنّفوه.
وهذه المفارقة التاريخية مازالت مستمرة بصورة من الصور حتى وقتنا الحاضر.
فاليهود الآخذون بما يمكن أن نسميه عقيدة العداء للسامية يتسلمون كل مادة تكتب عنهم ولا تحظى بموافقتهم ويعطون لأنفسهم حق تفسيرها وتحديد إطارها العقلي والتاريخي قبل الرد عليها بتهمة العداء للسامية.
حدث هذا مع المؤرخ اليوناني تاسيتوس بسبب ما كتبه عن اليهود في حولياته وتواريخه وحدث بعد ذلك بقرون مع المصلح الديني الأكبر مارتن لوثر بسبب كتابه حول اليهود وأكاذيبهم (1543) الذي لا يزال بعد انقضاء نحو خمسة قرون على صدوره مخفياً أكثر منه ظاهراً ولا مفرّ من أن بعد ذلك على هذه القائمة كتاب أدولف هتلر «كفاحي» (1926) وهو بدوره كتاب يتم تداوله على أضيق نطاق وسط مشاعر ذنب محبطه وكأنه سلعة محرّمة أو موبوءة تنشر العدوى.
والآن يبدو أن كتاب الرئيس الأمريكي الأسيق جيمي كارتر فلسطين : سلام لا عزل عنصري يأخذ طريقه إلى القائمة ذاتها ، فلم يعد يمكن حصر ما كتبه اليهود المناصرون لإسرائيل عنه باعتباره وثيقة جديدة من وثائق العداء للسامية ، حتى لم يعد يمكن تناوله من دون التعرض لما رأته فيه إسرائيل واليهود الموالون لها في أنحاء العالم .. حتى لقد غرق الكتاب في أمواج من الاعتراضات والاتهامات وعرائض الإدانة ، بعضها ضد الكتاب .. وأكثر منها ضد جيمي كارتر.
وإذا كانت أفكار آبيون قد أغرقها مؤرخ يهودي واحد في القرن الأول بعد الميلاد في غياب أجهزة إعلام قادرة وذات نفوذ وانتشار كالتي نعرفها اليوم فإن كتاب (وأفكار) كارتر تتعرض لطوفان يهدف إلى إغراقها بالصورة نفسها ، كطريقة للمصادرة قبل أن تصل هذه الأفكار إلى عقول القراء أو بمجرد وصولها .. وليس خافياً على أحد أن كلمة في عنوان كتاب كارتر كافية بمعايير عقيدة العداء للسامية لأن تطلق في وجهه كل اتهامات يهود إسرائيل (ولا نعنى بهذا اليهود الذين يعيشون في إسرائيل ، إنما نعني كل يهودي يدين بالولاء لإسرائيل) ، وهي كلمة (Apartheid) العزل العنصري(ü).
لكن العجب من رد فعل هؤلاء يزيد عندما نعرف أن كتاباً يهودياً بل تحديداً إسرائيليين استخدموا هذا المصطلح في وصف سياسة إسرائيل تجاه الفلسطينيين قبل سنوات طويلة.
مايكل بن يائير المدغي العام في حكومتي اسحاق رابين وشمعون بيريز في عقد التسعينيات من القرن العشرين ، قال قبل خمس سنوات إن إسرائيل بدأت ممارسة العزل العنصري في اليوم السابع بعد حرب الأيام الستة (1967) «لقد أقمنا نظام حكم عزل عنصري في الأراضي المحتلة فور احتلالها».
وفي عام 2004 استخدم ميرون بنفينيستي (Meron Benvenisti) النائب الأسبق لعمدة القدس الاصطلاح ذاته في وصف ما يعنيه الجدار العازل الذي قرر ارييل شارون إقامته ، فقد جعل هذا الجدار من اسرائيل «دولة من قوميتين منبية على العزل العنصري .. ومعنى هذا سجن نحو ثلاثة ملايين فلسطيني في بانتوستان».
