لم تكن أمى تعدني أن أكون شيئاً مذكوراً في هذه الحياة، سوى أن أكون مثل نعمان القرناطي «نسبة إلى أشجار القرناط التي كان يملكها والده في القرية قبل إزالتها لكي يزرع «القات» على أنقاضها.. فقد كان هذا النعمان القرناطي يملك دكاناً لبيع «الكدم» قريباً من بيتنا..وكان محظوظاً جداً في تجارة «الكدم» حيث استطاع من أرباحه من الكدم أن يبني ثلاثة أدوار بينما كنا نحن نعيش في الدور الأرضي لهذه الأدوار الثلاثة مقابل أجرة شهرية «أقصد إيجاراً شهرياً» يدفعه أبي لنعمان القرناطي..وكان أبي يسمي مايدفعه مقابل السكن «أجرة نعمان»..قياساً على أجرة العسكري فقد كان أبي يعمل شرطياً في الأمن العام وكان قنوعاً جداً كما سمعت ذلك من والدتي فهو لايقتطع من مرتبه الشهري ريالاً واحداً لنفسه، بل كان يدفع المبلغ كاملاً للسيدة والدتي حفظها الله.. أما مصاريفه اليومية، فقد كان «يخارج نفسه» فالورقة القات عنده أهم من الغذاء، وكنت أسمعه يردد «الأكل هي لقمة إن تسبرت تسبرت وإلا هي مش ضروري، فالعماد على الورقة القات لابد ولابد أن تسبر وإلا خربت الدنيا بدون الورقة القات»!! كنت أشاهد والدي كل يوم يحمل بيده ثلاثة «أغراض»، حسب تسمية والدي نفسه: «القات وعلبة السجائر وقارورة الكندادراي» يضع الجميع في كيس بلاستيك، وكنت أتخيله وهو يمضي سيراً على الأقدام ملتحقاً بأصحابه بكل ثبات ورباطة جأش مبتهجاً ومبتسماً لكل من يقابله في الطريق، كأنه يعد الجميع بالنصر المبين ويؤكد لهم أنه سوف يضع أمام المسئولين الحاضرين في «المقيل» كل هموم المواطنين ومعاناتهم وحاجاتهم..ولا أدري كيف خطر ببالي أن أبي وهو في طريقه إلى «قاعة المجتمعين للمشاركة في مضغ القات» لايقل أهمية عن رئيس الأركان أو مدير الأمن العام..أما عندما كنت أراه يعود بعد صلاة العشاء منكساً رأسه مطأطئاً هامته،يفتل شاربه أو «ينخش» أسنانه ويعبث بلحيته أو بشعر رأسه فقد كنت أتخيل كأنه قد عاد من معركة خاسرة فقد فيها الجنود والعتاد، وكاد يفقد فيها حياته..وكنت أحدث نفسي بأن أبي لن يعود واليهم في اليوم التالي ولن يتناول القات بعد اليوم، مادام قد أوصله إلى هذا الحال من البؤس. لكن المشهد كان يتكرر أمامي كل يوم، الأمر الذي جعلني أولى مسألة القات هذه أهمية خاصة فقد بدأت أتعاطاها منذ أن كنت في الثالثة عشر من عمري، ولكي تكتمل «الرجولة»..بحيث أشعر أنني قد صرت رجلاً لاينقصني من مقومات الرجولة ومظاهرها إلاَّ أن أتعاطي التدخين أيضاً أسوة بأبي وأيضاً برفاقي في المدرسة وفي الشارع حيث نجتمع نلعب «الورق» أو نعاكس المارين أو نؤذي الطيور فوق الأشجار أو القطط والكلاب التي أخذت تفر مذعورة حيثما تواجدنا. لم أكن موفقاً في دراستي لأنني لم أكن مهتماً بها وقد سرني كثيراً أن يضيق طموح أمي، بحيث جعلت من نعمان القرناطي نموذجاً لما يجب أن يكون عليه ابنها في المستقبل.. أما أبي فقد كان غائباً تماماً عن هذه الاهتمامات، فقد ركز اهتمامه، في أن يضمن حقه «أجرة العسكري» وهذا لايتأتى الحصول عليه إلا أن يكلف من قبل رئيسه بمهمة مضمونة تعود عليه وعلى صاحبه بالفائدة وإلا بدون ذلك فقد ضاعت يوم جديد تشرق فيه الشمس.. فما قيمة الشمس إذن مادامت أشعتها لم تلامس أوراق القات لتدفئتها وقتل مابها من حشرات وكائنات دقيقة لاترى بالعين المجردة؟! كنت أنتقل من مرحلة دراسية إلى مرحلة دون مشقة أو عناء فأنا لا ينقصني الذكاء وكان الشهر الأخير من العام الدراسي هو الشهر الوحيد الذي أفتح فيه الكتب وأستعير فيه الدفاتر من زملائي الذين يواظبون على حضور شرح الدرس لبعض المدرسين وعندما كنت أحضر الفصل في بعض الأحيان كان بعض المدرسين يستغربون وجودي في الفصل ويسألون: من هذا؟ أما البعض الآخر من المدرسين فلم ينتبهوا إلى حضوري أو غيابي وقد سألني ذات مرة واحد من هؤلاء المدرسين سؤالاً وبالصدفة يفاجأ زملائي في الفصل أن إجابتي كانت سليمة وصحيحة، فأخذوا يتضاحكون عجباً ودهشة..أما المدرس وهو لايعلم من أنا فقد أخذ يطبطب على ظهري قائلاً: هكذا يكون الطالب المجد دائماً عقله حاضر..فما اسمك يافتى؟ وأخرج من جيبه «مذكرة» دون فيها اسمي فكان ذلك سبب من أسباب ملاحقتي وإزعاجي إلى أبعد الحدود من أجل الحضور والتقيد بنظام المدرسة.. وعندما علم ذلك المدرس بأنني قد أجبت إجابة صحيحة «صدفة» قال:« لم يكن محقاً أو جديراً أن تكون إجابته صحيحة» ومع ذلك فقد أعجبتني إجابته ورفعت درجته في كشف العلامات. وسوف أتواصل مع أسرته لكي ينتظم في دراسته لأنه لو فعل ذلك لما بقيت عنده مشكلة فهو على مايبدو لاتنقصه الفطنة.. كان ذلك هو انطباع مدرس اللغة العربية عني من أول وهلة ومن هنا بدأت محنتي مع المدرسة حيث لم يتركني ذلك المدرس في حال، فقد أخبر أمي أنني«عبقري» ولم ينقص هذه العبقرية لكي تكتمل وتتبلور إلاَّ أن انتظم في دراستي.. وعندما سألتْ أمي عن معنى كلمة «عبقري» قالوا لها: هو اسم وادي الجن وأن الذي يصل إليه من الإنس يصبح عبقرياً فيما يقول أو يفعل..وما إن سمعت أمي كلمة «الجن» حتى كادت يغمى عليها من شدة الفزع فلم يكن منها إلا أن أصرت أن انتقل إلى مدرسة أخرى لايوجد فيها أمثال هذا المدرس.. كانت أختي «سمية» تصغرني بعام واحد فقط، وكنت في شجار دائم معها فقد كانت تسبب لي إحراجاً عند أبي وعند أمي وعند أقاربنا خصوصاً عند خالي مسعود الذي سمتني أمي على اسمه فقد كان رجلاً شهماً كريماً ومؤدباً ومع ذلك فقد كان متواضعاً، وكنت أحب كل تلك الخصال فيه..لكنه أيضاً كان كثير الاطلاع محباً للقراءة شغوفاً بها إلى درجة لم أكن أطيقها أبداً أبداً..فأنا عكسه تماماً فقد كنت لا أطيق القراءة ولا أميل إليها، وأنفر منها نفور الحمار من بردعته وكان ابنه ابراهيم صورة طبق الأصل من أبيه في حب القراءة وكثرة الاطلاع بل ربما كان يتفوق على أبيه في اختيار مواضيع جادة يستطيع فهمها واستيعابها في سرعة قياسية في حين كانت تبدو لي كما لو كانت طلاسماً والغازاً مع أن ابراهيم كان في مثل عمري تقريباً..وكان يحلو له أن يختبر قدراتي في فهم بعض المواضيع الجادة.. فيسلمني كتاباً من كتبه، يشير فيه إلى بعض الفقرات من أجل الاطلاع عليها ونناقشها في نهاية الأسبوع عندما كنا نجتمع بصورة دائمة تقريباً في دارهم أو دارنا وكنت لا أرفض لابراهيم طلباً رغم فداحة مايوكله إليّ من مهام فقد كانت القراءة أشق الأمور عليَّ.. وإذا كنتم تريدون معرفة السر في أنني لا أستطيع أن أرفض لابن خالي طلباً، فذلك لأنه كان ينفق عليَّ بغير حساب فقد كان أبوه موسراً ولايتعاطى القات مثل أبي ولايعرف التدخين، وليس له من هواية سوى القراءة وقد اكسبه ذلك مكاناً مرموقاً في المجتمع ودخلاً مادياً لايستهان به بسبب قدرته على إدارة أعماله