كارثة وشيكة ستجتاح اليمن خلال شهرين.. تحذيرات عاجلة لمنظمة أممية    تعز تشهد المباراة الحبية للاعب شعب حضرموت بامحيمود    وفاة امرأة عقب تعرضها لطعنات قاتلة على يد زوجها شمالي اليمن    عاجل..وفد الحوثيين يفشل مفاوضات اطلاق الاسرى في الأردن ويختلق ذرائع واشتراطات    مليشيا الحوثي تعمم صورة المطلوب (رقم 1) في صنعاء بعد اصطياد قيادي بارز    انتحار نجل قيادي بارز في حزب المؤتمر نتيجة الأوضاع المعيشية الصعبة (صورة)    إعلان عدن التاريخي.. بذرة العمل السياسي ونقطة التحول من إطار الثورة    دوري المؤتمر الاوروبي ...اوليمبياكوس يسقط استون فيلا الانجليزي برباعية    صحيح العقيدة اهم من سن القوانين.. قيادة السيارة ومبايض المرأة    "مشرف حوثي يطرد المرضى من مستشفى ذمار ويفرض جباية لإعادة فتحه"    طقم ليفربول الجديد لموسم 2024-2025.. محمد صلاح باق مع النادي    "القصاص" ينهي فاجعة قتل مواطن بإعدام قاتله رمياً بالرصاص    "قلوب تنبض بالأمل: جمعية "البلسم السعودية" تُنير دروب اليمن ب 113 عملية جراحية قلب مفتوح وقسطرة."    لماذا يُدمّر الحوثيون المقابر الأثرية في إب؟    غضب واسع من إعلان الحوثيين إحباط محاولة انقلاب بصنعاء واتهام شخصية وطنية بذلك!    بعد إثارة الجدل.. بالفيديو: داعية يرد على عالم الآثار زاهي حواس بشأن عدم وجود دليل لوجود الأنبياء في مصر    أيهما أفضل: يوم الجمعة الصلاة على النبي أم قيام الليل؟    ناشط من عدن ينتقد تضليل الهيئة العليا للأدوية بشأن حاويات الأدوية    دربي مدينة سيئون ينتهي بالتعادل في بطولة كأس حضرموت الثامنة    رعاية حوثية للغش في الامتحانات الثانوية لتجهيل المجتمع ومحاربة التعليم    الارياني: مليشيا الحوثي استغلت أحداث غزه لصرف الأنظار عن نهبها للإيرادات والمرتبات    "مسام" ينتزع 797 لغماً خلال الأسبوع الرابع من شهر أبريل زرعتها المليشيات الحوثية    استشهاد أسيرين من غزة بسجون الاحتلال نتيجة التعذيب أحدهما الطبيب عدنان البرش    الصين تبدأ بافتتاح كليات لتعليم اللغة الصينية في اليمن    تشيلسي يسعى لتحقيق رقم مميز امام توتنهام    إعتراف أمريكا.. انفجار حرب يمنية جديدة "واقع يتبلور وسيطرق الأبواب"    شاب سعودي يقتل أخته لعدم رضاه عن قيادتها السيارة    تعز.. حملة أمنية تزيل 43 من المباني والاستحداثات المخالفة للقانون    الهلال يلتقي النصر بنهائي كأس ملك السعودية    أثر جانبي خطير لأدوية حرقة المعدة    ضلت تقاوم وتصرخ طوال أسابيع ولا مجيب .. كهرباء عدن تحتضر    أهالي اللحوم الشرقية يناشدون مدير كهرباء المنطقة الثانية    صدام ودهس وارتطام.. مقتل وإصابة نحو 400 شخص في حوادث سير في عدد من المحافظات اليمنية خلال شهر    تقرير: تدمير كلي وجزئي ل4,798 مأوى للنازحين في 8 محافظات خلال أبريل الماضي    قيادي حوثي يخاطب الشرعية: لو كنتم ورقة رابحة لكان ذلك مجدياً في 9 سنوات    الخميني والتصوف    نجل القاضي قطران: والدي يتعرض لضغوط للاعتراف بالتخطيط لانقلاب وحالته الصحية تتدهور ونقل الى المستشفى قبل ايام    انهيار كارثي.. الريال اليمني يتراجع إلى أدنى مستوى منذ أشهر (أسعار الصرف)    إنريكي: ليس لدينا ما نخسره في باريس    جماعة الحوثي تعيد فتح المتحفين الوطني والموروث الشعبي بصنعاء بعد أن افرغوه من محتواه وكل ما يتعلق بثورة 26 سبتمبر    جريدة أمريكية: على امريكا دعم استقلال اليمن الجنوبي    محلل سياسي: لقاء الأحزاب اليمنية في عدن خبث ودهاء أمريكي    الرئيس الزُبيدي يُعزَّي الشيخ محمد بن زايد بوفاة عمه الشيخ طحنون آل نهيان    أولاد "الزنداني وربعه" لهم الدنيا والآخرة وأولاد العامة لهم الآخرة فقط    15 دقيقة قبل النوم تنجيك من عذاب القبر.. داوم عليها ولا تتركها    يمكنك ترك هاتفك ومحفظتك على الطاولة.. شقيقة كريستيانو رونالدو تصف مدى الأمن والأمان في السعودية    انتقالي لحج يستعيد مقر اتحاد أدباء وكتاب الجنوب بعد إن كان مقتحما منذ حرب 2015    مياه الصرف الصحي تغرق شوارع مدينة القاعدة وتحذيرات من كارثة صحية    إبن وزير العدل سارق المنح الدراسية يعين في منصب رفيع بتليمن (وثائق)    صحة غزة: ارتفاع حصيلة الشهداء إلى 34 ألفا و568 منذ 7 أكتوبر    كيف تسبب الحوثي بتحويل عمال اليمن إلى فقراء؟    المخا ستفوج لاول مرة بينما صنعاء تعتبر الثالثة لمطاري جدة والمدينة المنورة    النخب اليمنية و"أشرف"... (قصة حقيقية)    اعتراف رسمي وتعويضات قد تصل للملايين.. وفيات و اصابة بالجلطات و أمراض خطيرة بعد لقاح كورونا !    عودة تفشي وباء الكوليرا في إب    - نورا الفرح مذيعة قناة اليمن اليوم بصنعاء التي ابكت ضيوفها    من كتب يلُبج.. قاعدة تعامل حكام صنعاء مع قادة الفكر الجنوبي ومثقفيه    الشاعر باحارثة يشارك في مهرجان الوطن العربي للإبداع الثقافي الدولي بسلطنة عمان    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الأدب العربي.. بين أمسه وغده
نشر في الجمهورية يوم 03 - 06 - 2007

لست أدري أكان الناس يلقون على أنفسهم في أعقاب الحروب الماضية مثل ما أخذوا يلقونه على أنفسهم من الأسئلة في أعقاب الحرب العالمية الأولى وفي أعقاب الحرب العالمية الثانية ،فلم تكد الحرب العالمية الأولى تدنو من غايتها حتى أخذ الناس يتساءلون عما يمكن أن يكون لها من أثر في الحياة الأدبية وفيما ينتج الأدباء من شعر ونثر ، ثم لم تكد الحرب العالمية الثانية ترسل نذرها إلى الأرض حتى أعاد الناس إلقاء هذه الأسئلة على أنفسهم ولكل سؤال جواب ، كما يقول جميل لصاحبته بثينه ، ومن أجل هذا أخذ الناس يتنبؤون بما ستصير إليه الحياة الأدبية من قوة أو ضعف ، ومن رقي أو انحطاط ، ومن تطور في بعض فنونها ينتهي به إلى النمو أو ينتهي به إلى الانقراض أو ينتهي به إلى تحول خطير أو يسير.