هذان مجرد مثلين ، إنما الأمثلة كثيرة على من استخدموا هذا التعبير في وصف سياسات وممارسات إسرائيل بحق الفلسطينيين ، الأمر الذي يثير التساؤلات الممزوجة بالدهشة : لماذا إذا رد الفعل الإسرائيلي اليهودي الطوفاني ضد كتاب كارتر ؟ والإجابة القصيرة السريعة بعيداً عن التفصيلات تتلخص في التعبير الشائع : المغني لا الأغنية . المشكلة فيها كما تبدو في انتقادات اليهود الذين كتبوا ضد كتاب كارتر تتعلق بكارتر نفسه أكثر مما تتعلق بالكتاب ، أهمية كارتر ، ليس فحسب كرئيس سابق ، إنما ايضاً كرئيس سابق رعى عملية السلام المصرية الإسرائيلية من بداياتها حتى توقيع المعاهدة بين هذين الطرفين ، وكارتر بوصفه رئيساً أسبق ، وقد تحول إلى كاتب صاحب رسالة مسيانية لا تبدو أبداً قريبة على شخصيته وهو الذي بدأ عنده وصف الرئيس المؤمن كمسيحي أمريكي جنوبي ، نقي الداخل إنساني النزعة ، الأمر الذي بدأ أكثر ما بدأ في عدد كبير من الكتب ألفها منذ أن غادر البيت الأبيض في بداية عام 1981م ، وهو أمر غير مألوف من رؤساء أمريكا السابقين الذين عادة ما يكتفون بكتاب واحد يحشونه بذكريات البيت الأبيض في عهدهم ويتجنبون في العادة أكبر القضايا وأهم المشكلات العامة الداخلية والخارجية، مركزين على الشان الشخصي ، والقليلون منهم الذين تجرأوا على تناول الصراع العربي الإسرائيلي اكتفوا بفقرات أو بجمل قليلة يقولون فيها ما لم يستطيعوا قوله داخل المكتب البيضاوي أو تحت قبة الكونغرس.
أما جيمي كارتر فقد أسهب في الكتابة عن هذا الصراع كما لم يفعل غيره، وتخطا حدود تجربته في البيت الأبيض إلى آفاق السياسي المخضرم والمفكر صاحب الرسالة الواسعة الإطلاع على الجذور التاريخية من دماء إبراهيم (1985) إلى قيمنا المهدورة : أزمة أمريكا الأخلاقية (2005) وهو الكتاب الذي سبق مباشرة كتاب فلسطين : سلام لا عزل عنصري . وبينها 23 كتاباً آخر.
لو أن كاتباً آخر تناول الموضوع نفسه واستخدم عبارة العزل العنصري في عنوان الكتاب لما أثار بين اسرائيل /اليهود كل هذا الحنق الصاخب ولا نال ما نال كارتر من اتهامات وسباب بعضها جاء من بعض مساعديه السابقين عندما كان رئيساً ، لعل أجدرهم بالذكر في هذا المجال دينيس روس الذي أدى دوراً كبيراً في سنوات الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي في مختلف التحركات الدبلوماسية المتعلقة بالصراع العربي الإسرائيلي مختفياً في مسوح دبلوماسي من الخارجية الأمريكية ، وتبين أنه من كهنة الدعم غير المشروط لإسرائيل ، روس وصل إلى حد اتهام كارتر بسرقة خرائط نشرها في كتابه ، زاعماً أي روس أنه هو الذي رسم هذه الخرائط وقبله لم يكن لها وجود.
مساعد سابق لكارتر هو كنيث ستاين قدم استقالته من زمالة مركز كارتر التابع لجامعة أيموري في ولاية جورجيا احتجاجاً على «مغالطات وأكاذيب وتلفيقات» لجأ إليها كارتر في كتابه للإساءة إلى إسرائيل ، وتبين أن ستاين كان قد قطع علاقته بالمركز المذكور قبل سنوات طويلة ، فلم يكن للاستقالة من معنى إلا إثبات موقف داعم لإسرائيل ضد الرئيس السابق الذي وصفته صحف إسرائيلية عديدة بعد صدور هذا الكتاب بأنه «أسوأ رئيس أمريكي سابق».
مركز سيمون ويزنتال اليهودي المعني بحقوق الإنسان والذي اكتسب شهرته من وراء حملاته لاصطياد النازيين السابقين أعلن أنه تلقى عريضة موقعاً عليها من 16 ألف شخص هي : «التماس بالعمل ضد تعصب الرئيس كارتر الأحادي الجانب ضد إسرائيل». وقال الحاخام مارتن هاير عميد المركز ومؤسسه «إن الكتاب يأخذ جانب القضية الفلسطينية ويلوم إسرائيل على كل اضطرابات الشرق الأوسط ، إنني أعتقد أنه ألف هذا الكتاب لأنه أصبح ناطقاً باسم القضية الفلسطينية».
