رشاد العليمي حاقد و"كذّاب" تفوّق على من سبقه ومن سيلحقه    شعب الجنوب أستوعب صدمة الاحتلال اليمني وأستبقى جذوة الرفض    فلنذكر محاسن "حسين بدرالدين الحوثي" كذكرنا لمحاسن الزنداني    ليس وقف الهجمات الحوثية بالبحر.. أمريكا تعلنها صراحة: لا يمكن تحقيق السلام في اليمن إلا بشرط    شيخ بارز في قبضة الأمن بعد صراعات الأراضي في عدن!    الحوثيون يراهنون على الزمن: هل ينجحون في فرض حلولهم على اليمن؟ كاتب صحفي يجيب    أنباء غير مؤكدة عن اغتيال " حسن نصر الله"    الأمل يلوح في الأفق: روسيا تؤكد استمرار جهودها لدفع عملية السلام في اليمن    «كاك بنك» فرع شبوة يكرم شركتي العماري وابو سند وأولاده لشراكتهما المتميزة في صرف حوالات كاك حواله    "بعد وفاته... كاتبة صحفية تكشف تفاصيل تعرضها للأذى من قبل الشيخ الزنداني ومرافقيه!"    قيادة البعث القومي تعزي الإصلاح في رحيل الشيخ الزنداني وتشيد بأدواره المشهودة    دوري ابطال آسيا: العين الاماراتي الى نهائي البطولة    تشييع مهيب للشيخ الزنداني شارك فيه الرئيس أردوغان وقيادات في الإصلاح    «كاك بنك» يكرم شركة المفلحي للصرافة تقديراً لشراكتها المتميزة في صرف الحوالات الصادرة عبر منتج كاك حوالة    كلية القيادة والأركان بالعاصمة عدن تمنح العقيد أديب العلوي درجة الماجستير في العلوم العسكرية    نزوح اكثر من 50 الف اثيوبي بسبب المعارك في شمال البلاد    أعلامي سعودي شهير: رحل الزنداني وترك لنا فتاوى جاهلة واكتشافات علمية ساذجة    بن دغر يوجه رسالة لقادة حزب الإصلاح بعد وفاة الشيخ عبدالمجيد الزنداني    إعلان موعد نهائي كأس إنجلترا بين مانشستر يونايتد وسيتي    مفسر أحلام يتوقع نتيجة مباراة الهلال السعودي والعين الإماراتي ويوجه نصيحة لمرضى القلب والسكر    مركز الملك سلمان يدشن توزيع المساعدات الإيوائية للمتضررين من السيول في الجوف    كان يدرسهم قبل 40 سنة.. وفاء نادر من معلم مصري لطلابه اليمنيين حينما عرف أنهم يتواجدون في مصر (صور)    رئيس مجلس القيادة يجدد الالتزام بخيار السلام وفقا للمرجعيات وخصوصا القرار 2216    الاعاصير والفيضانات والحد من اضرارها!!    إنزاجي يتفوق على مورينيو.. وينهي لعنة "سيد البطولات القصيرة"    "ريال مدريد سرق الفوز من برشلونة".. بيكيه يهاجم حكام الكلاسيكو    صحة غزة: ارتفاع حصيلة الشهداء إلى 34 ألفا و183    لابورتا بعد بيان ناري: في هذه الحالة سنطلب إعادة الكلاسيكو    انقطاع الشريان الوحيد المؤدي إلى مدينة تعز بسبب السيول وتضرر عدد من السيارات (صور)    السعودية تضع اشتراطات صارمة للسماح بدخول الحجاج إلى أراضيها هذا العام    مكان وموعد تشييع جثمان الشيخ عبدالمجيد الزنداني    قيادي حوثي يقتحم قاعة الأختبارات بإحدى الكليات بجامعة ذمار ويطرد الطلاب    التضامن يقترب من حسم بطاقة الصعود الثانية بفوز كبير على سمعون    مؤسسة دغسان تحمل أربع جهات حكومية بينها الأمن والمخابرات مسؤلية إدخال المبيدات السامة (وثائق)    ميلشيا الحوثي تشن حملة اعتقالات غير معلنة بصنعاء ومصادر تكشف السبب الصادم!    برئاسة القاضية سوسن الحوثي .. محاكمة صورية بصنعاء لقضية المبيدات السامة المتورط فيها اكثر من 25 متهم    دعاء مستجاب لكل شيء    ديزل النجاة يُعيد عدن إلى الحياة    عودة الزحام لمنفذ الوديعة.. أزمة تتكرر مع كل موسم    رئيس مجلس النواب: الفقيد الزنداني شارك في العديد من المحطات السياسية منذ شبابه    من هو الشيخ عبدالمجيد الزنداني.. سيرة ذاتية    مستشار الرئيس الزبيدي: مصفاة نفط خاصة في شبوة مطلبا عادلًا وحقا مشروعا    ارتفاع الوفيات الناجمة عن السيول في حضرموت والمهرة    تراجع هجمات الحوثيين بالبحر الأحمر.. "كمل امكذب"!!    مع الوثائق عملا بحق الرد    لماذا يشجع معظم اليمنيين فريق (البرشا)؟    الزنداني يكذب على العالم باكتشاف علاج للإيدز ويرفض نشر معلوماته    الدعاء موقوف بين السماء والأرض حتى تفعل هذا الأمر    الحكومة تطالب بإدانة دولية لجريمة إغراق الحوثيين مناطق سيطرتهم بالمبيدات القاتلة    المواصفات والمقاييس تختتم برنامج التدريب على كفاءة الطاقة بالتعاون مع هيئة التقييس الخليجي    لحظة يازمن    بعد الهجمة الواسعة.. مسؤول سابق يعلق على عودة الفنان حسين محب إلى صنعاء    المساح واستيقاف الزمن    - عاجل فنان اليمن الكبير ايواب طارش يدخل غرفة العمليات اقرا السبب    وفاة الاديب والكاتب الصحفي محمد المساح    الممثل صلاح الوافي : أزمة اليمن أثرت إيجابًا على الدراما (حوار)    تصحيح التراث الشرعي (24).. ماذا فعلت المذاهب الفقهية وأتباعها؟    وزارة الأوقاف تعلن صدور أول تأشيرة لحجاج اليمن لموسم 1445ه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



نقش القصيدة الحميرية أو ترنيمة الشمس
نشر في الجمهورية يوم 16 - 06 - 2007


صورة من الأدب الديني في اليمن القديم
تمهيد:
هذه دراسة قصيرة ، ولكنها استغرقت من وقتي مدة طويلة فلقد بدأتها في عام 1977م وأنهيتها بعد عشر سنوات تقريباً ، وهذا لايعني أنني عكفت عليها هذه المدة كلها ، ولكني كنت أتعهدها بالرعاية بين الحين والآخر فهي من الدراسات التي يصعب القيام بها في فترة وجيزة وينبغي لمن يتناول مثل هذه الدراسة أن يتروى في أحكامه ، وأن لايعتمد أول مايخطر بباله من استنتاج ذلك لأن البداية فيها تكاد أن تكون من الصفر ، وأول الاشتغال بها ضرب في المجهول أو رجم بالغيب وقد لايصل المرء بعد ذلك العناء كله إلى نتيجة مرضية ، ومع ذلك قيل : ولكل مجتهد نصيب ، وللمجتهد إن اخطأ مع ذلك كله أجر حسن.