التجارية بقدر كبير من الحنكة وحسن التصرف في التعامل مع الآخرين ، ولا أدري لماذا لم تستطع والدتي أن يكون لها نفس المميزات الموجودة في أخيها، بحيث تتجه في تربيتي وتوجيهي أن أكون مثل أخيها وليس مثل نعمان القرناطي صاحب دكان الكدم؟! وكنت أتساءل في نفسي إذا كانت أمي هي التوأم لخالي مسعود لماذا تأتي على هذا النحو من السذاحة ولا أريد أن أصف أمي بالغباء، بينما خالي مسعود يكون على ذلك القدر من الفطنة والحصافة والسلوك الحميد فيما يختص بعلاقته بالكتاب ، هل يمكن أن تكون البويضة المخصبة التي تكونا منها الاثنان يحمل كل شطر منها شفرة هندسية وراثية مختلفة من الشطر الآخر؟! ولم يقف عجبي عند هذا الحد، بل تجاوز إلى التفكير في الفرق الواضح الموجود بيني وبين أختي «سمية» فبينما هي شديدة الولع بالقراءة والاطلاع والمواظبة في حضور المدرسة وتحقيق إنجازات مدرسية هائلة تجدونني صرت أمقتها وأمقت فطنتها وقدرتها العجيبة في قضاء وقتها أو معظمه في القراءة والتحصيل العلمي.. ولكنني مع ذلك لا أجرؤ على استفزازها كثيراً لأنني كنت بحاجتها لكي تشرح لي تلك الطلاسم والألغاز التي كان يكلفني بالاطلاع عليها وفهمها ابن خالي «إبراهيم مسعود» فلولا أختي سمية لما استطعت فهم شيء مماكنت أقرأ..وربما كان ذلك الوقت الذي أقضيه مع سمية ومع ابراهيم هو الذي أفادني في مستقبل الأيام..ولولا ماكنت أرجوه من عطايا إبراهيم وكرمه، لما كلفت نفسي مشقة التفكير وعناء الغوص في فهم مالم أحبه ولا أهضمه ، ولأن دوام الحال من المحال كما يقول المثل، فقد علم ابراهيم أن الذي كان يفهم تلك المواضيع ويستوعبها لم يكن غير «سمية» أما ابن خالته مسعود فلم يكن في وضع يسمح له أن يستوعب في هذه الحياة أبعد من دكان لبيع الكدم كما رسمت له والدته العزيزة منذ نعومة أظفاره. سارت الأمور في النهاية في اتجاه تقارب ابراهيم وسمية حيث تقدم لخطبتها وبعد ذلك عقد قرانهما وسافرا معاً خارج البلاد حيث كان ابراهيم قد حصل على منحة دراسية لدراسة الهندسة المدنية. أما أنا فقد كنت أنجح في كل عام «بالدهفة» ولا أدري لماذا كان يتعين عليَّ أن أنتقل من مرحلة إلى مرحلة في الوقت الذي كانت فيه معلوماتي عن الدروس متواضعة جداً ولا أعلم أنه كان من حسن حظي أو من سوئه أن أجد الأمور ميسرة لي أيام الامتحانات فكانت ورقة من هنا و«برشامة» من هناك ونظرة هنا ونظرة هناك..هذا يساعد من هنا وذاك من هناك توليفة متنوعة ومن مصادر متعددة تؤدي في النهاية إلى طرحها ورصها في ورقة الإجابة فإذا لم تكتمل «العلامة» المطلوبة، جاءت العلامات الاسعافية من لجان الرأفة..وهكذا كنت أنتقل من مرحلة إلى أخرى حتى وصلت الثانوية العامة. بذلت قصارى جهدي في الشهرين الأخيرين لامتحان الثانوية العامة من أجل النجاح فقط، ولم يخطر ببالي مسألة كم هو المعدل لم يكن ذلك مهماً في نظري، ولم تكن والدتي حفظها الله لتفهم معنى شهادة الثانوية العامة سوى أنها تمهد لضياع أربع سنوات من عمر الإنسان في التعليم الجامعي بعد أن يكون قد أضاع اثني عشر عاماً من عمره في التعليم الأساسي والثانوي ولايعني هذا أن والدتي كانت بدون طموح لكن طموحها كان من ذلك النوع البسيط والساذج الذي لايتجاوز فتح دكان لبيع الكدم ، ولذلك فقد أخذت على عاتقها البحث عن دكان صغير يليق بمقام ابنها مسعود الذي حصل على شهادة الثانوية العامة بمعدل 53 % «ونص».. فهو بذلك قد تفوق على أبيه الذي لم يحصل سوى على الشهادة الابتدائية ومع ذلك فهو من كبار رجال الشرطة في الأمن العام.. بالطبع لم يمانع والدي أن يكون ابنه صاحب دكان لبيع الكدم..