إن أصعب ما في مهمة الكتاب عن كتاب مارتر هذا هو مقاومة الانسياق وراء تيار استعراض الانتقادات الحادة والسليطة التي تعرض لها كارتر وإلى حد ما الكتاب من جانب الإسرائيليين اليهود كتّاباً وسياسيين وصحافيين وبرلمانيين ،، الخ . إذ يجد المرء نفسه مضطراً إلى كسر أولى القواعد الأساسية لمراجعة كتاب ، وهي الكتابة عنه لا الكتابة عما كتب عنه .. مع ذلك ، وكما في مقاومة هذا التيار لا بد من مطاوعته خطوة لمقاومته خطوتين . ولكي أكون صادقاً مع نفسي أساساً لا بد أن أقول : إن رغبة الكتابة عن كتاب كارتر بدأت من حافز قوي إلى الدفاع عنه في مواجهة هذا التيار العدائي الفادح والفاضح معاً الذي استقبله في كل من إسرائيل والولايات المتحدة ، ولعل الأصوب أن أقول في الولايات المتحدة وإسرائيل . الأهمية هنا للترتيب.
إلى أن ظهرت تصريحات للسياسي الإسرائيلي يوسي بيلين الأكثر اعتدالاً بينهم تقول إن كارتر ليس في هذا الكتاب أكثر انتقاداً لاسرائيل من الإسرائيليين أنفسهم ، كان كل ماكتب عنه بالغ العداء ، أميل للشتائم . حتى إنه لا بد لنا أن نشير إلى أن ما نال كارتر من وراء كتابه كان أكثر كماً ونوعاً مما نال قرار محكمة العدل الدولية ضد الجدار العنصري ، فلماذا كان كلام كارتر عن سياسات إسرائيل وممارستها موجعاً أكثر من قرار محكمة العدل الدولية ؟
يأخذنا كتاب كارتر باعتبارنا قراء عرباً ، وعموماً قراء نأخذ صف القضية الفلسطينية عرباً كنا أو لم نكن إلى استعادة القاعدة ، أو النظرية القائلة بأن كل الرؤساء الأمريكيين يصبحون أكثر موضوعية ، وأميل إلى رؤية جانب العدل في القضايا العربية بخاصة، ما أن يصبحوا رؤساء سابقين ، إن هذه نظرية تقول الكثير عن أمور طالما أثارت ولا تزال تثير الجدال والخلاف في الرأي : حدود الديمقراطية الأمريكية قوة تأثير اللوبي اليهودي في السياسة الامريكية آفاق وحدود سلطة الرئاسة الأمريكية.
والسؤال الأول للناقد العربي هو : هل كتاب جيمي كارتر فوق النقد لمجرد أنه اتخذ توجهاً أنطوى على تعاطف مع الفلسطينيين تحت التعذيب والامتهان والقتل والحرمان والحصار من الاحتلال الإسرائيلي ، وعلى نقد لهذا الاحتلال في أقصى وأقسى إجراءاته للابقاء على الفلسطينيين من دون كل شيء من حق تقرير المصير إلى حق العيش الكريم إلى حق العودة ؟
طبعاً لا . وإن كان هذا لا يروع ناقداً عن التأكيد بأن كارتر قد عالج نقطة مهمة ربما لم ولن تصل إلى الرأي العام وإلى القراء إلا عبره .. لأنها وإن كانت قد قيلت من قبل إلا أنها ذهبت أدراج الرياح . ذهبت مع رياح التأييد الأمريكي المطلق لكل ما تفعل إسرائيل وتبغي . مع كارتر فإن وصف سياسة إسرائيل بأنها ضرب من العزل العنصري على نموذج جنوب افريقيا الذي انهار ويفترض أنه انهار زمانه معه، سُمعت الكلمة وترددت أصداؤها وعاد المعنيون يستنكرون أنها استخدمت من قبل بغير طائل.
ومن المؤكد أن الصراخ والعويل من جانب أنصار إسرائيل ضد كارتر وكتابه قد ساعد كثيراً على مضاعفة انتشاره وساعد أكثر على الاهتمام بالمعنى الكامن وراء الكلمة الملتهبة آبار تهايد ، حدث هذا على الرغم من أن معظم الكتابات التي هاجمت الكتاب ومؤلفه استغنت بصورة كلية في بعض الأحيان ، جزئية في أحيان أخرى عن قراءة الكتاب بدرجة كافية من العناية . بعضها اكتفى بمحاولة إثبات أن كارتر هو من الأصل معاد لإسرائيل وبالتالي معاد لليهود ، وبالتالي مرة أخرى معاد للسامية ولهذا ما كان ينبغي أن يشكل الكتاب مفاجأة لأحد . وحتى عندما وقف بعضهم عند عبارة بعينها أو عبارات معدودة وأنحى باللائمة على كارتر الذي ترجأ على صياغتها على النحو الذي ظهرت به في الكتاب كانت النتيجة على النحو الذي يكشفه المثال التالي :
كان كارتر في زيارة لأستراليا هدفها الترويج لكتابه لحساب الناشر ونظمت له محاضرة مع حشد من اليهود الاستراليين . وهؤلاء توقفوا كثيراً أمام عبارة في الكتاب تدعو الفلسطينيين لأن «يكفوا عن شن هجمات إرهابية إذا وافق الإسرائيليون على الالتزام بالقانون الدولي».