فأدبنا العربي كغيره من الآداب الحية،بل كغيره من كل الظواهر الاجتماعية،مكون من هذين العنصرين اللذين كان «أوجست كونت» يسمي أحدهماثباتاً واستقراراً ،ويسمي ثانيهما تحولاً وانتقالاً،والذي يمتاز به أدبنا العربي من الآداب الحية الأخرى هو أن التوازن لم ينقطع بين هذين العنصرين،ولم ينشأ عن انقطاعه جمود الأدب وموته بتغلب عنصر الثبات والاستقرار ،أو فناء الأدب وتفرقه بتغلب عنصر التحول والتطور ،وليس من شك في أن أحد هذين العنصرين قد تفوق على صاحبه بين حين وحين في القوة فكان الأدب في بعض العصور مسرعاً إلى التطور ممعناً فيه،وكان في بعضها الآخر مؤثراً للثبات حريصاً عليه. فقد تفوق عنصر التطور بعد ظهور الإسلام بنحو نصف قرن،حين نشأ الجيل الجديد من العرب،واتصل بالأمم الاجنبية منتقلاً إليها ومستقراً في أرضها غازياً أو مرابطاً أو عاملاً في مصالح الدولة أو مستعمراً ،وانتقلت هي إليه في عقر داره في الحجاز ونجد، سبياً وموالي،تعمل له وتقوم على خدمته وتعلمه من شؤون الحضارة والثقافة مالم يكن يعلم،في هذا الوقت دفع العرب إلى حياة جديدة في كل شيء.
ولم يكن الأدب بطيئاً في الاستجابة لهذا التجديد ،فتطور الشعر في ألفاظه وأوزانه وأساليبه وفي معانيه وموضوعاته،ونشأت فيه فنون لم تكن من قبل،واستحدث النثر خطباً مطولة وقصصاً مفصلة،ورسائل موجزة مجملة ،ثم كثرت أحداث السياسة فتطور النفس العربية ونفوس الأمم الأخرى المستعربة بدوافع جاءتها من خارج .ثم قوي الاتصال،فلم يقصر على المجاورة والمعاشرة والمعاملة والتعاون على شؤون الحياة المادية،وإنما قرأ العرب ماكان عند غيرهم، وقرأ المستعربون ماكان عند العرب، ونشأ عن قراءة أولئك وهؤلاء هذا التطور الخطير الذي تمتاز به العصور السياسية في القرن الثاني والثالث والرابع.
ولست محتاجاً إلى أن افصل هذا التطور أو أطيل القول فيه فإن دقائقه معروفة تدرس للشباب في الجامعة وللتلاميذ في المدارس الثانوية، وإنما ألاحظ أن من أهم الأسباب التي دفعت إلى هذا التطور الاتصال الدقيق المستمر بين الثقافة العربية الموروثة من جهة وبين ثقافات الأمم المغلوبة المستعرية من جهة أخرى، فقد اتصلت ثقافة الهند والفرس واليونان والأمم الساعية وبعض الأمم المتأثرة بالثقافة اللاتينية في اسبانيا اتصلت كل هذه الثقافات اتصالاً يختلف قوة وضعفاً ويتفاوت سعة وضيقاً ويتمايز سرعة وبطئاً، ونتج عن هذا الاتصال هذا الأدب العربي المختلف المعقد الذي تجاوز الشعر والخطابة والرسائل إلى فنون من العلم والفلسفة وألوان من المعرفة تشبه ماكان العالم يعيش عليه في القارات الثلاث بين حروب الاسكندر وقيام الدولة العربية، فالدولة الإسلامية لم ترث سياسة اليونان والفرس وحدها، وإنما ورثت حضارتهم أيضاً، وورثت معها ماكان عند هذه الأمم من ثقافات متبانية، نقلتها كلها إلى اللغة العربية، وصبتها كلها في القالب العربي، بحيث يمكن أن يقال إن الحضارة الإنسانية التي كان يغلب عليها الطابع اليوناني قد غلب عليها الطابع العربي في القرون الاربعة الأولى للهجرة، ثم حدثت الأحداث وتتابعت الخطوب، وأقبل المغيرون من الغرب يحملون الصليب، وأقبل المغيرون من الشرق يحملون الجهل والوحشية، وتأثر العقل العربي الإسلامي بهذه الاحداث، فلم يمت ولكنه اضطر إلى شيء من الوقوف، وتفوق عنصر الثبات والاستقرار على عنصر التحول والتطور، ومهما يكن من شيء فقد دفع الأدب العربي إلى التطور في القرون الأربعة الأولى بحكم الاتصال اليسير بين الأمم أولاً ثم الاتصال الدقيق بينها ثانياً.
