بقلم: أبوبكر باخطيب وقفنا في الجزء الأول من حياة باكثير عند مراحل التكوين الثقافى لباكثير وذكرنا المرحلتين الأولى والثانية واليوم نكمل موضوعنا عن حياة هذا الأديب والشاعر الراحل / على أحمد باكثير . المرحلة الثالثة في هذه المرحلة سوف نجد من خلالها الفوارق وعوامل التجديد عندب اكثير ففي المرحلة الثالثة يقول الدكتور السومحى : أذا كنا قد عرفنا باكثير في حضرموت متأثراً بامرئ القيس والمتنبى ومعجب بأبن المعتز فإنا نجده هنا متأثراً بشوقى ومعجب بكل كتاب جيل التنوير وليس قاصر أخص على المسرحية الشعرية بل ربما تعداها إلى كل مميز من شعره وهاهو ذا ينظم قصيدة طويلة تبلغ (256) بياتاً على غرار ( نهج البردة ) لأحمد شوقى سماها ( نظام البردة أو ذكرى محمد (ص) وهو في أفكارها ومعانيها يتبع شوقى ويحاكية في تضمينها روح العصر . إذن فقد كانت المرحلة عبارة عن تفتح آفاق فكره وتوسع لمداركه حيث أخذ يطلع على الأساليب الحديثة من خلال الكتابات الجديدة المبثوثة في الكتب والمجلات التى كانت تفد من مصر على الحجاز وكان أثر ذلك عليه أن بدأ يكسب المران والخبرة والذوق الأدبي الحديث وبدأ يحاول الخروج من دوائر شعر الشعراء القدامى الذى حصر نفسه فيها إلى فضاء أوسع وأفق أرحب وهو في الحجاز ينتمي إلى مدرسة الأحياء . فإذا كان باكثير في المرحلتيين السابقتين قد أسس ثقافة على دعامتين من التراث العربي والديني والتجارب والخبرات فإن هذه المرحلة تعنى التطور والتنوع وتعنى التوسع بل ربما تعنى التحول الكلى فهى مرحلة الدراسة الجامعية ومرحلة الاطلاع على آداب الغرب وفنونه مرحلة الاتصال بشكسبير وملتن وإليوت وغيرهم , مرحلة الاحتكاك بالصراع الفكرى الدائر في مصر والوقوف على أدق أسرار النهضة الأدبية والفكرية بل هى مرحلة الوعى بالواقع العربي وأبعاده الفكرية والثقافية ومن ثم فهى مرحلة الممارسة الفعلية لفنون الأدب الحديث والوقوف على مذاهبه واتجاهاتة . ويقول باكثير عن هذه المرحلة كانت ثقافتى الأولى عربية خالصة وظلت كذلك حتى حضرت إلى مصر فعزمت على أن أدرس الأدب الإنجليزى لما بلغنى أنه غنى بالشعر الرفيع فقد كانت غايتى آنذاك أن اصقل موهبة الشعر عندى وأعد نفسى لأكون شاعراً كبيراً وعسى أن تفتح لى هذه الدراسة آفاقاً جديدة في الشعر فالتحقت بقسم اللغة الإنجليزية في كلية الآداب بجامعة القاهرة وما إن سلخت عاماً فيها حتى وجدت نفسى في بلبة نفسية من حيث مفهوم الأدب كله فأخذت أعيد النظر في المقاييس الأدبية التى كانت عندى من أثر ثقافتى العربية . ويقول الدكتور السومحى : وانجذب باكثير نحو هذا التيار بقوة فأخذ يطلع على الآداب الغربية بشكل عام وعلى أدب شكسبير بشكل خاص وأدى ذلك به على أن ترجم ( روميووجوليت والليلة الثالثة عشرة ) لشكسبير شعراً وكان معجب به كثيراً ويقول باكثير عن شكسبير كان يستهوينى بوجه أخص شكسبير ولعل مرجع ذلك بالاضافة إلى مكانته في هذا الفن ( المسرح ) أنه شاعر وأنا كنت إذ ذاك ما زلت أعتبر الشعر ميدانى الأول فلا غرور أن أفتتن بشكسبير . قصة تحديه لأستاذه الأنجليزى يقول الأستاذ أحمد فضل شبلول حول هذا الموضوع يعد الشاعر على أحمد باكثير واحداً من أوائل الذين فتحوا الطريق أمام الشعراء الجدد لاستخدام الشعر المرسل عن طريق مسرحية ( روميو وجوليت ) ثم شعر التفعيلة أو الشعر الحر عن طريق مسرحيته ( أحناتون ونفرتيتى ) التى كتبها عام 1938م . وقد بدأت شرارة هذا الشعر في الانطلاق عندما تحدى باكثير أستاذه الإنجليزى الذى كان يدرس له مادة الأدب الإنجليزى بكلية الآداب بجامعة الملك فؤاد الأول