وتصاعدت التساؤلات بوجه المؤلف الهادئ : هل تريد بهذا أن تبرر للفلسطينيين ماقاموا به من أعمال إرهابية ؟
فماذا كان رد كارتر على هذا التساؤل الاعتراضي ؟
قال : «هذه الجملة صيغت بطريقة غير سليمة وغبية تماماً ، إنني اعتذر لكل واحد هنا ، ولاحظوا أنني طوال الكتاب أدعو الفلسطينيين والإسرائيليين جميعاً إلى أن ينهوا العنف ضد المدنيين ، وأعدكم أنني سأغير هذه الجملة في الطباعات التالية .. «بعض الحاضرين صفقوا استحساناً لتراجع كارتر ، وبعضهم قال : إنه بسط الأمر كثيراً إلى حد مفرط حين قال «ما علىا اسرائيل إلا أن تعطي الأرض للفلسطينيين وسيأتي السلام مباشرة» .. اذهب وقل هذا لسكان «مستوطنة» سديروت (التي طالها عدد من صواريخ المقاومة الفلسطينية).
ولكن الوجه الآخر لهذه الحقيقة هو أن كارتر تمسك في كل المرات التي ظهر فيها محاضراً أو متحدثاً عن كتابه بوصف سياسة إسرائيل بأنها ممارسة في العزل العنصري ضد الفلسطينيين.
والحملة على كارتر وبضمنها الحملة على كتابه اتخذت على مدى شهور منذ صدوره أبعاداً أوسع من هذين . حرص الإعلام ، اليهودي الامريكي بخاصة ، على أن يؤكد أن كتاب كارتر ليس استثناء بل إنه «جزء من نمط مثير للانزعاج» . مرات استخدم هذا التعبير «جزء من نمط» ليعني أنه جزء من نمط سلوكي لكارتر نفسه . ومرات استخدم التعبير نفسه ليعني ان كارتر ليس وحده الذي ينحو هذا النحو . لكن الأشد تطرفاً وراء هذا الزعم كان ما كتبه نيل شير مدير مكتب التحقيقات الخاصة التابع ل وحدة وزارة العدل (الامريكية) لإدانة النازيين ، وهو ايضاً مدير تنفيذي سابق للجنة الشئون العامة الأمريكية الإسرائيلية (إيباك).
لقد كتب شير في نشرة وكالة الأنباء اليهودية JTA (يوم 26/12/2006) أنه فوجئ في أحد أيام عام 1987 و أثناء تحقيق في قضية ترحيل نازي سابق ، اسمه مارتن بارتيش من الولايات المتحدة، برسالة استعطاف من ابنته تطلب معاملة خاصة تأخذ ظروفه كونه رجلاً مسناً بعين الاعتبار ، وفي ركن بأعلى صفحة الرسالة رسالة بخط يد الرئيس الأمريكي السابق كارتر يلتمس أخذ ظروف هذا القاتل النازي بعين اعتبار خاص» (حسب تعبير شير) يقول فيها : «في مثل هذه الحالات ، يمكن أن يمنح اعتبار خاص للعائلات لأسباب عائلية».
هكذا ببساطة وضع رجل القانون السابق الأمريكي اليهودي قضية ممارسة إسرائيل لسياسات العزل العنصري كما تناولها كارتر في كتابه في إطار نمط واحد مع التماس رأفة كتبه الرئيس السابق يشأن نازي سابق ، الاتهام هنا صريح بأن كارتر يتعاطف مع النازيين والمجرمين ، «لقد قبل كارتر على النقيض من أعضاء الكونغرس قبولاً أعمى ما قالته الابنة خدمة لنفسها وتأكيداتها المجافية للحقيقة،، وقتها عزوت الأمر إلى قدر من السذاجة لدى الرئيس السابق ... أما الآن ، وفي ضوء أحدث كتابات كارتر وتعليقاته أاعجب إذا ما كنت أنا الساذج في رفضي ببساطة لالتماسه الذي يدخل القشعريرة على البدن على أنه مجرد رد فعل غريزي من رجل ذي نزعة إنسانية حسنة النية إنما سيئة التوجيه».