والآن وقد انتهى عصر الوقوف والركود واستؤنف الاتصال بين العالم العربي والعالم الأوروبي في أواخر القرن الثامن عشر، وقوي واشتد في القرن التاسع عشر، ثم دق ونظم في هذا القرن الذي نعيش فيه، ثم ألغيت المسافات الزمانية والمكانية فأصبح الاتصال في كل يوم بل في كل لحظة ظاهرة من الظواهر الطبيعية للحياة المألوفة، الآن وقد كان كل هذا،ماذا حدث للأدب العربي وماذا يمكن أن يحدث؟
أما الذي حدث فمعروف يقرؤه الناس في الكتب، ويدرسه التلاميذ في المدارس، وأظهره ماكان من الرجوع إلى الأدب القديم، وإحيائه بالنشر والإذاعة أولاً، ثم بالتقليد والمحاكاة ثانياً، وماكان من تعلم بعض اللغات الأجنبية وقراءة ماينتج فيها من الآثار،وترجمة بعض هذه الآثار إلى اللغة العربية في غير نظام ولا إطراد، وماكان آخر الأمر من الاعراض عن الحضارة المادية القديمة والإقبال على الحضارة المادية الحديثة، واستعارة النظم السياسية والاقتصادية والإدارية والعسكرية والقضائية من أوروبا، ثم العدول عن العلم الموروث ومناهج تعليمه، إلى العلم الحي الحديث ومناهج تعليمه الحية المستحدثة، وإقرار هذا كله في المدارس والمعاهد، التي أخذت تكثر وتنتشر في البلاد العربية كلها وفي مصر بنوع خاص.
كل هذا قد غير كثيراً من خصائص النفس العربية، واضطرها إلى انحاء من التصور والتصوير لم تكن مألوفة من قبل، وأخذ عنصر التطور يعمل من جديد، ولكنه كان تطوراً رائعاً حقاً، كان تطوراً يسعى في طريقين متعاكسين أشد التعاكس وأقواه.. وليس أدل من هذا التطور على قوة الأدب العربي وقدرته على المقاومة، واستعداده للتغلب على المصاعب والنفوذ من الخطوب،فقد كان إحياء الأدب القديم ومازال يدفع العقل العربي الحديث إلى وراء ويقوي فيه عنصر الثبات والاستقرار، كما كان الاتصال بالأدب الأوروبي الحديث يدفع الأدب العربي إلى أمام، ويقوي فيه عنصر التطور والانتقال، والغريب أن العقل العربي الحديث قد ثبت لهذا التعاكس العنيف وانتفع به أشد انتفاع، وكان يخشى في أواسط القرن الماضي وفي أول هذا القرن، أن يتم التقاطع بين هذين الاتجاهين، فيذهب فريق من المتأدبين إلى وراء غير رجعة، ويذهب فريق منهم إلى أمام في غير أناة، ويضيع الأدب العربي بين هاتين الطريقين المتعاكسين، ولكن الأدب ثبت لهذه المحنة واستفاد منها، كما تثبت الشجرة العظيمة التي أشرت إليها آنفاً للعواطف المتنافرة والمتدابرة، وليس من شك في أن هذا التعاكس قد كان له صرعى، فجمد بعض المتأدبين وأسرفوا في الجمود، ولكنهم قضوا ولم يعدوا بجمهودهم أحداً، وغلا بعض المجددين من الذين هاجروا إلى أمريكا من سوريا ولبنان ولكن غلوهم لم يلبث أن رد إلى الاعتدال والقصد.. والشيء المهم أن الأدب العربي في الشرق الأدنى وفي مصر خاصة قد استقامت له طريقة تحقق فيها التوازن الصحيح بين القديم والجديد، على نحو ماتحقق في العراق والشام ومصر أيام التطور الذي حدث في القرون الأربعة الأولى، فاحتفظ بأصوله التقليدية الأساسية ولم يستعص على التطور، وإنما قبل من الثقافات الأجنبية الحديثة مثل ماقبل من الثقافات الأجنبية أيام العباسيين، واستحدث من الفنون ما يلائم العصر الحديث كما استحدث من الفنون ما كان يلائم عصر العباسيين، وأول مظهر لهذا هو أن العلم الحديث نفسه قد اتخذ اللغة العربية له لساناً، وعرض كثيراً من فروعه نفسها في لغة عربية واضحة كما يعرض في اللغات الأجنبية المختلفة، ثم استقر في البلاد العربية، يدرس في معاهدها ومدارسها باللغة العربية حيناً، وباللغات الأجنبية حيناً آخر، يذهب العرب لطلبه في أوروبا وأمريكا، ويحمله الأوروبيون والأمريكيون إلى العرب في بلادهم،وهنا يظهر الفرق الخطير بين الاتصال العربي القديم بالثقافات الأجنبية القديمة، والاتصال العربي الحديث بالثقافات الأجنبية الحديثة، فقد كان الاتصال القديم ضيقاً أشد الضيق، محدوداً لايكاد ينهض به إلا أفراداً يمكن إحصاؤهم، وقد استطاعت كتب التاريخ أن تحفظ أسماء الذين نقلوا إلى العرب ثقافات الهند والفرس واليونان وأسماء الذين أساغوا هذه الثقافات وتمثلوها وأذاعوها في فنون الأدب العرب العربي المختلفة،أما في العصر الحديث فليس من سبيل إلى إحصاء الذين يتعلمون اللغات الأجنبية ويعلمونها،وينقلون منها بالشفاه حيناً وبالترجمة المكتوبة حيناً آخر.