فمن يعلم؟ لعل ابنه مسعود يستطيع أن يبني بيتاً من ثلاثة أو حتى خمسة طوابق أسوة بنعمان القرناطي. لكن خالي مسعود، لم يعجبه الحال، فقد أستاء كثيراً من فتح هذا الدكان وسعى سعياً حثيثاً دون كلل أو ملل أن يجد مكاناً في الجامعة لابن أخته، ولكنه لم يوفق، فقد رفضت كل الكليات قبوله بسبب المعدل الضعيف الذي لم يؤهل أحداً دخول الجامعة، ولكن خالي من النوع الذي لايعرف قلبه اليأس، فنجح أخيراً أن يحصل على موافقة كلية التربية، وجاء يبشرني بأنني قد صرت من ذلك اليوم من طلبة كلية التربية، فنزل عليَّ ذلك النبأ نزول الصاعقة فأنا نسخة من طموح أمي لايستطيع تفكيري أن يستوعب أبعد من دكان لبيع «الكدم». أما أبي فلم يعبأ بشيء من ذلك كله، لأنه كان قد رتب أمري مع أصحابه في الأمن العام أن أكون شرطياً لديهم أمسك بدفتر الحضور والانصراف ولم تكن شخصية أبي تسمح له أن يمارس الجدل مع والدتي أو مع خالي مسعود. تخرجت بعد أربع سنوات بالوفاء والتمام، واستطاع خالي مسعود أن يؤمن لي وظيفة لتدريس اللغة العربية في المرحلة الثانوية بعد أن صرف الكثير من ماله واستخدم كل مالديه من وجاهة وتأثير. وجدت نفسي في الفصل وجهاً لوجه أمام طلبة من مختلف الفئات والأعمار يتراوح أعمارهم مابين الثامنة عشرة والخامسة والعشرين سنة رأيتهم يرمقونني شزراً ويتغامزون ويتلامزون وكأنهم وجدوا شخصية هزلية تصلح أن تكون موضع سخرية للجميع..كان بعضهم في مثل عمري أو قريباً من ذلك ، وكان لبعضهم شوارب وذوقون ولحى..يمسكون بها ويمسدونها، حتى لقد ظننت أنهم يفعلون ذلك سخرية بي واستعداداًَ للانقضاض عليًّ. ولأن الدراسة كان قد مضى عليها ثلاثة شهور، فقد كان لابد من الاسراع في تعويض الفترة التي أمضوها بدون مدرس رسمي لمادة اللغة العربية، ماعدا بعض الحصص التي كانوا يحصلون عليها من أساتذة مستعارين من فصول أخرى.. كان عدد الطلبة كبيراً، لكن عشرة منهم أو خمسة عشر كانوا لايطاقون وكان أكثرهم شغباً وشقاوة ثلاثة من كبارهم سناً وأكثرهم انفلاتاً على رأسهم سعيد ناجي المريسي..كان ضخم الجثة، كث اللحية وكثيف الشارب ومع مرور الأيام والشهور لم أزدد إلاَّ نفوراً من هؤلاء المشاغبين ولم يزدادوا إلاَّ ولعاً بمناكفتي والتفنن في مضايقتي..وكانت سمعة هذا الفصل قد فاحت روائحه في المدرسة كلها.. فكنت أكثر المدرسين عجزاً في ضبط أحوال الفصل..وكان ذلك يؤلمني جداً.. كنت أحدث نفسي « أما كان دكان الكدم أفضل ألف مرة من هذه الورطة؟ ثم أعود ألوم نفسي على هذا الطموح الرخيص الفاشل وأتساءل: كيف كنت في يوم من الأيام لا أقل رداءة ولاشقاء من هؤلاء الذين أجد نفسي تضيق بهم ذرعاً..أما كان الجدير بي أن أكون غير ماكنت عليه ماذا يضيرني لو أنني كنت مجتهداً مثل أختي سمية أو مثل ابن خالي فماذا ينفع الندم اليوم؟ قلت لكبير المشاغبين سعيد المريسى توقف عن الثرثرة أو تطلع خارج الفصل لم يكلف نفسه حتى أن يلتفت مجرد التفات نحوي فلم استطع أن أتحمل استهتاره ولم أدر ماذا أصنع فهو أعظم جسماً ولياقة بدنية تركت الفصل وخرجت استنشق الهواء الطلق أشعلت سجارة وقعدت على كرس مهترئ في البلكون في الدور الثاني ليس بعيداً عن الفصل..