هذه دراسة لنص منقوش على صخرة ، عثرت عليه لأول مرة في إحدى رحلاتي الأثرية عام 1977م في وادي قانية بناحية السوادية ، ويشاء الله أن يكون هذا النص اكتشافاً عجيباً لم يعثر على شيء مثله ، وحتى الآن بعد عشر سنوات من اكتشافه ، في بلاد اليمن كله ، وقد تبينت هذه الحقيقة في اللحظة التي شاهدته فيها لأول مرة ،ذلك لأني لست غريباً على مجال النقوش اليمنية القديمة ، فقد درست هذا العلم في مظانة زمناً واشتغلت به ودرسته في الجامعة سنوات طويلة ومع ذلك فقد جابهني النص بمشكلتين كبيرتين : الأولى تتمثل في أن الجانب الأيمن من النقش كان مشوهاً ، ولايكاد المرء يتبين حروفه ، وقد اختلط حفر النقش على الصخر بالخدش المتعمد الذي لحقه بحيث لم ينتبق إلا الجانب الأيسر منه والذي تبدى لي وكان حروفه ممكنة القراءة ، وهكذا حكم على قارئ النص منذ البداية أن يقتصر على قراءة حروف النصف من كل سطر وأن يعمل بكل ما أوتي من علم ودرية على إعادة تركيب النصف الأول أن هو قدر على ذلك ولكن هيهات أن يتسنى له حتى مثل ذلك مادام النص يجابهه بمشكلة كبرى أخرى لاتقل عقدتها عن سابقتيها ، وهي أن لغة النص تكاد تكون لأول وهله غير مفهومة وربما غير معلومة ، إذ لايكفي القارئ المختص في المادة أن يكون النص أمامه مكتوباً بخط المسند فيقرأ أي نص من نصوص نقوش المسند ، فما بالك بنقش لم يعثر من قبل على ما يشابهه مبنى أو يشاكله معنى ولعل من يقرأ هذا التمهيد يقدر الوضع الردئ الذي كان فيه مكتشف النص.
حينئذ فيغفر له أحجامه عن نشر هذا النص في حينه ، ويرفق به أن هو تجرأ على نشر ما يتعذر نشره بيسر واطمئنان بعد أن تبدى له بصيص نور ، وفتح الله على المريد بعض مغاليق الحروف ، وكما قيل «من سار على الدرب وصل» أو قل «على المدى قد يقطع الحبل الحجر».
ومع ذلك فلعل الله يقبض للنص من يتجاسر عليه بعد نشره ويسهم في تكميل مانقص وبيان ماخفي منه واعراب ما أعجم من لغته ولكني اربأ به من أن يصنع مثلما صنع احدهم عندما عرضت عليه النص مستأنساً برأيه ، وهو الحاذق الأريب في مجاله ، فما كان منه إلا أن طلب مني أن امهله لحظات ما لبث بعدها إلا أن قدم لي تفسيراً جامعاً مانعاً لكل نص ، وكأنه يستغرب مني ادعاء صعوبته ، والقيت على مادونه نظرة فاحصة فإذا بي أمام نص جديد لاعلاقة له البتة بالنقش المذكور ، اللهم إلا أنه استغل حال غموض النص فاعمل خياله بعد أن «اصطاد» كلمة واضحة الرسم هنا وهناك ، واقحم فيها المعنى المقارب الذي «خمنه» فيها ، ثم استخرج من مكنون خياله سياقاً للمعنى من بين تلك الكلمات التي خيل أنه يفهمها ، وإذا به أمام نص عجيب ينبئ عن قدره صاحبه على الخيال والكتابة ولكن النص الجديد هذا ولا ريب غير ماهو منقوش على الصخر مبنى ومعنى ، وقد جربت أن اصنع مثلما صنع ونجحت ولا أخفي القارئ أنني جاريت صاحبي في جراته مراراً واستطعت في كل مرة أن أضع نصاً جديداً مختلفاً كل الاختلاف عن النص السابق ، بل إنني استطعت أن اضارعه في طريقة الكتابة وخصب الخيال فتخيلت ماشئت من حروف ومعان في النقش ثم دونتها بتنظيم في نص حسن الصياغة ومفيد الكلام ، حتى ظننت أنه لو علم ما في الأصل حقاً لقصر ذلك عن النص الموضوع براعة وفناً.
