(1) بالكاد ميّز المكان.. فقد طمس الغبار معالمه المدونة تفاصيلها في ذاكرته.. لا يدري حقاً كم مر من الوقت منذ كان هنا لآخر مرة.. قرّر أن يتوغل أكثر في التفاصيل الجديدة للمكان، غير أن العبور إلى الباب المحاط بسياج من نسيج العنكبوت الملتف بالأتربة بدا له مجازفة قد تهدد بإتلاف ثيابه النظيفة.. فتح الباب بعد لحظة تردد وأحدث مزلاجه الصدئ صريراً حاداً بعث الرعشة في جسده. (2) تجول بين اللوحات العارية المبعثرة على امتداد مساحة الغرفة.. فاجأه أنها جميعاً لا تنطق بغير تعبير صمت واجم شديد القتامة.. انتبه بعد لحظات أن هناك لوحة واحدة لا تزال مغطاة بقماش أبيض أحاله الإهمال إلى بني فاتح، استبد به الفضول لمعرفة محتواها فأزاح بلهفة الستار الأبيض عنها.. لكنه سرعان ما أغمض عينيه بقوة وضغط أصابعه على فمه كاتما صيحة اشمئزاز.. ودهمته رغبة حادة في التقيؤ.. بعد أن رأى الملامح الرمادية شديد الاهتراء والتعفن تغطي اللوحة. حاول أن يهرب من الملامح الرمادية العفنة التي أحس بأنها تكاد تطبق عليه لكن دوار ثقيل بدأ يجتاحه ويجمد أطرافه و أخيراً سقط مغشياً عليه. (3) شيئاً فشيئاً اعتاد ملامح اللوحة، بل أنه قرر أن يجدد أجزاءها المتساقطة بالألوان المشرقة بدأ يلون والأحمر بعض مساحتها ولدهشته استحال إلى رمادي حالما لامسها. كرر التجربة بالأصفر والأخضر والأزرق لكنها كانت ترتد بعنف إلى رمادي شاحب ساخر. غضب بشده وأخذ يطلي اللوحة بالألوان بعشوائية ،لكن اللون الشاحب استمر يسخر منه. جنّ جنونه ودلق ما بحوزته من الألوان على وجه اللوحة.. لكنها قهقهت بتشفي مسرور وبصقت ألوانه في وجهه وتراصت أجزاؤها المهترئة في سرعة محمومة لتكون وجها رماديا يعرفه جيداً. وجها كان قد التصق به منذ غادر مرسمه.. آخر مرة. استمرت الأجزاء في تشكيل وجهه الرمادي في حين انطلق الدخان كثيفاً من أعماق الذاكرة المسحوقة تحت وطأة الذكريات العفنة. تكاثف الدخان أكثر فأكثر حتى ابتلع المكان..