فكان من سوء حظي أن مر ناظر المدرسة الذي لم أكن قد تشرفت بمعرفته كما أنه لم يكن قد رأني من قبل كان يكتم في نفسه غيظاً مبيتاً على طلبة الثانوية العامة وكان في طريقه لتأديبهم فما أن رأنى أجلس خارج الفصل أنفث الدخان حتى ظنني المريسي الذي سمع عنه الكثير فماكان من الناظر إلاَّ أن ينهال عليَّ ضرباً بعصاه الغليظة ثم يمسكني من أذني ويقتادني إلى الفصل كما يقتاد الإنسان معزة شاردة عن القطيع فما أن دلفنا إلى داخل الفصل حتى كان في انتظارنا مفاجأة عجيبة، إذ أن المريسي أخذ يمثل أمام زملائه دور الأستاذ يشرح لهم الدرس، ولم يشك ناظر المدرسة في أنه هو الأستاذ فتعامل معه برفق قائلاً: ياأستاذ مسعود لاتكن طيب القلب أكثر من اللزوم فأمثال هذا الطالب المشاغب وأرسله فوراً إلى الإدارة لنتعامل معه بمايستحق أما أن تكتفي بطرده فقط خارج الفصل، فهذا هو مايريده أمثال هؤلاء المشاغبين وعلى أية حال في نهاية الحصة تأتي معهم جميعاً إلى الإدارة لكي ننظر في أمرهم ولاتدع أياً منهم يتخلف عن الحضور. بهت الطلبة من شدة المفاجأة إذ لم يخطر على بالهم أن يصل الأمر إلى هذا الحد من الالتباس فلم يجرؤ أي منهم أن ينبس ببنت شفة أما المريسي فقد أخذ ينكمش وينكمش حتى ظنه من يراه أنه يريد أن يتلاشى ليختفي كلية ولايرى نفسه أمام الناظر في الإدارة على هيئته الحقيقية مشاغب الفصل يتقمص رداء المعلم. أما أنا فلم أضيع الوقت، فما أن ترك ناظر المدرسة الفصل حتى انطلقت مهرولاً في اتجاه غرفة المدرسين لأكتب هذه الرسالة. الأخ ناظر المدرسة: أرجو قبول استقالتي من هيئة التدريس، فأنا لست مؤهلاً لوظيفة «مدرس» لا من الناحية العلمية ولا الخبرة كما أنني لست مؤهلاً نفسياً لأن أتحمل أمانة ومسئولية التدريس وسوف تعلم من الطلبة كل تفاصيل ماحدث هذا اليوم ومايحدث كل يوم، واسمح لي أن لاتكون لدي الجرأة لمقابلتكم بعد الذي جرى وقد كنت أنا المسئول الأول والأخير في كل ماحدث هذا اليوم.. ثم مضيت أعدو مهرولاً خارج المدرسة لا ألوي على شيء حتى وصلت دار خالي مسعود.. كنت على درجة كبيرة من الانهاك.. بكيت كما لم أبكِ في حياتي، لكنني لم استطع الحديث، وجدت نفسي استغرق في نوم عميق لم استيقظ منه إلاً اليوم الثاني. كان خالي مسعود ينتظر استيقاظي بفارغ الصبر ليعلم ماالذي حدث..أخبرته بكل شيء بأدق التفاصيل..وختمت حديثي بالرجاء والتوسل أن يساعدني خالي مسعود في العودة إلى المدرسة ولكن كطالب وليس كمدرس!! قلت له: لقد علمتني الحياة الكثير لم أكن أشعر في أي يوم من الأيام أنني طالب أو أنني أحتاج إلى التعليم..كان طموحي لايتجاوز طموح والدتي حفظها الله أن أكون صاحب دكان لبيع «الكدم». أما اليوم فقد استيقظت كما لم استيقظ في أي يوم من الأيام..لقد صار عمري اليوم ستاً وعشرين سنة وسأبلغ في العام القادم سبع وعشرين.. أعدك ياخالي مسعود بتسع وتسعين درجة وليس أقل من ذلك أعدك ب 99 % وأنا أعلم أن ذلك لن يكون سهلاً ولكنني سأفعلها بإذن الله..لقد أيقظتني الصدمة ياخالي لم أسمع بإنسان قد أهين وتعرض للإذلال والمهانة كما حدث لي..ولن اسامح نفسي على ذلك ماحييت، ولن يكون رد اعتباري لنفسي إلاَّ بالتفوق واجتياز أشد العقبات صعوبة.. فهل تساعدني على ذلك أيها الخال العزيز؟!