ولكن الحقيقة تظل هي الحقيقة فما الفه صاحبي وما تخيلته أنا هو في حقيقة الأمر غير ماهو منقوش على الصخر ، فما هو منقوش ، ينبغي أن يبرز نفسه من خلال ما يرى حقاً وما يدرس فعلاً ، قدر الإمكان وذلك أمر قد لايتحقق ابداً فيبقى النص حينئذ سراً مكنوناً.
واشهد الله انني لم اختر السهل وإلا لكنت نشرت النص قبل عشر سنوات بعد قراءته لأول مرة ، وأزعم أنني وفقت في فك بعض اسرار هذه النقش واعترف أنه قد غابت عني اسرار واسرار ويشفع لي في ذلك أن المهمة كانت بالغة الصعوبة ، أن ما من دارس إلا وله مقام معلوم ولايقدر على تجاوزه وكل ميسر لما خلق له ، كما أن النص بهذه الصورة التي اقدمها هو أيسر للقراء وادعى للمثابرة على مواصلة الجهد ، وأملي أن يصل إلى أيدي الباحثين والمهتمين نص مفيد ومثير كهذا ، مثير لهم في تصحيح الخطأ وتقويم المعوج ، ومفيد لهم في دراستهم الأثرية والأدبية واللغوية على مستوى اليمن القديم خاصة وجزيرة العرب وما جاورها بوجه عام.
قصة الاكتشاف
في الأول من اغسطس عام 1973م توجهت على رأس بعثة اثرية مشتركة من جامعة صنعاء والهيئة العامة للآثار إلى لواء البيضاء لمسح المواقع الأثرية في ناحية السوادية عن طريق صنعاء ذمار رداع وكان أعضاء الفريق الأثري هم السيدة سلمى الراضي ، الدكتور حالياً تخصص اثار والأخ عبدالرحيم غالب مدير الآثار سابقاً وعبده عثمان غالب خريج آثار «يحضر حالياً للدكتوراه في الآثار» في سنته الأخيرة بالولايات المتحدة الامريكية وأحمد خميس سائق السيارة ، وقد استغرقت الرحلة من صنعاء إلى عزلة قانية في ناحية السوادية حوالي عشر ساعات بالسيارة إذ لم يكن طريق رداع البيضاء قد شق ورصف حينئذ علماً بأن المسافة لاتزيد عن 250 كيلو متراً.
كان هدف الرحلة بالدرجة الأولى هو وادي قانية ، وكنت قد جمعت عن المنطقة نبذاً من المعلومات والأخبار وقرأت ما كتب عنها وخاصة إشارات الحسن بن أحمد الهمداني في كتابه «صفة جزيرة العرب» وكانت اخبار المنطقة الأثرية قد استهوتني منذ أن زرت منطقة المعسال قرب السوادية عام 1973م إبان كنت اجمع مادة اثرية ونقشية في رسالة الدكتوراه في جامعة توبنجن بالمانيا الاتحادية واعتماداً على تلك المعلومات وعلى ما اخبرنا به من التقينا بهم في الطريق يممنا شطر الهدف لا نلوي على شيء حتى حلول الظلام بلغنا حينها وادياً رحباً لانكاد نتبين ارجاءه لانسدل رداء العتمة وعندما سألنا بعض من آثاره صوت سيارتنا فخرج للقائنا عن اسم الوادي قال لنا أنه وادي قانية.
على إننا لم نتمكن من دخول قرية الجدمة ، إحدى قرى الوادي في صبيحة اليوم التالي بعد أن استرحنا بضع ساعات من عناء الرحلة وعنت الموقف ،وكنا أول اثريين يصلون إلى المنطقة ومبلغ العلم أنه لم يصل هذه المنطقة قبل ذلك أي رحالة أو عالم آثار اجنبي أو عربي سواء في القرن الماضي أو هذا القرن.
إن أهم موقع أثري في وادي قانية هو هجر قانية وهو موقع قديم يقوم على تلة من الحجر الكلسي يرتفع حوالي 150 متراً عن بطن الوادي ويبعد عن قرية قانية والجذمة واثار العمور في الموقع بادية يتصدرها أكبر مبنى فيه ، وهو قصر «شبعان» الذي بناه «نبط عم زادن» من آل معاهر ، اقيال اتحاد قبائل ردمان وذي خولان ، وقد عثر على نقش بين ركان القصر يسجل اسم هذا القيل بوضوح .
ويذكر نقش آخر عثر عليه في الموقع نفسه أن هذا القصر أعيد بناؤه بعد هدمه ، وكان الذي اعاده هو القيل ناصر يهحمد من العائلة نفسها ، والذي عاش في عهد ملك حضرموت المعروف «العز يلط بن عم ذخر» وذلك في حوالي الربع الأول من القرن الميلادي.
وفي اسفل التل من الناحية الغربية تقع المقبرة القديمة ، وكانت لدى زيارتنا اياها آنذاك في حالة حسنة وقد روى لنا بعض الأهالي أنه عثر على بقايا عظام ووعاء من المرمر عندما كان يحرث احدهم أرضه بجانب المقبرة وعلى باب أحد المنازل في قرية قانية شاهدنا نقشاً قصيراً كتب عليه بوضوح الأسم «هجر قانئة» بالهمزة ، وليس بالتخفيف كما ينطق حالياً كما يشاهد المرء عدداً من الآبار القديمة «الحميرية» لايزال بعضها يستعمل إلى اليوم وكذلك اثار من سد قديم.
