رسالة موحية استلمتها من أحد أعز الأصدقاء الرومان، ممن تمرغوا في ثقافة الشرق وتشربوا ذائقة المكان والتاريخ إبحاراً في المعاني، وتنقلاً في الأمكنة حتى أصبح الشرق العربي الإسلامي حالة لصيقة بمؤلفاته وأهوائه وأحلامه منذ أن سطر كتابه الأول عن (فن الطباخة عند العرب) ثم كتب رسالته التي نال عليها درجة دكتوراه الدولة بعنوان (إشكالية ترجمة القرآن الكريم إلى اللغة الرومانية) مواصلاً في ذات الوقت منجزه الأكبر بأول ترجمة كاملة للقرآن الكريم إلى اللغة الرومانية، ثم انفتح الباب على متوالية كتابات ومؤلفات مازالت تتوالد واحدة تلو الأخرى. قال لي دون سابق تمهيد إنه قرر الهجرة إلى جيبوتي!!. وبالطبع التقطت الرمزية البالغة لهذا القول الذي يذكرنا بالمبدع الفرنسي الكبير (رامبو) والذي تنقل في المشارق حتى حط الرحال في (عدن) وفيها كتب روائعها واستجلى أبعادها الصوفية المشرقية. جيبوتي التي ذكرها صديقي كمحطة افتراضية لهجرته تؤشر إلى ذلك البعد الاستثناء الذي مثّلته (عدن) منذ قرون خلت.. ذلك أن القاسم المشترك بين المدينتين يكمن في التعددية الإثنية التي تستقيم على التعايش وتلتقي على المحبة والتمازج المتبادلين، على تنوع الأنساق الثقافية التي تضفي على هذه المدن عبقرية من نوع خاص. جيبوتي بالنسبة لهذا الرائي وأمثاله توازي الأحلام الطوباوية التي دونتها الرواقية الوجودية، والفرح المستديم، حيث لا معنى للعمل والأولويات خارج المزاج الفردي المتسق مع عوالم الإنسان الداخلية، فلا قسر، ولا إكراه، ولا موانع أو حواجز خارج المنطق السليم والعفوي للظواهر. يجتمع الناس على المعاني، فيلتقي ابن بوخارست بساكن جيبوتي، بل تأتلف القلوب عند المفازات السحرية للأمكنة المنفلتة من الجغرافيا السياسية والتاريخ المأفون بالعنصرية والعداوات..غير أن المهم والأهم أن يتمتع التواق إلى الحرية والخلاص بقدر كبير من رباطة الجأش وتسديد السهام حتى يتمكن من الاستجابة لنداء الداخل..أعرف بوخارست كأهلها، وأعرف جيبوتي لزيارتين متباعدتين ومفعمتين بالحضور الأفقي والرأسي، والموصولتين جداً بحيواتي العدنية المديدة، فلا فوارق جوهرية بين مدينتي عدن، مدينة الليل والمرايا، وجيبوتي مدينة الفرح والابيقورية اليومية. وأعتقد جازماً أن صاحبي الكبير (جورجي جريجوري) سيكون له كلمة في مدى الزمان إذا أسعفته الأقدار وانسكب في مختصرات جيبوتي وأجوائها السخية الحاضنة لمفردات الثقافتين العربية والأفريكانية، حيث التعايش الاستثناء بين الروافد العربية اليمانية الصومالية، والعربية الأفريكانية العفرية، والأوروبية الفرنسية. فهل يمكن لمستشرق مستعرب أن يجد واحة طوبى وسكينة أفضل من جيبوتي الهادئة البسيطة حد العمق المثير؟!.