سابقاً و ( جامعة القاهرة حالياً ) فكان أستاذه يرى أن اللغة الإنجليزية اختصت بالبراعة في الشعر المرسل وأن الفرنسيين جالوا محاكته في لغتهم فكان نجاحهم محدوداً وأن اللغة العربية لايمكن أن ينجح فيها هذا اللون من الشعر فما كان من باكثير إلا أن قال له ( أما أنه لا وجود له في أدبنا العربي فهذا صحيح لأن لكل أمة تقاليدها الفنية وكان من تقاليد الشعر العربي التزام القافية ولكن ليس ما يحول دون إيجاده في اللغة العربية فهى لغة طيعة تتسع لكل شكل من أشكال الأدب والشعر ) فنهره أستاذه وقال له كلام فارغ لهذا لجأ باكثير إلى النسخة الإنجليزية من مسرحية ( روميو وجوليت ) فتخير منها مشهداً فعالجه بالشعر المرسل ثم ترجم المسرحية كلها وتبين له أن اختار البحور المتحدة التفاعيل التى تستوى تفعيلاتها كا لكامل والمتدارك والمتقارب أما البحور التى اختلفت تفعيلاتها فلم يخترها تلقائياً وكانت هذه أو تجربة له في الشعر المرسل . ويتضح لنا أن باكثير بدراسته للأدب الإنجليزى واطلاعه على الآداب الأوربية قد تحول ثقافياً ولكنه لم يتحول فكرياً ولم تطغ الثقافة الغربية على الثقافة العربية عنده بل ظلت راسخة في فكره تغذى عطاءه الأدبي وقد رفد ذلك الجو الثقافي السائد في مصر , وقد كان لحتكاك الأديب بكل هذا الأدب في ذلك الوقت أبعد الأثر في تكوينه الثقافى الحديث حيث انضم إلى أصحاب الثقافة الإنجليزية من امثال شكرى والعقاد والمازنى وأبى شادى وغيرهم وعلى ضوء هذا التحصيل الثقافى نلاحظ أن باكثير قد انتقل من التقليدية إلى الإحيائية ثم التجديد والابتكارية الإبداعية . فأديبنا باكثر هو نهر متدفق من العطاء الأدبى يسقيك من ينابيع الشعر كما يرويك من عيون النثر وكل ذلك يفصح عن طاقة فكرية أدبية متنوعة ومتجددة في جذور التراث القديم كما تنظر في عادات المجتمع وطباعه وميوله فهو دائم البحث والتنقيب عن الجديد , وهاله الفرق بين ثقافتة وشعره وبين ماهو حاصل عل الساحة الأدبية فأخذ يغير من طريقة شعره وتحول من التقليد إلى التجديد في الشكل والموضوع ولاحظ أنه يحتاج إلى ثقافة جديدة تغذى موهبته الشعرية فبدلاً من أن يدخل الأزهر الذى كان منتهى آماله وبغية طموحاته تحول إلى كلية الآداب قسم اللغة الإنجليزية بالجامعة العمل الثانى الذى يمثل مرحلة الإحياء هو مطولته ( نظام البردة أو ذكرى محمد (ص) التى كما ذكرنا سلفاً بعدد أبياتها (256) بيتاً أشتكى في أولها ثم يصف السيارة ثم يتحدث عن حياة الرسول في المدينة وطريقته في نشر الإسلام ونسبة وكيف أرسل ويصف القرآن بانه الحجة الباقية إلى يوم الدين ثم يتحدث عن تشريعات الإسلام وفي الأخير يتحدث عن واقع المسلمين وإلى ما صاروا اليه من ضعف وخلاف حيث يقول : يارب رحماك إن الغرب منتبه ,,,, والشرق مشتغل بالنوم والسأم ,,,, والعرب في غفلة عما يهددها لم تعتبر بليالى بؤسها الدهم ,,,, ياويحها تتعادى والعدوى على ,,,, أبوابها يرقب الأحداث عن كثم ,,,, والوقت والأحداث في عجل ,,,, تبني وتهدم والآفات كالديم إنى السعيد إذا ما أمتى سعدت ,,,, حالاً وفي ذلها ذلى ومهتضمى ,,,, إذا أملت ففي آمالها أملي ,,,, وإن ألمت فمن آلامها ألمى . في وصف السيارة يقول : فاجمع متاعك واركب سابحة ,,,, هول تسير بلا رحل ولا لجم ,,,, تجرى فتبصر بالأشياء مدبرة ,,,, كان منهزماً في إثر منهزم ,,, كانما امتلات بالغيظ فانطلقت ,,,, تنفساً عن شواظ منه محتدم . وبنظام البردة التى تمثل قمة النضوج الإحيائى عند الشاعر تنتهى مرحلة التقليد وتبدأ مرحلة مغايرة أو اتجاه متجدد يحاول الشاعر من خلالها أن يلحق بمدرسة