ويطل على وادي قانية من ناحية الجنوب جبل عال يسمى محجان تؤدي مياه مساقطه إلى الوادي ، وفي سفح هذا الجبل وعلى مقربة من «قرية الجذمة» شمالاً وقرية الاعبلي وهجر قانية غرباً تقع «ضاحة الجذمة» ،«والضاحة بلهجة أهل اليمن منحدر حلوق صعب المرتقى» حيث يشاهد المرء صخرتين عاتيتين نقش عليهما كتابات ومخربشات بخط المسند ورسوم حيوانية وآدمية كصورة الوعل وصورة شخص يحمل رمحاً ، على أن مايلفت النظر حقاً من بين تلك الكتابات هو ذلك النقش الكبير المحفور بعناية على الصخرة الجنوبية ، وهو نقش يتألف من 27 سطراً وفي خاتمة كل سطر حرفان مكرران هما الحاء والكاف ، ومما يدعو للأسف أن الجانب الأيمن من النص قد اتلف واصيب بالتشوه ، ويكاد أن يشمل التشويه نصف النقش ويغلب ظني أن التشويه كان بفعل فاعل وليس بسبب عوامل طبيعية.
وقد كان ذلك النقش بالنسبة لي كشفاً مثيراً منذ اللحظة الأولى واحس صاحبي بالسرور البالغ الذي ارتسم على وجهي ذلك اليوم فمبلغ العلم أنه ليس في مادة النقوش اليمنية القديمة على كثرتها ، ما يشبه ذلك النقش الذي يترامى للناظر إليه لأول وهلة برسمة الصارم والدقيق على تلك الصخرة العاتية ، وكأنه نص لوح ديني جليل أو كأنه إحدى القصائد الغراء التي يروي أنها كانت في الجاهلية تعلق على جدران الكعبة ، وخطر لي حينذاك أن اطلق على النقش اسم «نقش القصيدة الحميرية» وقلت لعلها تسمية توحي بالتفاؤل ، وأن النص قد يكون فعلاً شيئاً من هذا القبيل ، على أنني في قرارة نفسي كنت أعلم أن ذلك محض ادعاء سابق لأوانه وأن الأمر لايعدو أن يكون مجرد تسمية ليس إلا.
ونقلت ذلك النقش إلى مفكرتي بصعوبة هائلة لكثرة ما اصابه من خدش وتشويه وكررت نقله في أوقات مختلفة وأخذت له صوراً فوتوغرافية وبعد أن عدت من الرحلة التي استغرقت اسبوعاً «جمعت خلالها مع صحبي حصيلة جيدة من المعلومات الأثرية والنقشية» عكفت على قراءة تلك الأسطر المرسومة على صخرة ضاحة الجذمة ودرستها بعناية واهتمام.
وتبين لي أنه من الصعب التأكد من بقايا الحروف المخدوشة وفي كثيرة كما أن الواضح منها لاينبئ وحده بالمفيد ، فعلى رغم أن النص منقوش بخط المسند كغيره من الآف النقوش التي عثرنا عليها في المنطقة نفسها إلا أن معظم مفرداته بل وتراكيبه غير معهودة لدى دراسي النقوش اليمنية القديمة ، واسترعى انتباهي أن بعض نقوش المنطقة تلك تشبه في رسمها وطريقة كتابتها رسم هذا النقش الفريد وطريقة كتابته وأن قراءة تلك النقوش ومعرفة محتواها كان ممكناً في الغالب أما ما قد يلاقيه المرء من صعوبات في قراءتها فهي في مجملها لاتختلف عن تلك التي يصادفها المرء عند قراءة أي نقش يمني قديم وهي مصاعب معلومة تتعلق بحالة النقش وغرابة بعض المفردات والتراكيب والأسماء.. أجل لقد صح حدسي منذ البداية وهو أنني لأول مرة أمام نص مكتوب بلغة غير لغة النقوش الرسمية والمعهودة لدى الدارسين.
وانتهزت فرصة سفري إلى خارج الوطن وعرضت الأمر على بعض الأصدقاء المختصين من علماء لغة اليمن القديم اذكر منهم الدكتور «والتر موللر» استاذ النقوش اليمنية بجامعة «ماربورج» بالمانيا الاتحادية والاستاذ الفردبيستن استاذ النقوش اليمنية القديمة بجامعة اكسفورد وأخي العلامة الأستاذ مطهر الارياني واستاذي الدكتور محمود الغول رحمه الله وفي فترة لاحقة تداولت الامر طويلاً مع زميلي الدكتور كريستيان روبان استاذ النقوش اليمنية القديمة وحالياً بجامعة اكس آن بروفنس في فرنسا ، وقد شاركني أولئك العلماء الأجلاء ذلك الهم الذي احمله وابدوا ملحوظات قيمة ولكن ذلك كله لم يسعفني في حقيقة الأمر بما قد يقدمني خطوة اساسية واحدة في سبيل حل لغز تلك الكتابة العجيبة ، ومرد ذلك معروف : تلف صدر كل سطر وغرابة معظم مفردات عجزه وتراكيبه .
وعدت انقب من جديد وقرأت بين الحين والآخر كلما تيسرت لي مادة جديدة تتعلق بالنصوص القديمة في لغات الجزيرة ونقوشها ، ورجعت إلى الموقع نفسه مرة أخرى ونقلت النص وصورته من جديد في فبراير 1978م «في فترة لاحقة تكرم الدكتور كريستيان روبان وبعث إليّ صورة جديدة مكررة» وجمعت طرفاً من لهجات تلك المنطقة وبعض المناطق الأخرى في اليمن في إطار قائمة المفردات والتراكيب التي استخرجتها من النص ، فكان أن اهتديت إلى أن تلك الكتابة ربما كانت نوعاً من الأدعية الدينية كدعاء الاستسقاء ، وهو افتراض كانت قد تؤدي إليه بعض الشواهد ، ولكنها لم تكن تقطع بالحجة.