فانتشار العناية بتعلم اللغات الأجنبية خصلة يمتاز بها العصر الحديث، وما نعرف أن العرب في بغداد أو غيرها من الأمصار الإسلامية أنشأوا مدارس لتعلم اليونانية والفارسية أو أرسلوا بعثات منظمة مستمرة إلى بلاد الهند والروم.
وخصلة أخرى يمتاز بها الاتصال الحديث من الاتصال القديم،وهي أن الاتصال القديم لم يكن مباشراً في أكثر الأحيان، وإنما كان يتم بالواسطة، فالذين كانوا ينقلون من اليونانية إلى العربية مباشرة كانوا أقل من القليل، وإنما كان النقل من اليونانية إلى السريانية،ثم من السريانية إلى العربية.
ومن هنا وقع كثير من الخطأ والخلط والاضطراب في النقل، ومن هنا صرفت بعض المذاهب الفلسفة اليونانية عن موضعها، وأضيف بعضها إلى غير أصحابه، وظهر شيء من الاضطراب في تاريخ الفلسفة الإسلامية وفي الصلة بينها وبين الفلسفة اليونانية، أما الاتصال في العصر الحديث فمباشر قلما يتم بالواسطة، فالذين يترجمون عن الانجليزية والفرنسية يحسنون هاتين اللغتين ويحسنون اللغة العربية أيضاً، فينقلون عن فهم وبصيرة في كثير من الدقة والاتقان، وقد يوجد النقل بالواسطة بالقياس إلى بعض اللغات التي لم ينشر درسها في الشرق العربي، فقد ينقل الأدب الفرنسي عن طريق الفرنسية والانجليزية، وقد ينقل الأدب الألماني كذلك عن طريق هاتين اللغتين،لكن القراء ينظرون إلى هذا النقل في كثير من التحفظ والاحتياط ويقبلونه على أنه ضرورة موقوتة ستزول حين يشيع درس اللغات الكبرى على اختلافها، والنقل بالواسطة عندنا أدق وأصح وأدنى إلى الاتقان من النقل مثلاً يضاهون بين ترجمتهم وبين الترجمة الانجليزية ليتحققوا من أن نقلهم مقارب يمكن أن يساغ، ولم يكن شيء من هذا ممكناً في العصر القديم.
ولعلها أن تكون أجل خطراً من الخصال الأخرى، فقد كان القدماء يتصلون بثقافات أجنبية قليلة محدودةوكان اتصالهم بها بطيئاً ضيقاً قليل الاتقان.
كانوا يتصلون بثقافة الهند وهي ضئيلة، وكانوا يتصلون بثقافة الفرس وهي ضئيلة أيضاً وكانوا يتصلون بالثقافة اليونانية العظيمة الواسعة المختلفة، ولكن اتصالهم نفسه كان ضئيلاً، فهم قد عرفوا الطب والعلم على اختلافه، وهم قد عرفوا الأخلاق ومابعد الطبيعة، ولكنهم لم يعرفوا الأدب ولم يعرفوا الفن، ولم يكادوا يعرفون من السياسة شيئاً،أما الآن فنحن نتصل عن طريق مباشرة وغير مباشرة بثقافات لاتكاد تحصى، وأيسر ما يمكن أن يقال هو أننا نتصل بالثقافة الاسبانية والايطالية، وقد نقرأ كيف تنقل إلينا من بلاد أوروبا الشمالية،وأخرى من بلاد أمريكا الجنوبية، وما أكثر ما نقرأ عن بلاد الشرق الأقصى، وما أكثر ما نقرأ عن بلاد أخرى لم تتحضر بعد، ولكن الأوروبيين ثقافتنا لاتتصل بالثقافات الأجنبية عن طريق المكان وحده، ولكنها تتصل بها من طريق الزمان أيضاً، فقد استكشف كثير من تاريخ الأمم، وعرض علينا في اللغات المختلفة، فنحن نعرف من تاريخ المصريين القدماء أكثر مما كان المصريون القدماء الآن، أدق وأعمق وأوسع من علم المصريين في أيام البطالسة بهذا التاريخ،وقل مثل ذلك عن تاريخ اليونان والرومان، وقل مثله عن تاريخ الفرس والهند،التي فتحت لنا على مصاريعها، ونفذت إلينا منها الثقافات الأجنبية المختلفة، تباعد بيننا وبين ماعرف العرب القدماء من حياة الأمم الأخرى وقد استطاع أبو العلاء أن يقول:
مامر في هذه الدنيا بنور زمن إلا وعندي من أنبائهم طرف
ولو قد نشر أبو العلاء الآن لعرف أن الأطراف التي كانت عنده، لم تكن شيئاً مذكوراً بالقياس إلى الأطراف التي نأخذ نحن بها الآن، ومن المحقق أن الإنسانية ستقيس علمها في آخر هذا القرن، إلى علمنا نحن في هذه الأيام، فترثي لنا وتشفق علينا كما نرثي نحن لأبي العلاء ونشفق عليه.
ومهما يكن من شيء فإن الفروق التي أشرت إلى بعضها، بين اتصال الأدب العربي القديم بالثقافات الأجنبية القديمة، واتصال الأدب العربي الحديث بالثقافات الأجنبية الحديثة، خليقة أن تنشأ فروق خطيرة بين الأدبين في أنفسهما، وإذا كانت هذه الفروق لم تظهر واضحة جلية أثناء القرون الماضية، فإنها قد أخذت تظهر شيئاً فشيئاً أثناء هذا القرن الذي نعيش فيه، ولست أدري أين قرأت لبعض الأدباء الفرنسين أن القرن العشرين بالقياس إلى الحياة الأدبية في فرنسا إنما يبتدئ بالحرب العالمية الأولى، وأكاد أقبل هذا التوقيت بالقياس إلى حياتنا الأدبية العربية ،ففي أواخر القرن الماضي وأوائل هذا القرن ظهرت المقدمات التي تنبئ بما كان أدبنا مشرفاً عليه من تطور خطير، ظهرت آثار الشيخ محمد عبده وقاسم أمين المويلحي وعبدالله نديم والبارودي وحافظ وشوقي ومطران، وكان هؤلاء جميعاً وكثير من أمثالهم يصورون آخر عصر وأول عصر آخر، يصورون طوراً من أطوار الانتقال، فهم كانوا يحافظون على كره، ويجددون على استحياء، ويرون أن الحياة القديمة قد انقضت أيامها، وأن فجر حياة جديدة قد أخذ ينتشر في الأفق شيئاً فشيئاً، ولم يكد هذا القرن يخطو خطوات قليلة حتى ظهر جيل من الشباب نظر إلى الحياة القديمة نظرة سخط عنيف، ونظر إلى قادة الرأي هؤلاء نظرة حب ورضا واكبار، ولكن فيها كثيراً من الاشفاق والرثاء، وفيها مايدفع أحياناً إلى الثورة والغضب، فقد كان هذا الجيل من الشباب الناشئ في أول القرن يقف من قادة الرأي موقف الأبناء من الآباء يحبونهم ويكبرونهم،ولكنهم يثورون بهم ويخرجون عليهم سراً دائماً وإعلاناً بين حين وحين.