ثم يضيف شير : «أن كتاب كارتر الأخير فلسطين : سلام لا عزل عنصري ودفاعه عن هذا الكتاب لا يترك لدي شكاً في أن كارتر يعاني من مشكلة مع إسرائيل وداعميها من اليهود الامريكيين ، إن مقاربته التي تقوم على لوم إسرائيل عن طريق تحريف الحقائق التي يمكن البرهنة عليها ببساطة ، والطنين الذي يصدره عن نفوذ اللوبي الموالي لإسرائيل وحتى الوقوع في رذيلة سرفة كتابات الغير، قد انكشفت وهي تنشر الآن على الرأي العام أمام الكل ليراها».
يكاد نص مقال القاضي السابق نيل شير يصل إلى نقطة اتهام كارتر صراحة بأن لديه عواطف أو ميولاً نازية ، وقد صح قول الكاتب اليساري الكسندر كوبورن : «لاسابيع واللوبي يدفع بفصائله إلى الحركة ضد كارتر .. وصموه بأنه معاد للسامية منكر للمحرقة (الهولوكوست) ، نصير للقتلة في معسكرات الاعتقال السابقة ، مجنون مسيحي ، مخلب قط للعرب يؤيد بطريقة سافرة القتل الجماعي لليهود الإسرائيليين». وجه الطرافة الوحيد في ما كتبه كوبورن دفاعاً عن كارتر كان عنوان مقاله : «أولاً اقذفوا كارتر بالقنابل ، وبعد ذلك اضربوا إيران بالأسلحة النووية».
يذكر كارتر تعبير العزل العنصري في كتابه المؤلف من (264) صفحة ثلاث مرات فقط ، أولاها عندما ينقل على لسان رئيس الوزراء الإسرائيلي المغدور اسحاق رابين بعد يومين من عودته من زيارة لجنوب أفريقيا التي كانت تربطها بها علاقة متينة يذكر كارتر منها تجارة الماس المزدهرة بين الدولتين ، ولا يذكر بتاتاً التعاون النووي بينهما ، يقول رابين ، حسب رواية كارتر : «إن نظام العزل العنصري في جنوب افريقيا لن يستطيع أن يعيش طويلاً» . وإذا بدت هذه الجملة فرصة للمؤلف ليتساءل مثلاً : ما الذي يحمل قادة اسرائيل الآن على الاعتقاد بأن نظام العزل العنصري في إسرائيل يمكن أن يعيش طويلاً ، فإنه لم يستغلها . انتهت إشارة رابين عند حدود كلماته ، ولم يستخرج منها كارتر أي مغزى.
المرة الثانية تفصلها عن الأولى معظم صفحات الكتاب . الأولى جاءت على الصفحة 30 والثانية على الصفحة 189 عندما يبدأ الفصل السادس عشر بعنوان الجدار كسجن ، حيث يقول كارتر :
«في جو من الفراغ الدبولماسي شرع القادة الإسرائيليون في سلسلة من قرارات من جانب واحد تخطوا فيها واشنطن والفلسطينيين على السواء (واشنطن تأتي أولاً!) وزعمهم هو أن حاجزاً محيطاً (بالفلسطينيين) سيحل المشكلة الفلسطينية نهائياً . إتهم يستخدمون هيمنتهم السياسية والعسكرية فيفرضون نظام انسحاب جزئي ، وتكبيل وعزل عنصري على المواطنين المسلمين والمسيحيين في الاراضي المحتلة .. والهدف الذي يدفعهم نحو العزل القسري للشعبين وليس مثيلاً لذلك الذي كان قائماً في جنوب افريقيا ذلك أن الهدف ليس عنصرية، إنما هو اكتساب الأرض».
وهكذا ببساطة ينزع كارتر عن ال ( Apartheid) في حالة إسرائيل سمة العنصرية . ناسياً تماماً كل الدلائل المباشرة وغير المباشرة على التعامل مع الفلسطينيين على أنهم غير متحضرين ، على درجة أدنى من الذكاء ، لا يلتزمون بمعايير النظافة ، هذا إذا نسينا وصف عولدا مائير للفلسطينيين بأنهم ليسوا بشراً ، إنما صراصير ، وقولها في سياق آخر : «لا وجود لشعب اسمه الشعب الفلسطيني». وبهذا يكون كل خطأ كارتر أنه استخدم اللفظة في لغة الهولنديين المستعمرين البيض في جنوب أفريقيا الدالة على العزل العنصري.