ولما تسلمت العدد الأول من مجلة ريدان في عام 1978م قرأت فيما قرأت فيه إعادة نشر بعض نقوش الأستاذ زيد عنان التي كانت قد نشرها ضمن كتابه «تاريخ حضارة اليمن القديم» والذي صدر في عام 1976م وقد شد اهتمامي في تلك النقوش النقش رقم «1» المنشور في مجلة ريدان وكان زيد عنان قد شرحه في كتابه بايجاز شديد وذكر «أن في النقش كلمات غير معروفة وهو يحتاج إلى دراسة أكثر فلعل هناك عبارات سامية قديمة» وقد حاول الاستاذان «بافقيه وروبان» في المجلة إعادة ترتيب النقش ترتيباً جديداً يخالف ما جاء في نسخة زيد عنان التي كتبها بخط يده ، إذ ليس للأصل صورة كما أن الأصل مفقود إلى الآن ويقول بافقيه وروبان في مستهل دراستهما للنص أ هذا النقش ممتع رغم ما يحيط به من مصاعب يكاد يستحيل التغلب عليها في غياب صورة له كما هي الحال في نقوش عنان كلها ويزيد الأمر تعقيداً أن ناقله لم يكن حريصاً على التقيد بتوزيع الأسطر في حالتها الأصلية ، في الغالبية العظمى ، فيما نقل من نصوص كما يعترف صراحة في كتابة... «غير أننا نود أن نقترح تقسيماً محتملاً لمقاطع النقش وفقاً لأواخر بعض الكلمات التي ربما كانت الروي الذي تقوم على أساسه الأنشودة أو القصيدة الدينية ويبدو أن الروي لم يكن واحداً من أول القصيدة «إذا كانت قصيدة» إلى آخرها ، وإنما يتغير عدة مرات ، ومع صعوبة الجزم بطريقة النطق لبعض الألفاظ التي لم نتوصل إلى معرفة معانيها فإن بعض المقاطع توحي بأنها من بحر الرجز ..».
أجل يصادف المرء كلاماً جديداً في نقش زيد عنان هذا لم يعهد من قبل في النقوش اليمنية القديمة بل أنه يتعذر على القارئ إدراك المعنى بيسر أن هو وفق في آخر الأمر إلى ذلك أن كتابة النقوش تهمل اصوات اللين وعلامات الاعراب والوصل والمد والتشديد ، ونحن نجهل حقاً كيف كان يتكلم بلغة النقوش قديماً وإنما نجتهد في ذلك مقارنة باللغة العربية المحضة أو بما قاربها من اللغات ، أن قراءة النص هذا تعترضه في الواقع مصاعب كبيرة حتى وأن ظهر في مبناه مايشبه الشعر الموزون المقفي كما أن وجود «الفاصل» بين الكلمات في النقش محله يثير الشك في صحة الشكل الشعري ، ولاندري أن كانت الفواصل قد اهملت في الأصل في نهاية كل سطر أم لا ، والعادة أن تكون مهملة ونحن مقيدون على كل حال بنص زيد عنان كما هو الذي أهمل في رسمه التقيد بحدود السطر الأصلية كما سلف الذكر.
وأورد هنا نص نقش عنان كما نشره «بافقيه وروبان» ووفق ترتيبهما :
«مدخل» يشتمل على عبارة «الاقناء» التقليدية إذا جاز لنا أن نقول ذلك أو الاهداء أو التقدمة ، والثاني «الانشودة» نفسها .
مدخل:
ربعم ه..... ين حور هجرن مرب هقنيوالمقه ثهون بعل أوم ثورنهن وايلن ذهبم.
1 وسم متن : ( الاصح بالسين الثانية)
2 بكهل ذلب صلل
3 وس كوم هلك عضل
4 ولمحرمن داكمثل
5 ذا قرم لكسعل «لك سعل؟»
6 بكهل كبهي ال ( في الأصل : كبهوي»
7 ذذبرك لجبا شرقلك و...
8 يدك ضرك تعرب.. كهل
9 كبلوثون كهل
10 وكل اضررن حسل ( في بالحاء المهملة)
11 همسك مرأن بلل
12 كل ذعلي وس «ف» ل
13 كهل بخت ذوهن ذرح ( في الأصل بالسين المهملة)
14 هردأ ذو ملوب رزح
15 المقة ذبسكر ارمح
16 تح «ت» ك اخمس رضح
17 بكهل كممو ( في الأصل : مكهل / عمو)
18 وملكك تريم (في الأصل : ترعم)
19 خمسك لبأ لنعم
20 وهن أضرر تحتك هلل ( في الأصل هللم)
21 ايم ثون قدم
22 بكل... يقع ذباوايك
يقول بافقيه وروربان في شرحهما للنص السابق : يصعب التعرض لكل العبارات والمقاطع ولهذا فإننا سنكتفي بمعالجة البعض منها ، حيث نرى مجالاً لابداء الرأي مستخدمين الأرقام التي اعطيناها لكل فقرة منها :
10 وكل الأعداء «اعدائنا» أذل وأرعب.
21 قوتك أيها المولى «مولانا» تنال.
11 وكل الذي «من» علا وسفل.
13 أعن من «؟» من العطش هزل.