التجديد أو الاتجاه الرومنسي في مصر الذى كان يتزعمة العقاد والمازنى وشكرى وأبو شادى لهذا أخذ شعره يتطور في اتجاهين موضوعاته ومعانيه / شكلة وأدواته التعبيرية. الشاعر يصور وحدته وآلالم الغربه : ولعل من صوره البديعة الطافحة بالأحاسيس والمشاعر الصادقة حين يصور وحدته وما يعانى من آلالم الوحدة والغربة وذلك بعد نزوله مصر بهذه القصيدة فيقول : في غرفة واجمة قفرة ,,,, ليست بها بارقة للمنى ,,,, هادئة لا عن طمانينة ,,, ساكنة مثل سكون الفنا ,,, النور في أرجائها حائرا ,,,, يصيح من يأس : أقبرى هنا ولا جواب غير همس يها ,,,, ويبك يا ابن الشمس أين السنا ,,,, لا ذنب للنور ولا غيره ,,,, في غرفة جالية من أنا . الرقصة المقدسة كانت لباكثير لمحات فنية تدل على إحساس بجواهر الأشياء لا بأشكالها حيث نلاحظ جمالاً في لغتة الشعرية ويظهر هذا لنا في هذه القصيدة التى يقول فيها : لست أدعوك إلى رقصتنا ,,,, ونحن لاندعو إليها الضعفاء ,,,, أنت لاتذكر من قصتنا ,,,, يوم كنا نملأ الدنيا ضياء ,,,, كيف أدعوك إلى رقصتنا ,,,, رقصة الأبطال للثأر المقدس ,,,, والذى يعنيك من قصتنا ,,,, هو أن نعلق بلوانا ونيأس . وحى سمراء ونجده هنا يصور لنا صورة جمالية آخرى فيقول : وفي ثغرك ياسمراء ,,,, أصناف الحلاوات ,,,, يعب القلب من سلسا ,,,, له بالوهم كاسات ,,,, كأحلام عذارى النيل ,,,, في روح العشيات . أن باكثير في أخريات حياته عاد إل الشعر وكان يجلس في شرفة منزلة المطلة على النيل بمنيل الروضة يكتب بعض القصائد الذاتية فيها لغة عذبة وفيها خيال وتخيل وأحلام غابرة ولكن بعض هذه القصائد لم تنشر ومنها هذه القصيدة فيقول : عشقت خيالك يا نادية ,,,, وهمت بصوتك ياشادية ,,,, هما كل ما ظفرت مهجتي به منك وهى به راضية ,,,, خيال من النور ألفته ,,,, سوى الشعر فهو من الداجية وفصلته قطعة قطعة ,,,, كما أشتهيه من الواعية ,,,, وصوت يحن فؤادى إليه ,,,, حنين المريض إلى العافية ,,,, إذا انساب في مسمعي رفرفت ,,,, لتندى به كبدى الصادية ,,,, ومأساة حبي أنا التقينا ,,,, على سفح من ربوة عالية ,,,, شبابك يدعوك نحو الصعود ,,,, وعمرى يمضي إلى الهاوية . وهنا يرسم لنا باكثير صورة بأحساسه نحو الأشياء والناس من حوله وهذه الصورة يتحدث فيها عن مرض فتاة صغيرة مسيحية كانت جارة له فيقول : بأبي ذاك الملاك الذى ,,,, أخبرنى عن حاله المخبر ,,,, لم تره عينى ولكنما ,,,, كان قلبي نحوه ينظر ,,,, أبصره مكتئباً واجماً ,,,, يقطر من عينيه ما يقطر ,,,, ينتشر الدمع على خده ,,,, كالطل فوق الورد إذ ينثر . ولقد كتب باكثير قصيدة يحيي بها ( مجلة النهضة الحضرمية ) وهو في عدن أثناء سفره إلأى الحجاز حيث نلاحظ أنها كانت تقليدية في بنائها الموضوعى وفي لغتها وأسلوبها مرتبطة بثقافتة التراثية وبتحصيلة العلمى والقصيدة تبلغ (48) بيتاً وقد بعث بها من عدن إلى صديقة ( طه السقاف) في عام 1932م عند إنشائه صحيفة النهضة الحضرمية في ( سنغافورة ) فهى فخمة الأسلوب قوية البناء تحتوى على عدة موضوعات ويقول فيها : هلت لليالى الماضيات معيد ,,,, وهل الزمان بمثلهن يجود ,,,, مازلت تبكى الشجو سالفة المنى ,,,, حتى بكى لبكائك الجلمود ,,,, ما أنت والذكرى الأيمة ؟ إنها ,,,, دمن الشقاء فما بهن ترود ,,,, أتريد بالذكرى رجوع عهودها ,,,,, كذبتك نفسك ما ظللت تريد . هذا باكثير ولازال الحديث متواصلاً عن حياة هذا الأديب والشاعر ولازالت هناك صفحات تنتظر ترتيبها للظهور للأعيان حتى نفتخر بأن باكثير ماهو إلى حضرمياً أبن حضرمياً وهنا اكتفى على أمل اللقاء في الجزء الثالث