- عندما أموت سأتذكر جيداً كم كنت تحبينني بجنون- آخر ورقة تشبثت على غصن ذاكرتها المتناثرة هلعاً ولم تكد تنتهي من إطعام طفلها الوحيد ذي الستة أشهر. يدها اليسرى ملتوية بحنان مشدوده حول ظهره وأصابعها مازالت تعبث بأصابع رجليه، والأخرى مسمرة على مقربة من فمه الممطر لعاباً ولثغاً مالحاً، بينما عيناها الآخذتان بالتحول إلى اللون الرمادي ترصدان ما تبقى من صوت أبيها المتطاير مع دخان كلماته المرتعشة: هذا قضاء الله وقدره يا ابنتي، كلنا لها ولا يدوم إلا وجه الله. وانفلت بعجيزته على التكية الممزقة الجوانب عند باب الغرفة، يفرك عينيه ويحدق. يكرر الفرك والتحديق رافعاً شعر حاجبيه الموشى بخطوط الشيب ليحول دون التصاقه بأهدابه التي فتلتها دموع الأسى والدهشة، يحدق بكامل رأسه حتى يكاد ينفصل؛ هناك ما يشبه ابتسامة تطل برأسها بين شفتي امرأة لم تغب شمسٌ على وفاة زوجها!! إنها تبتسم حقاً!!! دون أن يبدو على شفتيها هستيريا الصدمة، إنها تبتسم حقاً!!!! دون أن تكترث لتفاصيل موته. كما لو أنه لم يكن يهمها سوى ما علق في ذاكرتها من رائحة السجائر ونكهة الكحول المنبعثة من حروفه المترنحة في أغلب لياليه الأخيرة: لا أظن أن في الحياة متسع لتقدير حب الآخرين لنا، لذلك عندما أموت، سأتذكر جيداً كم كنت تحبينني بجنون. أخذت تقرأ في أوراق الذاكرة المثبتة في الفراغ المقابل لذهولها، لعلها لم تكن تتوقع أن يأتيها خبر موته بعد يومين فقط من مغادرته البيت. توسلت إليه أن يقضي العطلة معها، لكنه امتطى عناده كالعادة، وراح يحزم الموت بين أغراض السباحة في حقيبته الزرقاء الملطخة بشعار باهت لشركة محلية. مضى دون أن يودعها فاختنقت لوعة الوداع والشوق على شفتيها الملتهبتين الآن بابتسامة الموت. يا لسعادة أرملة تقضي بقية حياتها على وحي عبق الحب المنبعث من زهرة نبتت إلى جوار شاهد قبر زوجها، الحب هو المكون الوحيد لذاكرة تحيا بعد الموت. ولكن من أين لصفية قبر ينمو إلى جوار شاهده عبق تقتاته نبضات قلبها، هل يستطيع البحر أن ينبت أزهاراً؟ لماذا لايفعل ...؟ إلاَّ عندما يأمره الشعراء؟ لا بد أنها تساءلت أكثر من هذا وهي تحوّل عينيها المتناثرتين رماداً، تتقصيان مصدر الدخان المنبعث من تحت شارب أبيها المستند بجبهته على أطراف يده، وطفلها الملفوف بالدخان يعبث بالمنفضة الفخارية ويلثغ «بَا..بَا..بَا» بنكهة التبغ المحترق.