14 المقة ذ بسكر «؟» ادفع
15 تحتك جيوش تتكسر «تخضع»
ويقف الشرح عند هذا الحد ، واحسب أن هذه محاولة جزئية ناقصة لتفسير نص مهم ولقد بذل الشارحان جهداً كبيراً في إعادة ترتيب النص وتفسير مفرداته ، ولكن يبدو أن تفسير نص كهذا بلغته هذه التي تغاير اللغة «الرسمية» المعهودة في النقوش أمر غير يسير ، في هذه المرحلة من تاريخ علم النقوش اليمنية القديمة ، إذ أننا بحاجة إلى عدد كاف من النصوص الموثقة بصورها الفوتوغرافية وسليمة في مجملها دون تشويه وانطماس ، بحيث نتمكن من القيام بدراسة أصيلة يبنى عليها حكم مفيد ، يسهم في تمهيد الطريق أمام مجال أدب اليمن القديم الذي مازلنا نأمل أن يبرز يوماً ، من خلال النقوش التي تعتبر مصدراً رئيسياً لتلك الفترة وكان مما لفت نظري في النص المذكور الفقرات 11 12 13 14 ، وقد حاولت أن أعيد قراءتها وتفسيرها ونقلها إلى العربية المحضة فكان مايلي :
امسك يا مولانا الندى
في السماء والأرض
فيا كهل خلص من أعياه المرض «اجهده»
وأعن من اصابه الظما
وينبغي حينئذ أن تفسر الفقرات تفسيراً قد لايتفق مع ما اورده بافقيه وروبان إلا في بعضه ففي الفقرة الأولى :«همسك» الهاء حرف تعديه في اللهجة السبئية وامسك بمعنى حبس ، وقد ادغم الكاف ضمير الرفع في اللغة اليمنية القديمة وهو بدل من التاء في العربية وبالتالي ينبغي أن يقرأ الفعل الماضي بتشديد الكاف همسك وسنتناول هذا الكاف مرة أخرى في تفسيرنا لنص «ضاحة الجذمة» مرأن تعني سيدنا أو مولانا وفي لغة النقوش مراهمو تعني سيدهم وهي كثيرة والنون هي الضمير المصتل «نا» وياء النداء تحذف في العادة ، بلل : والبلل هو الندى ، والبلال كاليلة هو الماء ، وبالبلة تعني ايضاً الخير والرزق البل يعني ايضاً الشفاء أو المباح وفي «اللسان» ايضاً : البل هو المباح يمانية حميرية «راجع اللسان مادة بلل».
وفي الفقرة الثانية السافل هو نقيض العالي : وارجح مع «بافقيه وروبان» أن الخطأ كان في النقل فهي سفل وليس سقل ، وقد استعملت لفظي السماء والأرض بدلاً من الذي علا والذي سفل للافادة فقط.
وفي الفقرة الثالثة ، كهل اسم اله عندهم كما ذكر ذلك ايضاً «روبان وبافقيه» «راجع مجلة ريدان ، عدد ص 20» «راجع نقوش قرية الفاو» واللفظ «بحت» وهو في الأصل بالحاء المهملة ويمكن أن يقرأ على عدد أوجه وقد رجحت أن يقرأ «بحت» بمعنى خلص على صيغة الأمر ، وفي اللغة بحت الشيء بالضم أي صار بحتاً والبحت هو الخالص من كل شيء وباحته الود أي خالصه «أنظر مادة بحت في اللسان» ويجوز أن تشتق صيغة فعل بتشديد العين أي بحت بمعنى خلص ، وفي اللغة اخلصه وخلصه أي أمحضه والبحت هو المحض وخلص وامحض أي نجا وسلم «راجع اللسان مادة خلص ومادة بحت» والتخليص هو التنحية من كل منشب ذوهن : الذال هي ذو بمعنى الذي في اليمنية القديمة ، والوهن هو الضعف في العمل والأمر وكذلك في العظم ونموه ويقال رجل واهن في الأمر والعمل أي موهون في العظم والبدن «اللسان مادة وهن» ذرح : الشيء في الريح ذراه وطعام مذرح أي مسموم «اللسان مادة ذرح» فمثلاً يقال حديثاً اصاب «فيروس» كذا فلانا أي اصابه المرض والفيروس في معناه اللغوي هو السم.
وفي الفقرة الثالثة : اكرر تفسير «بافقيه وروبان» واضيف أن ملوب مثل «موهون» واهن واصلها من اللوب وهو العطش واسم الفاعل هو لائب واسم المفعول هو «ملوب» في الأصل ولهذا اثبت الواوين وفق طريق الرسم في اللغة اليمنية القديمة والفقرتان 13 14 استغاثة للاله كهل من جهد البلاء وشدة الظمأ ، وفي التنزيل : «لايصيبهم ظمأ ولا نصب».
واحسب أن هذه القراءة : ربما كان فيها مفتاح موضوع النص كله ، أجل قد يكون النص انشودة دينية على طريقة اناشيد بابل الدينية وترانيمها إلى الآلهة ، مثل تلك الأناشيد التي جمعها الأستاذ «زمرن» ونشرها في «ليبزج» بين عامي 1905 و1911م بعنوان «أناشيد بابل الدينية وادعيتها» أو كتلك الأناشيد التي نشرها «لامبرت» في اكسفورد عام 1965م ضمن كتاب سماه ادب الحكمة البابلي وهي ادعية وصلوات واناشيد تتعلق باحوال القوم ونشاطهم الخاص والعام ، وفق تقليد متوارث ومتراكم مما يجعله اقرب إلى «الأدب الشعبي» إذ أن نسبته إلى شخص معين أو زمان محدد أمر صعب ، ومثال ذلك ترنيمة الشمس أو النشيد الموجه إلى الآلهة الشمس هي من ذخائر الادب البابلي من حيث الشكل والمضمون ، ويشبه ذلك ايضاً تلك الأناشيد المصرية القديمة مثل نشيد اخناتون ونشيد راع.
