زهرة رحمة الله تجمدت الدماء في عروقي حين أبصرت في وجهه المسكون بالرعب نافورة من الدم وجسمه المغطى بمساحة واسعة من الغبار.. كان يشق طريقه بين الأشجار بصعوبة وقد أنهكه الإعياء وقفت أمامه وهو يلهث وبادرته بالسؤال: - ماذا هناك يا عبده.. تكلم؟ نظرإلى مصعوقا، تحركت شفتاه وارتخت أنامله وسقط عنق زجاجة مهشمة كان يحمله وانغرس في الرمل، كانت هناك آثار دماء وعرق ورمال على ملابسه ويديه قلت له -هناك جرح غائر في وجهك. مددت يدي نحوه، لكنه أبعدها بعنف، ألقى نظرة رعب للخلف وراح يجرجر أقدامه بسرعة..نظرت إلى الأمام بين أشجار البرتقال، انطلقت أنا أيضا إلى الأمام بسرعة هائلة، وقفت على الشاطئ ألهث من التعب ومصعوقًا من هول المفاجأة..كانت الفيللا المهجورة الغارقة في الظلام والمسكونة بالصمت والوحشة دومًا تشتعل الآن بالأضواء والحركة. رأيت مخلوقات بهيئات بشرية تحمل وجوهًا غريبة تخرج منها، وفي أجسادها أزرار كبيرة تومض بالألوان والأشكال وتسير على جسر ممتد منها إلى البحر وهي تحمل صحائف معدنية لامعة، تعبر الجسر إلى سفينة فضائية كمحارة ضخمة تربض على صدر البحر وتطلق صفيرًا حادًا قاطعًا، أطبقت يدي على أذني بشدة، مرت ثوان كانت المركبة تلملم مداخلها وتقلع جسدها وتنفك عن الجاذبية وهي تصدر عويلا حادا، تحركت الأرض تحت قدمي وتكوم جسدي على الرمل.، كانت السفينة ترتفع، لم أتمالك نفسي رحت أركض بشدة خلف الضوء الواهن الهارب نحو السماء وهو يتبدد ويتلاشى حتى يغدو نجمة بعيدة، كان عنقي مشدودا وعيناي غائبتين في الفضاء وجسدي غارقاً في الإعياء وروحي مبددة بين الحقيقة والحلم، مر وقت طويل وأنا على هذه الهيئة حتى شملني الهدوء. تذكرت أول اتصال في مركز الشرطة حيث أعمل، اتصلت امرأة تدعى أم سامي حدثتني بأنها رأت شيئا غريبا في تلك الفيلا المهجورة، حدثتني بأنها رأت حزمة ضوء تتسلل من النافذة ولكنه اختفى بسرعة، وفي يوم آخر كان هناك بلاغ حول مجموعة من الأولاد يلعبون الكرة في الساحة الجانبية للفيلا المهجورة فطارت الكرة فوق سور الفيلا وتسلل واحد منهم خلفها لكنه لم يعد منها.. وفي يوم اقتيدت امرأة من الحي إلى المركز.. كانت في هياج شديد تشد شعرها تمزق ملابسها..كانت مطلقة تعيش مع طفلتها لكن إدمانها على المهدئات وأشياء أخرى حولت وصاية الحضانة من المحكمة لمصلحة الأب وفي يوم كانت تقود طفلتها إلى منزل الأب حين استوقفتها صديقة لها في الطريق وأخذت تجاذبها أطراف الحديث.. تسللت الطفلة صوب الفيلا ودخلتها عبر بابها الحديدي الموارب.. أحست الأم بابتعادها، فانطلقت صوب الفيلا وبحثت عنها في كل أرجائها كان الصمت يصفر في كل مكان فتهالكت على الأرض وراحت تبكي. كانت الأخبار والبلاغات عن الفيلا تتوارد وتتكاثف والملف أمامي ينتفخ بالتفاصيل والتعقيد، بعد عدة أيام تسللت إلى الفيلا ورحت أجوب الحجرات والأروقة وافتح الأبواب وأغلقها ويتعلق في أذني صريرها الموحش، وفي إحدى الحجرات وجدت نفسي تنزلق في نفق سفلي ضيق أتزحلق على أرضية من خشب - مشبوك - كان صوت الماء ورائحة الملوحة ترسخ يقيني بأنني على سطح البحر وكانت أشباح أسماك سوداء تجوب بشراسة تحت قدميّ.. تحملق في وجهي.. كان البريق المنطلق من عينيها الزجاجتين القاسيتين ينزلق في أعماقي كدبابيس معدنية وأسنان فكها الواسع يقذفني في لجة رعب ويعذبني يقين بأنني في فخ مفترس.. رحت أتشبث بقاعدة النفق وأدفع جسدي إلى الأعلى وأضغط بكلتا يدي وقدميّ على أطرافه الصلبة وأصعد إلى الأعلى.. جلست على الشاطئ وأمعنت النظر إلى الفيلا وهي تغتسل بالظلمة والصمت والهواجس، كأنها إحدى الكواكب البعيدة كان البحر يتنفس بهدوء والنسيم البارد يصافح وجهي، والسر الرهيب قد انبلج من رحم الظلمة وذاب في سكون الفضاء الواسع. ماذا يريدون منا.. من أطفالنا..؟ لملمت نفسي ورحت أحث الخطى في الظلام يغمر، لم أدر كم مشيت، وهناك يقين حاد يسحقني بأنني أحمل سرًا رهيبًا ينوء به كاهلي ولكن لن أجد من يصدقني..