والذين يذكرون الأعوام التي سبقت الحرب العالمية الأولى في مصر خاصة، يذكرون من غير شك تلك الخصومات العنيفة التي ثارت بين الشباب والشيوخ في الصحف وفي الكتب والرسائل، ولعل منهم من يذكر عنف العقاد والمازني وطه حسين بشوقي وحافظ، ولعل منهم من يذكر عنف طه حسين بالمنفلوطي ولعل منهم من يذكر كل تلك الخصومات التي كانت تثار حول الأدب وحول السياسة وحول حرية الرأي، في الصحف السيارة اليومية، وفي المجلات الشهرية والأسبوعية، وفي بعض الكتب التي كانت تذاع هنا وهناك، فقد كان هذا كله انباء بأن تطوراً خطيراً يوشك أن يمس الأدب العربي الحديث في أغراضه ووسائله، وفي تصوره وتصويره، وفي تقديره للأشياء والناس وحكمه على الأشياء والناس، وفي أثناء هذا الوقت كان التعليم المتواضع يزداد انتشاراً وتغلغلاً في طبقات الشعب، وكان الضمير الوطني يزداد يقظة وتنبهاً، وكانت المثل العليا في الحياة تتغير في نفوس الشباب تغيراً شديداً، وكان السلطان في مصر يضيق بذلك ويستعد لمقاومته، وكان هذا لايزيده إلا استيقاظاً وتنبهاً واسراعاً إلى التطور، ثم كانت الواقعة الكبرى التي هزت العالم كله خمس سنين، وانجلت عنه الغمرة، وإذا كثير جداً من شؤونه يتغير في الحياة العقلية والاقتصادية والسياسية، وإذا مصر خاصة يصيبها من هذا التطور طرف لابأس به، وإذا الجذوة المصرية تتوهج فترسل ضوءها وشررها إلى ما حولها من البلاد العربية، وإذا الأدب العربي يحيا في ذلك الوقت حياة عنيفة خصبة مختلفة لم يعرفها منذ زمن بعيد جداً.
ثم تتقدم الأعوام شيئاً، وإذا قرارات تتخذ، ونظم توضع، من شأنها أن تغير الحياة الأدبية في الشرق العربي تغييراً خطيراً،فقد كان انتشار التعليم من المؤثرات في تطور الأدب قبل الحرب الأولى، ولكن انتشار التعليم كان محدوداً ينظمه السلطان البريطاني في كثير من البخل والتقتير، ولكن أمور التعليم ترد إلى مصر بعد الحرب، فيتنوع ويزداد انتشاراً، ويندفع في هذا التنوع والانتشار ويصدر الدستور فيلزم الدولة بإعطاء المصريين جمعياً مقداراً من العلم يمكنهم من أن يقرؤوا ويفهموا ويضطربوا في الحياة، ونجد الدولة في تنفيذ هذا الدستور ناجحة حيناً مخفقة حيناً آخر، ولكنها تريد عدد القارئين على كل حال، وقد ظفرت مصر منذ ثورتها في أعقاب الحرب بحظ من حرية التفكير والتعبير لم تعرفه من قبل، واشتدت فيها الخصومات حول المثل العليا في السياسة والأخلاق والاقتصاد والادب والفن، فكان هذا كله أشبه شيء بالحطب الجزل في النار المضطرمة فيزيدها تلظياً واضطراماً، وقد صدمت مصر بألوان من الكوارث في حياتها السياسية حدت من حرية الرأي والقول بين حين وحين، ولكنها زادت العقل المصري قوة وأيداً، لأنها علمته العكوف على نفسه، وفتقت له ألواناً من الحيل للتعبير عما كان يريد أن يعبر عنه، ولست أدري أكان من النافع أم غير النافع لمصر أن تتعثر في حياتها السياسية، ولكن الشيء الذي لا أشك فيه هو أن هذه الأزمات التي وقفت الإنتاج الأدبي شيئاً ما، قد أنضجت هذا الأدب العربي ومنحته صلابة ومرونة في وقت واحد، علمته كيف يثبت للخطوب، وكيف ينفذ من المشكلات.
لم تكن مصر منفردة بهذا التطور العنيف ولابهذه الأزمات التي كانت تكبو بها مرة وتنهض بها مرة أخرى، وإنما كان هذا كله حظاً شائعاً لبلاد الشرق العربي كله تقريباً، فجرى التطور الأدبي متوازناً شيئاً ما، ولكن مصر امتازت بمكانها من السبق في السياسة وفي الاقتصاد، وبما أتيح لها من الثروة التي مكنتها من الاسراع إلى نشر التعليم على اختلاف فروعه، ويكفي أن نلاحظ أن مصر أنشأت جامعتين في أقل من ربع قرن، ونشرت التعليم الثانوي في جميع عواصم الأقاليم، ونشرت التعليم الابتدائي في جميع المدن،ونشرت التعليم الأولى في كثير جداً من القرى، ذلك إلى تنوع هذا التعليم واختلاف فروعه، وإلى ما أنشئ من المؤسسات المختلفة التي تعنى بهذا الفرع أو ذاك من فروع المعرفة، وإلى إرسال الشباب إلى العواصم الأوروبية الكبرى، واستدعاء الاساتذة من هذه العواصم على اختلافها، كل هذا جعل مصر مركزاً خطيراً من مراكز الثقافة العالمية في الشرق، وكل هذا فتح للأدباء أبواباً من التفكير شق لهم طرقاً إلى الإنتاج ماكانوا ليعرفوها لوجرت الأمور في مصر على ماكانت تجري عليه أثناء الاحتلال وقبل إعلان الاستقلال وإصدار الدستور.