ونأتي إلى الاستخدام الثالث والأخير من جانب كارتر لتعبير الآبارتهايد (ص 215) ونكون قد وصلنا إلى الاستخدام الأهم جوهرياً في الكتاب باستثناء العنوان إذ يتحدث كارتر عن ثلاثة خيارات ليس أي منها جذاباً للإسرائيليين كافة، الأول هو ضم فلسطين عنوة وامتصاصها قانونياً في إسرائيل .. وهذا خيار يعطي لأعداد كبيرة من غير اليهود حق التصويت والعيش متساويين في ظل القانون .. والثاني هو :
«نظام عزل عنصري .. حيث يحتل شعبان الأرض ذاتها ولكنهما منفصلان كل عن الآخر ، حيث الاسرائيليون يهيمنون ويملكون قدرة القمع بالعنف بحرمان الفلسطينيين من حقوقهم الإنسانية الأساسية . وهذه هي السياسة المتبعة الآن ، وإن كان مواطنون كثيرون في اسرائيل يهزأون من الطابع العنصري لوصفة دائمة للفلسطينيين بأن يكونوا في مرتبة ثانية» .. ويضيف كارتر إلى هذا تصريحاً لإسرائيلي (واحد) بارز يقول فيه : «إنني أخشى أننا نتجه نحو حكومة مماثلة لجنوب أفريقيا ، حيث يصبح لدينا مجتمع مزدوج من حكام اسرائيليين ورعايا عرب لا يتمتعون سوى بقليل من حقوق المواطنة . إن الضفة الغربية لا تستحق هذا».
وأهم ما يغفله كارتر هنا أن هذا الرأي الأخير لاسرائيل بارز لا يخفي حقيقة أن استطلاعات الرأي العام في إسرائيل بما فيها تلك التي تجرى بمشاركة مؤسسات أمريكية أو عالمية متخصصة تظهر أن غالبية كبيرة من الاسرائيليين تؤيد هذه السياسة العنصرية حتى لقد كتب جوناثان كوك المؤلف الامريكي : «أن استطلاعات الرأي الأخيرة تكشف إلى أي مدى أصبحت العنصرية موضة في إسرائيل لقد أظهر مسح أجري في العام الماضي أن نسبة 68% من اليهود الاسرائيليين لايريدون أن يعيشوا جنباً إلى جنب مع مواطن فلسطيني ، وأن نسبة 46% لا تريد ان يزورها عربي في بيوتها . كما أن استطلاعاً جرى بين الطلاب (الاسرائيليين) يدل على أن العنصرية أقوى حتى من هذا بين اليهود الشبان . فإن ثلاثة أرباعهم يعتقدون أن الفلسطينيين غير متعلمين ، غير متمدنين ، بل إن ثلثهم يخاف منهم»(1).
فلا تدري من أين أتى المولف بالمعلومات التي تجعله يقول إن مواطنين اسرائيليين كثيرين يسخرون من هذه السياسة ؟
هنا يبدو كارتر وكأنه يريد أن يقول إن السياسة الاسرائيلية الخاطئة هي سياسة الحكومة ولا تلقى رضا الرأي العام الإسرائيلي (..) ويذهب في هذا إلى حد القول بأن «أغلبية واضحة من الاسرائيليين مستعدة بثبات لقبول شروط يكون مسموحاً بها لمعظم الجيران العرب».
أما الخيار الثالث بين خيارات اسرائيل السياسة غير الجذابة فهو : الانسجاب إلى حدود 1967م كما حددها قرار مجلس الأمن رقم (242) وكما وعدت بها اتفاقات كامب ديفيد واتفاق أوسلو ووضعت في خريطة الطريق التي وضعتها الرباعية الدولية.
في ما عدا هذه المرات الثلاث التي جاء فيها ذكر العزل العنصري، فإن الكتاب يكرر ما سبق أن كتب كثيراً عن سياسات الإدارات الأمريكية المتعاقبة تجاه اسرائيل وتجاه الصراع الفلسطيني الاسرائيلي ابتداء من ادارته هو (بل ابتداءً من زيارته الأولى لإسرائيل في عام 1973م قبل أن يصبح رئيساً) وقد كرس لها ثلاثة فصول ، وإدارة ريغان وإدارة جورج بوش الأب ، وإدارة بيل كلنتون (وخصها بفصلين) ثم إدارة بوش الابن . قبل ان ينتقل إلى الانتخابات الفلسطينية في عام 2005م ثم الانتخابات الاسرائيلية في العام الذي تلاه . ليصل اخيراً إلى الفصل بعنوان الجدار كسجن الذي يشكل المبرر لعنوان الكتاب.
