الحياة الدنيا هي رحلة الإنسان على وجه الأرض منذ مولده وحتى موته، وقد اقتضت حكمة الله تعالى ومشيئته أنه لن يعيشها من مبتداها إلى منتهاها جيل واحدٌ من بني البشر، وتلك الحياة في حساب الزمان سير متواصل لايوقفه إلا الموت.. وأما الحياة في حساب المكان، فهي وقوفٌ للتأمل وتبادل المنافع وتهيئة المكان تبعاً لما يدور في خلد من يعيشون عليه. وإذا نظرنا إلى ذلك السير لوجدناه محكوماً بوضعين لاثالث لهما، قد بينهما الله تعالى بقوله: «أفمن يمشي مكباً على وجهه أهدى أمن يمشي سوياً على صراط مستقيم» سورة الملك الآية «22». فأحد الوضعين أثنى الله جل وعلا عليه لأنه مرتبط بالهدى، أي: الاستواء، والتبصر، والاطلاع، والإحاطة، وأما الوضع الثاني فقد ذمه الله تعالى، لأنه مرتبط بالضلالة، أي: الانفلاق والضيق والانكباب على الوجه وصرف النظر للأسفل، فلا ينظر صاحبه لأبعد من موضع قدميه، فأنى له أن يدرك حقائق ماحوله، فيقوده إدراكه إلى الإيمان وفي الحديث يقول نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم «لو أن رجلاً يُجر على وجهه من يوم ولد إلى يوم يموت هرماً في مرضات الله تعالى لحقره يوم القيامه» عن عتبة بن عبد/ أخرجه الإمام أحمد بن حنبل، والعبرة المستخلصة من هذا الحديث الشريف أن عبادة المخلوق لخالقه جل وعلا، إنما هو تكريمٌ لذلك المخلوق وتمييز له في مراتب ماخلق الله تعالى من المخلوقات.. وأن تلك العبادة متلائمة مع ذلك التكريم، فاتصفت باليسر، والتوسط، والتوافق مع الحال التي يكون عليها العابد، ولذلك فهي رحمة لأن الدين من طبيعة أحكامه وتكاليفه الثبات، ولكن المكلفين لايثبتون على حال واحدة، فكانت الرخص تبعاً للحال التي يكونون عليها، والرخصة مرتبطة بالعذر، والعذر ليس له صفة الدوام.. وهذا الحال الذي بينه الحديث الشريف بقوله: «لو أن رجلاً يُجر على وجهه».. فيه نهي عن التشدد والتنطع في العبادة والذي يؤدي إلى الانقطاع، والإفراط الذي يؤدي إلى الملل وترك العبادة الأفضل، فمن كان هذا حاله يعد معرضاً عن كرم الله تعالى على عباده ولطفه بهم، بأن يسر لهم أمر طاعته، ولم يجعل من فرض عبادته سبباً لشقائهم وتعذيبهم، فالله تعالى عليم بعباده وهو جل وعلا رحيم بمن خلق «ولاتقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيماً» سورة النساء، الآية«29».. ويوم القيامة يحط من قدر المغالين والمتنطعين ويحقر أعمالهم فمن تشدد فقد انحاز عن وسطية دينه، ومن فرط تخلف عن ركب إخوانه، ومن توسط بلغ المنزل فنال مغفرة ربه ورضوانه