ثم صدم العالم صدمته الثانية، وكانت الحرب العالمية الأخيرة، وذاقت مصر من مرارتها غير قليل، واصطلت بعض نارها ست سنين، وكان أهم ما مس الأدب من هذا كله فرض الرقابة على الإنتاج العقلي، ولست أدري إلى أي حد ضاق الأدباء بهذه الرقابة، ولكن الذي أعلمه هو أن هذه الرقابة لم تمكننا من الإنتاج الأدبي الخالص، ولعلها صرفت بعضنا عن الأدب السياسي فاضطرته إلى إنتاج آخر لعله أن يكون أبقى وأجدى من الأدب السياسي.
ولأضرب لذلك مثلاً الأستاذ العقاد، فقد صرفته ظروف الحرب عن عنفه السياسي وقتاً ما، ولست أعرف أضاق بذلك أم لم يضق، ولكنني أعلم أنه دفع إلى ألوان جديدة من البحث والتفكير وأنتج كتباً ما أشك في أن قراءه يؤثرون أيسرها على أدبه السياسي كله وجملة القول أن الأدب العربي الحديث خضع أثناء ربع قرن لمؤثرات كثيرة مختلفة دفعته إلى تطور خطير من جميع نواحيه: دفعته إلى التطور في شكله وفي موضوعه، ودفعته إلى التطور سعة وعمقاً وتنوعاً واختلافاً، ويكفي أن نستعرض الفنون التي يمارسها الأدباء لنتبين صدق هذا التقدير، فقد أدركنا هذا القرن وأدبنا العربي ينقسم إلى شعر ونثر وكان شعرنا قديماً يحاول التجديد، وكان نثرنا كتباً يسيرة وفصولاً لاتنشرها الصحف، بعضها يمس السياسة، وبعضها يمس الحياة اليومية وبعضها يحاول التعرض لبعض شؤون الاجتماع، وقليل منها كان يفرغ للأدب الخالص فراغاً تاماً، وكان عندنا تمثيل نستعير قصصه من أوروبا ولانكاد نجيد عرضه على النظارة، ولعلنا كنا نسيء إلى فن التمثيل أكثر مما كنا نحسن إليه وكنا نحاول النقد فنذهب فيه مذاهب القدماء، وكان الشباب يريدون أن يجددوا هذا النقد فلا يظفرون إلا بالإعراض والإنكار، وقد حاول بعضنا أن يحدث في الأدب فناً جديداً، فحاول المويلحي رحمه الله أن ينشىء قصة فأنشأ مقامة طويلة، وحاول حافظ رحمه الله أن يتحدث إلى سطيح فلم يصنع شيئاً.
أما بين الحربين فقد دفع أدباؤنا إلى الأعاجيب، وكان أول هذه الأعاجيب هذه الخصومات السياسية التي يسرت اللغة تيسيراً غريباً، ومنحت العقول حدة رائعة ونفاذاً بديعاً، واستطاعت أن تشغل الجماهير وتعلمهم العناية بالأمور العامة والاهتمام لها والتفكير المتصل فيها وأحدثت أو قل أحيت في النثر العربي فن الهجاء الذي اتقنه الجاحظ وقصر فيه من جاء بعده من الكتاب، فقد أصبح هذا الهجاء السياسي من أهم الألوان لأدبنا العربي الحديث، فيه الحدة والعنف وفيه المتعة واللذة، وفيه التنوع والاختلاف بتنوع الأمزجة واختلافها وفيه الإيجاز والإطناب، وفيه التصريح والإشارة.
على أن هذه الخصومة السياسية لم تمس النثر وحده، وإنما ردت إلى شعرائنا الشيوخ شيئاً من شباب، فاضطرمت نفس حافظ وشوقي رحمهما الله واستطاعا أن يتصلاً بالجمهور بعد أن كانا قد بعدا عنه شيئاً وهذا الشباب الذي رد إلى شوقي في أعقاب الحرب العالمية الأولى دفعه إلى تقليد الشعراء التمثيليين الأوروبيين فأنشأ شعراً تمثيلياً قد نرضى عنه أو لانرضى عنه، ولكن كثيراً منه فتن الذين قرؤوه وسمعوه في دور التمثيل.
