ثمة رصيف مخلوع من ذاكرة الدفء وأناشيد الصباح البهية، يأخذ شكل القمر المكسور، ويمتد من ذبول الوردة إلى ذبول القلب. وثمة غدير، بمريولها الأزرق وشفاهها الراجفة وكفيها الصغيرتين المحمرتين، تطأ قلبها أرض الرصيف، قبل أن تطأه قدماها الصغيرتان، تنظر إليك بلهفة، ويطلّ صوتها برجاء: - أتشتري علكة؟ تغيب يدها في جيوبها الصغيرة بحثاً عن نقود تعيدها إليك. تنظر إلى العلبة الممتلئة في يدها بقلق، نقصت قليلاً لكنها ما زالت ممتلئة: -هل تشتري أكثر؟ يداعب الرجل خدّها بوقاحة، ويعدها بالمزيد غداً. تشدّ رحالها، وتحمل حلمها الصغير ببيع كل ما معها، لتشتري أمها ما تريد من طعام لإخوتها الصغار، وتجوب شوارع الشتاء الغارقة بالوحل والبرد، تقفز كغزالة شاردة، وتدق بأصابعها الحمراء نافذة السيارة الفارهة: - أتشتري علكة؟ يزعق صوت السيارة راشقاً حلمها بالطين والماء العكر و.. انكسار القمر. ثمة شارع مزروع في نبض الحلم وشرفات الياسمين، يأخذ شكل ضفيرة من البنفسج واخضرار البهاء، يمتد من دفء الأنشودة إلى ضياء القلب. وثمة سندريللا الصغيرة، تتهادى بضفيرتها المستلقية وثيابها الملونة، تخرج من دوائر الحلم الوردي، إلى دوائر أوسع وأكبر من الأحلام الوردية أيضاً، يحتويها قلب السيارة الفارهة... تنسحب سندريللا بلهفة النافذة، وتنظر إلى الشوارع بفرح.... الماء في الخارج، ما أبهاه !، وقلبها الصغير على موعد مع الهدايا وفستان أبيض جميل جميل... يتراشق الماء أمام عينيها أناشيد وفراشاً وحماماً. القمر مكسور، والليل يهبط ثقيلاً بارداً، والشوارع تغط في سبات عميق وليس هناك إلاّ غدير، تقرع بقدميها الصغيرتين قلب الشوارع الساكنة. نفدت العلكة إلاّ حبتنين، وجيبها الصغير فيه قروش كثيرة... تضم يدها الصغيرة على القروش، وصوت قدميها يخيفها في موت الشوارع واحتضار الأرصفة.. البيوت مطفأة، والستائر مسدلة، وليس إلاّ هي... تسير بسرعة أكبر، فيرتد صدى قدميها إليها، يعلو الصوت أكثر، فتأخذ بالركض في شوارع الليل المجنونة، سياط المطر تجلدها، والبرق يكاد سنا ضوئه يذهب الأبصار. البيت ما زال بعيداً، والشارع طويل طويل.... ويظهر ضوء ساطع يقبل من بعيد: لماذا لا أبيع ما تبقى معي من العلكة؟ تسرع إلى الشارع، وتقفز كحلم انفلت فجأة إلى اللاشيء وكل شيء، ولوّحت بكفيها الصغيرتين، ودمعها الذي اختبأ بالمطر... التفّ الأطفال حول سندريللا الصغيرة، بفستانها الأبيض وحذائها الأنيق، وشعرها المسترسل وقد علته الشرائط الملونة.... ومساحات البيت الشاسعة تأخذ امتداد الطفولة وأناشيد الحياة، وفوق الطاولة الكبيرة، أقمار من حلوى ونجوم من سكّر ودمىً من الشوكولاتة تتدلى حول الصغار، وهم يغنون لسندريللا الصغيرة ويتمنون لها عيداً سعيداً، ويحلمون بأن تنزل هذه الحلوى من عليائها، لتذوب في أيديهم وأفواههم. يغنون لسندريللا، والعمر يأخذ في غنائهم أرجوحة للياسمين تعلوها حكايا المساء الدافئة، يغنون لسندريللا، والحلم يأخذ في غنائهم طعم قمر من العسل.. يرقصون لسندريللا، والشتاء يمتد في عيونهم مطراً ناعماً يدق نوافذ دفئهم باستحياء تشاءب صباح دافئ مبلول بالعطر ورائحة الوعد، تسلل إلى سندريللا الصغيرة وأخذ يداعب خدّها باستحياء. وهنا.. ااك، رصيف مخلوع من ذاكرة الدفء وأناشيد الصباح، تتكوّم عليه باستحياء جثة لطفلة صغيرة، لوّث الطين مريولها، وتناثرت حولها قروش كثيرة. - قاصة من الأردن