القصيدة الحميرية:
وبدأ لي أنه ربما كان موضوع الترتيله اليمنية القديمة التي يتضمنها نقش «ضاحة الجذمة» في وادي قانية هو الموضوع نفسه الذي يحتويه نقش عنان ، أي دعاء استسقاء كما سبق أن المحت إليه ففي نقش زيد عنان يتوجه اصحاب النقش بالدعاء إلى الإله كهل طلباً للماء بعد اشتداد ازمة القحط ، حيث شحت الامطار وجفت الآبار والوديان ولسان حالهم الغيث يارب ! لقد حبست عنا القطر وشحت الأرض وبلغ بالناس والحيوان مبلغاً عظيماً فامنن بفك الأزمة وخلاص القوم.
إن نصاً هذا معناه ينبغي أن يمثل نمطاً من «الأدب الديني» الذي يتوقع ابداعه في بلد كاليمن ، يعتمد اعتماداً كبيراً على الأمطار الموسمية وإذا ما تلكا تنزل الغيث عن موسمه زمناً يلجأ الناس إلى الاستسقاء ، وقد يستقون بامور كثير ، وهي سنة حسنة وعادة معلومة بين الناس وربما كانت قديمة قدم الإنسان نفسه في أرضه ، وصلاة الاستسقاء مندوبة في الإسلام ودعاء الاستسقاء متواتر ومعروفة.
وفي بعض القرى اليمنية يشمل شعائر الاستسقاء بقايا عادات متوارثة كتقديم الاضاحي في بعض الجبال ، حيث مساقط المطر أو الأماكن التي تشتد فيها الأمطار عادة وتكثر السيول زمنها أن يكتبوا سورة من القرآن مثل سورة «الواقعة» على ثمرة اليقطين الجافة ثم يعلقونها في مكان عال حتى يتنزل الغيث.
وإذا كان بالامكان أن يكون مضمون هذا النص اليمني القديم هو دعاء استسقاء فما بال شكله ؟ وأي نوع من أنواع الكتابة والانشاء ؟ أو قل هل يندرج النص ضمن أي نوع من أنواع الأدب نثراً كان أم شعراً ؟.
إن أبرز ما في هذا النقش هو خاتمة كل سطر فيه ، حيث يتكرر حرفان هما الحاء والكاف في كل سطر ، وان عدد حروف كل سطر تتراوح بين ثلاثة عشر حرفاً وسبعة عشر عرفاً والغالب هو ستة عشر ، ورغم أن انعدام أصوات اللين والحركات (يقتل) أية محاولة مثمرة لدراسة التفاعيل إن وجدت، إلا أن لزوم الحاء والكاف في آخر كل سطر سبعاً وعشرين مرة متتالية : يغري باعتبار ذلك قافية ممكنة.
وتبين لي أن الكلمة الأخيرة : في كل سطر ينبغي أن تكون فعلاً ، وأن الكاف جيتئذ لابد وأن تكون صميراً متصلاً ، ونحن نعلم أن الكاف ضمير متصل في اللغة الحبشية واللغة الاكدية ، وأنه الأصل في ضمير الرفع في اللغات القديمة (السامية) ويقابل ذلك التاء في العربية كقولك قمتُ (للمتكلم) وقمتَ (للمخاطب) . وكان ضمير الرفع هذا غير معروف لدى دارسي النقوش اليمنية القديمة حتى عهد قريب . وإن كنا تعرفه متواتراً في بعض لهجات اليمن اليوم (أنظر) أطلس اللهجات اليمنية، بيتربينشتدت) فيسبادن 1985م ص 116) وستجدون في هذا الأطلس انتشار الكاف بدلاً من التاء في مناطق كثيرة من اليمن تمتد ما بين جبل صبر جنوباً وباقم شمالاً مروراً بالعدين وريمة وبعض شهارة وحيدان وغريهما.
وحاولت أن أطبق على النص أوزان العرب وقارنته بالأشعار الشعبية اليمنية وأشعار لهجات المهرة وسقطرة وبعض المنظومات من البلاد الافريقية المجاورة فبدا لي أن هذا الضرب من الكلام ربما كان قائماً على نقش شعري قديم يعتمد على استغلال النبرة كعنصر موحد وينتظم كل سطر عدد معين من النبرات وتكون القافية آخر موضوع للنبر فيه.
وهذا يخالف الفن الشعري العربي الذي يعتمد أوزاناً كمية يحكمها عدد المقاطع كتولل في بحر الطويل : فعولن مفاعيل فعولن مفاعلن .د/راجع بهذا الخصوص مقالة كارل بيتراتشك في المؤتمر الثالث للدراسات الاثيوبية الجزء الثاني أديس أبابا 1966 الأنساق الشعرية في اليمن وأهميتها في دراسة الأنساق الحبشية ص 259 وما بعدها صدر عن جامعة هيلا سلاسي (1970) (بالألمانية).
ولكن ليس لدينا من دليل يهدينا إلى موضع النبر في لغتنا العربية كما كان ينطق بها في العصور الإسلامية الأولى إذ لم يتعرض له أحد من المؤلفين القدماء .. ومواضع النبر في اللهجات قديمة أو حديثة قد تحكمها عوامل مختلفة مما يجعل الحديث عن الكيفية التي كان أهل اليمن القدماء في أرض مراد مثلاً ينطقون مثلاً هذا الضرب من الكلام، أمراً متعذراً على أن ذلك لا يكون في الغالب حكماً نهائياً وإنما يمكن لمحاولات عدة إعادة بناء ما يمكن أن يشبه ذلك النسق الشعري.