وهذه الخصومة السياسية دفعت صحف الأحزاب المختصمة إلى التنافس فانفلتت فيما جعلت تنشر من الفصول، وإذا الأدباء يستعرضون الأدب القديم يحيونه حياة جديدة بالنقد والتحليل، وإذا هم يستعرضون الآداب الأوروبية الحديثة يذيعونها ناقدين ومحللين ومترجمين، وإذا هم بعد هذا كله يرقون إلى إنشاء الدراسات التي تطور حتى تصبح كتباً تستقل بنفسها، وتقصر حتى تصبح فصولاً تنشر في الصحف والمجلات، ثم يجمع بعضها إلى بعض فإذا هي أسفار قيمة يجد فيها القارئ نفعاً ولذة ومتاعاً فهذا نوع جديد من الأدب عرفه الأوروبيون منذ زمن بعيد ولم نعرفه نحن إلا في هذا العصر الحديث، ثم ننظر فإذا تمثيل شعبي ينشأ فجأة فيصور حياة الثورة ومااستتبعته من تطور الأخلاق وتغير القيم، وإذا نحن نشغف بهذا التمثيل الشعبي، لكنا نشهده للهو وقطع الوقت ولا نرقى به إلى مرتبة الأدب الرفيع، فيشعرنا ذلك بأن للتمثيل مكانة أدبية يجب أن تعرف له في مصر، وإذا نحن ننشئ فرقة للتمثيل، وإذا القصص التمثيلية توضع لها حيناً وتترجم لها أحياناً، وإذا أدبنا التمثيلي قد نشأ متواضعاً ولكنه قد نشأ على كل حال وكل هذا لايكفينا، فقد قرأنا القصص الأوروبي طويلة وقصيرة ومتوسطة، وقرأناه في اللغات المختلفة، وسألنا أنفسنا شاعرين بذلك أو غير شاعرين:
مابالنا لا نقص في لغتنا كما يقص الأوروبيون والأمريكيون في لغاتهم؟ ثم حاولنا مقلدين أول الأمر، مبتكرين بعد ذلك، وإذا نحن نبلغ من الإجادة في هذا الفن الجديد حظاً عظيماً، وإذا قصصنا يشيع في الشرق العربي ثم ينقل إلى الغرب الأوروبي، وإذا قصصنا يختلف في موضوعه وأغراضه ومذاهب الكتاب فيه على نحو مايختلف القصص الأوروبي في هذا كله وإذن فنحن قد دفعنا شاعرين أو غير شاعرين إلى أن نسمو بأدبنا العربي إلى مكانة الآداب الحية الكبرى، وبلغنا من ذلك حظاً ليس به بأس وإن لم نبلغ من ذلك مانريد، ومتى بلغ الناس مايريدون!
والشيء الذي ليس فيه شك هو أن أيسر الموازنة بين أدبنا هذا الحديث الذي لانكاد نرضى عنه أو نقنع به، وبين أدبنا ذلك القديم الذي فتنا به فتوناً، يدل على أننا قد وثبنا بالأدب العربي وثبة لم يكن القدماء يحلمون بها ولم تكن تخطر لهم على بال وقد كان العصر العباسي عصراً ممتازاً في التاريخ الأدبي من غير شك، ولكن عصرنا نحن أشد منه امتيازاً وأكثر منه خصباً وأعظم منه استعداداً للبقاء.
على أن هناك تطوراً آخر لأدبنا الحديث أعظم خطراً وأبعد أثراً من كل ماقدمت، وهو الذي سيوجه الأدب في المستقبل القريب إلى غايته التي لايستطيع عنها تحولاً أو انصرافاً فيما أعتقد ولهذا التطور الخطير وجهان: أحدهما يتصل بأشخاص الأدباء والآخر يتصل بالموضوعات التي يطرقها الأدباء فأما الوجه الأول فنستطيع أن نتبينه في سهولة ويسر إذا نظرنا إلى حافظ وشوقي والمنفلوطي من جهة وإلى العقاد والمازني وهيكل من جهة أخرى فقد كان الأدباء الثلاثة الأولون لايعيشون لأدبهم وإنما يعيشون بأدبهم أريد أنهم كانوا يتخذون الأدب وسيلة إلى الحياة وإلى حياة لاتمتاز بالاستقلال كان كل واحد منهم في حاجة إلى حماية تكفل له مايحب من العيش والمكانة، ولابد له من «مسين» كما يقول الأوروبيون يحميه ويعطيه ويحوطه بالرعاية والعناية، ويدفع عنه العاديات والخطوب أما الثلاثة الآخرون فثائرون على هذا النوع من الحياة، مبغضون لهذا النوع من الأدب، يكبرون أنفسهم أن يحميهم هذا العظيم أو ذاك، ويكبرون أدبهم أن يرعاه هذا القوي أو ذاك، هم يعيشون أولاً ويعيشون أحراراً، ثم ينتجون أولاً وينتجون أحراراً وهم يأبون أن يؤدوا عن إنتاجهم الأدبي حساباً لهذا أو ذاك، هم مستقلون في إنتاجهم الأدبي بأدق معاني هذه الكلمة وأكرمها.
وقد تقول إنهم ينتجون للجمهور، فهم مدينون للجمهور بحياتهم الأدبية، ولكن الجمهور هذا شيء شائع مجهول لايستطيع أن يعبث بحرية الأديب ولا أن يعرض كرامته لما لايحب وكل إنسان في بيئة متحضرة إنما يعيش للجمهور وبالجمهور، كما أن الجمهور نفسه يعيش لكل إنسان وبكل إنسان فالظاهرة الخطيرة في أدبنا الحديث هي هذه الكرامة التي كسبها الأدباء لأنفسهم ولأدبهم والتي مكنتهم من أن يكونوا أحراراً فيما يأتون وفيما يدعون.
أما الوجه الثاني لهذا التطور فهو أن هذه الحرية نفسها قد فتحت للأدباء أبواباً لم تكن تفتح لهم حين كان الأدب خاضعاً للسادة والعظماء وقد أثرت ظروف التطور الإنساني في توجيه هذه الحرية، فقد كان الأدباء القدماء يؤثرون السادة والعظماء بما ينتجون فأصبح الأدباء المحدثون يؤثرون أنفسهم ويؤثرون الفن ويؤثرون الشعب بما ينتجون، وكذلك عكف الأدباء على أنفسهم فحللوها وعرضوها، واستخرجوا من هذا التحليل علماً كثيراً ومتاعاً عظيماً، وكذلك فرغ الأدباء لفنهم فجودوه كما يريدون وكما يستطيعون وكما يريد الفن، لا كما يريد هذا السيد أو ذاك.
وكذلك عكف الأدباء على الشعب، فجعلوا يدرسونه، ويتعمقون درسه، ويعرضون نتائج هذا الدرس، ويظهرون الشعب على نفسه فيما ينتجون له من الآثار، وهذا كله قد رفع الأدب إلى الصدق والدقة، وجعله إنسانياً لافردياً، ووضعه حيث وضعت الآداب الحية الكبرى نفسه بحكم التطور الذي دفعتها إليه ظروف الحياة الحديثة.
