آشتهي على الأوقاف أن تجعل في كل مسجد مؤذناً حاضر القلب، ندي الصوت وتقيم في جوانب المدينة الأربعة مكبرات تذيع هذا الأذان، حتى يرن في أرجاء البلد الصوت.. واحداً يملأ كل سمع، ويبلغ كل قلب... الله أكبر... الله أكبر.. هذا النشيد الذي لم يحمل بريد السماء إلى الأرض، ولم يلق لسان الزمان في أذن الدنيا نشيداً مثله.. حربياً إن شئته للحرب.. عاطفياً إن شئته للقلب.. صوفياً إن أردته للتصوف. الله أكبر.. هذا الهتاف الذي كان صرخة الحق من أفواه جنود محمد صلى الله عليه وسلم، أسمعوه كل بطن وادٍ، وكل ظهر جبل، وكل مغارة تفزع من سلوكها الجن، سلوكها يجاهدون في سبيل الله، وكل أسوار قلعة لا تستطيع أن تحومها فوقها من منعتها العقبان، فتحوها ليُدخلوا إليها هدى الله، وكان أبداً نشيد النصر.. الله أكبر.. تسري في هدأة الليل والناس غارقون في نشوة العبادة، أو في أحلام الهوى، أو في حمأة الفجور، أو في لجج الكرى، وفي وضح النهار والناس منغمسون في معتركات السياسة أو غمرات التجارة، أو مطامع دنيوية، أو الدسائس والشهوات، يهبط عليهم جميعاً كما يهبط البركان من السماء، ويمشي في قلوبهم كما يمشي النور في الفضاء.. ينذر من كان فوق كرسي الحكم والإمارة ومقاعد الثروة ومخادع اللذات.. يذكر الأقوياء بأن لا يتكبروا على الضعفاء، فإن الله معهم، والله أكبر منهم.. ويصرخ في آذان هؤلاء الذين غرتهم أنفسهم وغرهم الشيطان، فعبدوا المادة، ونسوا الروح، وجحدوا المعاد، يذكرهم أن وراء الجسم روحاً، وأنَّ بعد الدنيا آخرة، وأن في الوجود رباً يمهل ولا يهمل، ويُنسي ولا ينسى، وأن الدنيا لم تدم لأحد حتى تدوم لهم، وأن الموت لم يترك أحداً حتى يتركهم، وأن التراب قد احتوى أمماً من الناس، كانوا أشد قوة، وأكثر مالاً، وأعظم آثاراً، وكان لهم المال ولهم الجند، فما أغنى عنهم مالهم، ولا دفعت عنهم المنايا جنودهم، ولاحمتهم من عزرائىل قلاعهم.. وعادوا تراباً كما بدئوا من تراب، وصاروا أحاديث في الأرض.. بل إن أكثرهم لم يبق من يتحدث عنهم، وسيعرضون بعد ذلك على ربهم «يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلبٍ سليم» يوم لا كبير ولا صغير، ولا سوقة ولا أمير، ولا غني ولا فقير، يوم ينادي المنادي.. «لمن الملك اليوم؟» فيجيب المجيب.. «لله الواحد القهار». إن الناس قد نسوا الحقيقة الكبرى، وظنوا أن الله لم يخلقهم، وإن الموت لن ينالهم، وأن الدنيا باقية لهم.. فذكروهم هذه الحقيقة دائماً، وذكروهم بها دائماً.. في الصباح وفي الظهيرة، وفي مطلع النهار وفي مهبط الليل، لعلهم يذكرونها ويصدقون بها