كذلك يتعرض الرئيس الأسبق للحرب الاسرائيلية الأخيرة على لبنان ومحاولة القضاء على حزب الله . وتناوله هذا الموضوع يتسم ليس فقط بالبعد الشديد عن موضوع الكتاب الذي يحدده عنوانه ، بل يتسم بدرجة عالية للغاية من التبسيط في الوصف وفي التحليل وفي التفسير معاً . يحس القارئ هذا وهو يقول مثلاً إن «حلم اللبنانيين كان دائماً أن يصبحوا شيئاً مثل سويسرا في الشرق الاوسط ، لا هم متورطون في صراع ولا هم منصة إطلاق المقاتلين آخرين ، وان يستفيدوا من علاقات جيدة مع كل الدول».
وهو حتى عندما يشير إلى مزارع شبعا ويقول إن لبنان يزعم أنها أرض لبنانية وإسرائيلية تصر على أنها جزء من سوريا الأمر الذي يبرر احتلالها.
كارتر يفتح صفحات كتابه لشرح آخر يكرر ما قاله في كتب سابقة لجذور الصراع العربي الاسرائيلي وتطوراته من البدايات الأولى حتى الحرب الإسرائيلية على لبنان حيث حزب الله يوصف بأنه إرهابي . وزعماء لبنان بأنهم «التزموا طويلاً بسياسة خارجية محايدة بين الشرق والغرب وبين اسرائيل وسوريا» .. وهذا بطبيعة الحال خطأ قادح، لعله يعتقد أنه مجرد تبسيط ليفهم القارئ ما يرمي إليه .. بل أنه رأى في حرب صيف عام 2006م دليلاً على أن التاريخ إنما يكرر نفسه . مشيراً إلى ما حدث في عام 1982م عندما اجتاحت إسرائيل لبنان . وهذا أيضاً تبسيط أشد من مخل بالحقائق.
وخارج أي إطار مقصود لفضح سياسة اسرائيل بوصفها سياسة عزل عنصري يتحدث كارتر كمثال آخر عن المملكة العربية السعودية . يقول :
«على الرغم من أن العربية السعودية ليست متاخمة لإسرائيل (لا حدود مشتركة بينهما) إلا أنها ستؤدي دوراً مهماً في أي اتفاق سلام دائم في المنطقة . فلأنها دولة غنية تملك احتياطات نفطية كبرى وهي حارسة الأماكن المقدسة الإسلامية وتربطها علاقات دبلوماسية مع كل دول العالم تقريباً وتؤدي دوراً متميزاً في الجامعة العربية ، فإن نفوذها الذي يرسخ الاستقرار كان دائماً مهماً . وعندما كنت رئيساً كنت أتلقى تشجيعاً قوياً ، إنما خاصاً من القادة السعوديين في ما يتعلق بمبادراتي السلمية ، حتى حينما كانت بياناتهم العلنية تختلف عن ذلك تماماً».
تمتلئ صفحات الكتاب بأمور أثيرة على وجدان كارتر وعقله ، بصرف النظر عن أنها لا ترتبط بعلاقة مباشرة أو غير مباشرة بموضوعه ، ومعظم الأمثلة التي يمكن أن نسوقها هنا تدفع إلى التساؤل : كيف إن هذه اللمسات من كارتر لم تغفر له استخدامه لعبارة الآبارتهايد في وصف سياسة اسرائيل الحالية مع الفلسطينيين.
لم يغفر له الاسرائيليون ويهود الولايات المتحدة إشارته إشادته بالأحرى بالديمقراطية الإسرائيلية حتى في أقبح مظاهرها (...):«وعندما قمت بزيارة رئاسية لإسرائيل في آذار /مارس 1979م دعيت لمخاطبة الكنيست . صدمتني درجة الحرية المسموح بها لأعضاء البرلمان في ما يتبادلون من بيانات ، وعلى الرغم من أنني استطعت ان أنهي خطبتي مع عدد قليل من مرات المقاطعة فإنه كان من المستحيل على رئيس الوزراء بيغن أو آخرين أن يتكلموا . وبدلاً من أن يصيبهم حرج بفعل المقاطعات المتواصلة وحتى الإخراج البدني القسري من المجلس لعضو كان هجومياً بصورة خاصة ، بدأ أن بيغن كان مسروراً بالعراك اللفظي وعبر عن افتخاره بالمجادلات التي لا يكبح جماحها أحد.. مال علي وقال فخوراً : هذه هي الديمقراطية في حالة فعل».