فإذا أردنا أن نتبين الاتجاهات التي سيدفع إليها الأدب العربي غداً، بعد أن عرضنا اتجاهات الأدب العربي في ماضيه القريب والبعيد، وبعد أن رأيناه يحيا بين أيدينا في حاضره الذي نشهده الآن فقد يخيل إلي أننا نستطيع أن نستنبط هذه الاتجاهات من بعض الحقائق الواقعة، وأول هذه الحقائق الواقعة هو هذا الاستقلال الذي كسبه الأدباء لأنفسهم ولأدبهم فهم قد أخذوا بحظ من الحيرة وهم لم يكتفوا بما أخذوا، ولكنهم سيمعنون في استقلالهم وحريتهم حتى يرتفعوا عن كل رقابة مهما يكن مصدرها وحتى يتعرضوا وقد تعرضوا بالفعل لبعض الأذى في سبيل هذه الحرية.
ومن هذه الحقائق الواقعة أن التعليم ينتشر انتشاراً هائلاً، ينشأ عنه كثرة القراء من جهة، واختلاف هؤلاء القراء في حظوظهم من الثقافة من جهة أخرى وسيكون لهذه الحقيقة تأثير خطير، في الأدب فسيحرص بعضهم على كثرة القراء وانتشار آثاره، وسيضطر إلى ملاحظة هذه الكثرة كما كان الأدباء القدماء يلاحظون سادتهم ومواليهم، وسيضعف أدب هؤلاء حتى يصل إلى الابتذال أحياناً ولعلنا نشهد بعض ذلك منذ الآن، وسيحرص قوم آخرون عن الأدباء على كرامة الفن وجودته أكثر ممايحرصون على انتشاره وشيوعه، فيجودون أدبهم ويحفلون بهذا التجويد، ثم يرسلون أدبهم إلى القراء غير حافلين بالرضا أو السخط، ولا بما ينتجه الرضا أو السخط من الفقر والثراء.
وهؤلاء هم قوام الحياة الأدبية، وهم هداة الناس وقادتهم إلى الحق والخير والجمال.
وهناك حقيقة واقعة رابعة، وهي أننا نعيش في عصر السهولة والسرعة، في عصر الراديو والسينما والصحف اليومية والمجلات اليسيرة والجمهور القارئ الضخم والمواصلات السريعة، وكل هذا سيعرض الأدب والأدباء، وقد أخذ يعرضهم بالفعل، لمحنة قاسية، فسيلتجئ الراديو والصحف والمجلات إلى الأدباء وسيتعجلهم في الإنتاج، وسيضطرهم إلى السرعة، وسيحول بينهم وبين الأناة التي تمكنهم من التجويد، وسيجدون أنفسهم بين اثنتين: إما أن يستجيبوا للراديو والصحف والمجلات فيضعف فنهم ويبتذل بعض الشيء، وإما أن يمتنعوا عليها فيشقوا على أنفسهم ويخلوا بين الجمهور وبين أصحاب الأدب الرخيص، وأكبر الظن أنهم سيلائمون بين هذا كله، فيؤثرون الفن بالإنتاج الهادئ البطيء الذي يحتفلون به ويفرغون لتجويده ويذيعونه في الناس متى أرادوا هم لا متى أراد الناس، ويقدمون إلى الجمهور عن طريق الراديو والصحف والمجلات أدباً يسيراً، مهما يكن من يسره فلم يكون من الرخص والابتذال بحيث يصبح خطراً على الجمهور.
وهناك حقيقة واقعة خامسة، وهي أن الثقافات الكثيرة التي تصل إلى أدبنا الآن من كل وجه ستوجه كتابنا اتجاهات مختلفة، فمنهم من يساير الثقافة الانجليزية، ومنهم من يساير الثقافة اللاتينية، ومنهم من يذهب مذهب الروسيين في الأدب، ومنهم من يذهب فيه مذهب الأمريكيين ويوشك هذا الاختلاف أن يفسد الأمر على أدبنا العربي لولا أن أدبنا ليس بدعاً في ذلك من الآداب الكبرى، فكل أدب خليق بهذا الأسم يأخذ ويعطي ويتلقى الثروة من كل وجه، والمهم أن يحتفظ الأدب بشخصيته ويحرص على مقوماته، ويحسن الموازنة بين عناصر الثبات والاستقرار وعناصر التحول والتطور.
وسيوجد بين أدبائنا من يتطرف في هذه الناحية أو في تلك، ولكن ستوجد بين أدبائنا هذه الصفوة التي تعرف كيف تلائم بين مصادر الثروة الأدبية على اختلافها، وكيف تستخلص منها هذا الرحيق الذي تقدمه غذاء للعقول وشفاء للقلوب والنفوس.
وهناك حقيقة واقعة سادسة، وهي التي أريد أن أختم بها هذا البحث الطويل، وهي أن الحياة الإنسانية على اختلاف بيئاتها تتجه الآن اتجاهات شعبية لا فردية ومن طبيعة هذه الاتجاهات الشعبية أن تستغرق كل شيء وتلتهم كل شيء، ومن طبيعة الأدب الرفيع والفن الجميل أن يمتاز ويأبى الفناء في أي قوة مهما تكن، فسيمتحن الأدباء فيما يحرصون عليه من الامتياز، وسيتعرضون إما للعزلة المؤدية أو الخلطة التي تدعو إلى الابتذال ولكنهم سيلائمون في أدبنا العربي كما لاءم زملاؤهم في الآداب الأخرى بين امتياز أدبهم الرفيع وطموح الشعوب إلى أن تستغرق كل شيء، وسيكون أدبهم الرفيع الممتاز مرآة صافية صقيلة رائعة لحياة الشعب، يرى فيها الشعب نفسه فيحب منها مايحب ويبغض منها مايبغض، ويدفعه حبه إلى التماس الكمال، ويدفعه غضه إلى التماس الإصلاح وينظر الأدب العربي الحديث فإذا هو في مستقبل أيامه كالآداب الحديثة الكبرى، قائد الشعوب إلى مثلها العليا من الخير والحق والجمال.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.