وبعد هل تحن أمام نص يقوم معناه ومبناه على أسس فنية معلومة كأي نوع من أنواع الأدب الجميل كالشعر والنثر ؟ هل نحن أمام أنشودة دينية ذات نسق نغمي معين ينتهي بالقافية ؟ وهل نحن أمام سجع يمني قديم على طريقة سجه الكهان في الجاهلية ؟ هل نحن أمام نوع أدبي قديم يسبق الشعر العربي الذي عهدناه ف يالجاهلية ويمهد له ؟ هل نحن أمام أول نموذج للنظم في اليمن القديم ؟
وهل نحن أمام بداية الشعر العربي كافة ؟ فمبلغ العلم اسنتاداً إلى الدليل الخطي أن هذا النص يعود في أقل تقدير إلى الثلاثة القرون الأولى بعد الميلاد ، فهو يقع على مقربة من قصر كبير من أهم قصورآل معاهر، اقيال اتحاد قبائل ردمان وذي خولات ، وهو مقر هجر قانية ولا تبعد هجر قانية عن هجر وعلان (المعسال حديثا) حاضرة آل معاهر وفيها مقر شحرار الذي نقش على صخوره عدد وافر من النقوش اليمنية القديمة وبعض هذه النقوش الهامة مؤرخة ، ويعود تاريخها إلى القرنين الثاني والثالث بعد الميلاد . وتدل آثار تلك المنطقة من خرائب ولُقى أثرية ونقوش ، على حضارة وديان راقية لا تقل مستوى عن حضارات وديان مشرق اليمن الأخرى . وكان أهم له يعبد في هذه المنطقة هو اله الشمس بخلاف كثير من مناطق اليمن حينذاك وللشمس معبد كبير في جبل سحرار المذكور وكانوا يلقبونها عالية وهو لقب معروف عند غيرهم أيضاً .. ولها معبد آخر عثرت عليها في سوق الليل شرقي قرية الخرابة الواقعة بين الاغوال وردمان ، وهو معبد مستطيل حوالي (25*30) مترا ومازالت صفوف من حجارته المهندمة باقية .. وشاهدنا بعض المواطنين يقومون بتكسير تلك الأحجار وبتهديم آثار ذلك المعبد القصي والذي بتي بناءً بديعاً كما تبئ عنه أثاره.
على أن ما يمكن الإشارة إليه هو أن هذا النمط من النصوص مألوف في الشرق القديم عموماً ، إلا أنه نص جديد ومثير بالنسبة لليمن القديم ويعكس شيئاً من ثقافة عرب اليمن قديماً .. كما أنه يخرج عن إطار ما نألفه في أشكال الاف النقوش اليمنية ومضامينها ، والتي وصلتنا إلى اليوم .. وربما كان (نقش عنان) السابق ذكره هو أقرب نصوص النقوش اليمنية القديمة إليه .. فهو مثله يعتمد القافية ويتضمن نشيداً يتقرب به إلى اله .. والإله هنا هي الشمس وهي آلهة المطر عندهم كما تبين نقوش أخرى ، فالنص لا يخلو بالفعل من موضوع الابتهال والاستسقاء وكأنه (انشودة المطر) حقاً.
وفيما يلي نقل لمبنى النقش ومحاولة لنقل المعنى ، ويتبع ذلك شرح مفصل للمفردات .. ثم اختم القول بتحليل ومناقشة لأهم القضايا الفنية والموضوعية في هذا النقش النادر والمثير في تاريخ علم النقوش اليمنية القديمة (في دراسة لاحقه).
نقل المبنى :
نشترن / خير/ كمهند/ هقحك
بصيد/حنون/ مأت/ نسحك
وقرنو /شعب/ دقسد/ قسمك
ولب/ علهن/ ديحر/ فقحك
وعليت /أأدب/ صلع/ فذحك
وعين / مشقر /هنبحر/ وصخك
ومن / ضرم/ وتدأ/ هسلحك
ومهسع / يخن/ احجي/ كشخك
ونوي/ تفض/ طكن/ ربحك
وصرف/ ألغد / دأم / دوضخك
وجهنللت /هنصنق / فتحك
وذي / تصخب/ هعسمك/ برحك
وين /مزر/ كن/ كشقحك
ورسل / لثم / ورم /فسحك
وسن / صحح / دأم / هصححك
وكل / يرس / عرب / فشحك
وكل / أخوت / ذقسد / هبصحك
ولليت / شظم /دأم / تصبحك
وكل /عدو / عبرن / نوحك
وكل / هنحظي/ أملك / ربحك
وأك / ذتعكد / أزأ/ كفقحك
ومن / شعيب/ عرأن/ هلجحك
وجب / يذكر / كلن/ ميحك
حمدن / خير / عسيك / توحك
هنشمك / هندأم / وأك / صلحك
هردأكن / شمس / وأك / تنضحك
تبهل / عد / أيسي/ مشحك
نقل المعنى :
نستجير بك يا خير فكل ما يحدث هو مما صنعت
بموسم صيد خنوان مائة أضحية سَفَحْتِ
ورأس قبيلة «ذي قسد» رفعت
وصدر علهان ذي يحير شرحت
والفقراء في المآدب خبزاً أطعمت
والعين من أعلى الوادي أجريت
وف يالحرب والشدة قوّيت
ومن يحكم بالباطل محقت
وغدير «تفيض» لما نقص زيدت
وليان «العز» دائملً ما بيضت
وسخر اللات إن اشتد ظلامه بلجت
ومن يجأر ذاكراً نعمك رزقت
والكرم صار خمراً لما أن سطعت
وللإبل المراعي الوافرة وسعت
والشرع القويم صحيحاً أبقيت
وكل من يحفظ العهد أسعدت
وكل أحلاف ذي قسد أبرمت
والليالي الغدر بالاصباح جليت
وكل من اعتدى علينا أعلكت
وكل من يطلب الحظ مالاً كسبت
ورضي من تعثر حظه بما قسمت
وفي (الشعيب) الخصب أزحيت
وبئر «يذكر» حتى الجمام ملأت
الحمد يا خير على نعمائك التي قدّرت
وعدكِ الذي وعدتِبه أصلحت
أعنتنا يا شمس إن أنت أمطرت
نتضرع إليك فحتى بالناس ضخيت
(مجلة ريدان يتصرف ، العدد 1988).


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.