وعندما تقرأ كارتر يتحدث عن آبا أيبان يخيّل إليك أنه كان وزيراً للخارجية في اسرائيل أخرى ، غير اسرائيل حرب 1948 والمجازر التي سبقتها ولحقتها ، غير اسرائيل عدوان 1956 (حرب السويس) على مصر ، وغير اسرائيل حرب 1967 ، وغير اسرائيل غزو لبنان مرة واثنتين وثلاثا ، يحكي كارتر عن المفاجآت التي سرته عندما دعاه آبا إيبان «أشهر اسرائيلي على الإطلاق . وسبب شهرته بلاغته الخطابية في الامم المتحدة .. إنما ما لم يفاجئني أنه كان مفعماًبالأفكار عن مستقبل اسرائيل .
قال لي إن الأراضي المحتلة تشكل عبئاً وليس رصيداً . العرب والاسرائيليون بالغريزة لا يمكن أن يندمجوا وفي النهاية سيتعين الفصل بينهما . إن معسكرات الاعتقال وما يرتبط بها من إجراءات عقابية وقمعية ضرورية لنحكم مئات الآلاف من العرب ضد ارادتهم ، ستعذب اسرائيل بوضع أشبه مايكون بأوضاع المستعمرات التي كانت تجري إزالتها كلية في باقي انحاء العالم .. وعندما سألته عن الحل أجاب دون أن يفسر أن حل هذه المشكلة آخذ بالتبلور . (عرفت أن بعض القادة الاسرائيليين كانوا يفكرون بهجرة واسعة النطاق من روسيا ومن الولايات المتحدة على السواء بالإضافة إلى تشجيع العرب على أن يهاجروا إلى بلدان أخرى».
من وجهة نظر مهنية بحتة أكاديمية إذا شئنا فإن كتاب كارتر يحمل عنواناً فضفاضاً للغاية على مضمونه . ويحتوي على مضمون متنوع الموضوعات يوحي بأن الرئيس السابق يشعر أنه لا يزال يملك رصيداً من المعلومات والذكريات من أيام رئاسته ومن خبرات رئاسته، ولا بأس من أن يصبها في كتاب يمزج بين التاريخ والسياسة والمواقف العامة والشخصية.
أليس من قبيل الجحود انتقاد كارتر على كتابه بعد كل ما تعرض له بوصفه مؤيداً للفلسطينيين ومديناً لسياسات اسرائيل الأخيرة؟
والرد على هذا السؤال بسيط : إنني أخشى إذا سئل عن التصفيق لكتابه بغير شروط في بلاد العرب وبين مثقفيهم أن لا يجد مفراً من أن يقول إنه غير سعيد ، أو أنه أسف .. أو أن يبرر فرحنا به بأننا سذج ، أو شيء بهذا المعنى .. شيء على غرار وقفة الاعتذار التي وقفها أمام اليهود الاستراليين (...).
ولا ينطوي هذا من جانبنا على انكار ، أي انكار لشجاعة الرئيس الأسبق في اختيار موضوع عنوانه ، أو عنوان موضوعه . ينطوي فحسب على ارتياب كير بأهداف اليهود الاسرائيليين الأمريكيين الذين شنوا حملتهم عليه بكل هذه الفجاجة والرعونة ، فكأنما هي من علامات عودة أساليب اللوبي اليهودي هناك إلى تضخيم مبررات دوره ، بعد ان صبح في دائرة الضوء الفاحص أكثر من أي وقت مضى . أو هي عودة إلى الأساليب ذاتها التي استخدمت ضد آبيون ولوثر والآخرين ممن جرؤوا على المعارضة.
الأول أنابوا أنفسهم عنه في كتابة أفكاره وردوا عليها بناء على ما زعموا أنه له ، والثاني لوثر ، وهو من هو في عالم اللاهوت الغربي يضعون على رأس طبعات كتابه تحت عنوان اليهود وأكاذيبهم عبارة تقول بالحرف الواحد : «تحذير: هذه وثيقة معادية للسامية وسيئة السمعة!».
لا أحبذ ترجمة مصطلح A PARTHEIDالفصل العنصري . لأن الفصل تعبير محايد لا يتعدى معنى إبعاد طرفين كل منهما عن الآخر ، ليس بالضرورة إعلاء لشأن ومصالح طرف على حساب طرف آخر ، هو في هذه الحالة أشبه بالفصل بين القوات ، أما العزل العنصري فهو أكثر انطباقاً حيث القصد منه بوصفه إجراء عزل طرف وإتاحة الحركة للطرف الآخر.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.