خطت بلادنا خطوات جادة في الانتقال من الحكم الشمولي قبل إعلان الوحدة اليمنية عام 1990م إلى الحكم الديمقراطي, واتخذت ككل أنظمة العالم الحديث إجراءات تتناسب مع هذا التحول الكبير, فكانت الصناديق هي الحكم في كل الانتخابات التي شهدتها الساحة اليمنية. لم يكن احد يتوقع قبل الوحدة ان تسير الأمور إلى الأمام نحو تكريس واقع ديمقراطي ارتضته كل جماهير شعبنا العظيم. فكانت الانتخابات النيابية في 1993م هي الخطوة الأولى في سلم النمو الديمقراطي, ولم يسبقها سوى الاستفتاء على الدستور في 1991م. ومع أجواء الحزبية المشحونة بالتوتر في تلك الفترة إلا أن الشعب اليمني نجح بكل تكويناته أن يقول كلمته عبر صناديق الانتخابات في أول عملية انتخابية ديمقراطية حرة, وتنافس حزبي شرس. ومنذ تلك الانتخابات وما تلاها من انتخابات برلمانية في 1997م كانت الخطى تتسارع نحو الوصول إلى تجربة فريدة من نوعها في منطقة اقل ما توصف به أنها بعيدة عن الممارسات الديمقراطية. وفي عام 1999كان الشعب على موعد مع أول انتخابات مباشرة لانتخاب رئيس للبلاد. وصفت تلك الانتخابات بأنها “تأسيس لتجربة من هذا النوع”. في تلك الفترة كان حزب التجمع اليمني للإصلاح أكبر أحزاب المعارضة لا يزال قريباً من الحزب الحاكم المؤتمر الشعبي العام، حيث تكتل الحزبان بمعية أحزاب المجلس الوطني للمعارضة الموالية للمؤتمر باتجاه تزكية الرئيس علي عبدالله صالح في البرلمان لخوض الانتخابات. لذا فقد زكى الحزب الحاكم أحد أعضائه وهو نجيب الشعبي نجل الرئيس اليمني الراحل قحطان الشعبي لخوض الانتخابات في مواجهة الرئيس صالح. لذا لم يكن غريباً أن يحصل فخامة الرئيس علي عبد الله صالح على %96.20 من أصوات الناخبين الذين بلغوا (3 ملايين و773 ألف) ناخب وناخبة شاركوا في الاقتراع، وحصل منافسه نجيب قحطان الشعبي (3.80 %) فقط، لانعدام المنافسة الحقيقية بينهما. لكن الأمر اختلف جذرياً في انتخابات الرئاسة في 2006م حيث كانت المنافسة قوية, ولم يشكك فيها احد من الأطراف, إذ تكتلت المعارضة فيما سمي منذ 2003م بتحالف اللقاء المشترك الذي ضم أحزاب التجمع اليمني للإصلاح الحليف الاستراتيجي للمؤتمر سابقاً, والحزب الاشتراكي اليمني الذي حكم جنوب الوطن منذ رحيل الاحتلال البريطاني 1967م إلى إعلان الوحدة في عام 1990م, وشارك في الائتلاف الثنائي مع المؤتمر الشعبي إلى 1993م, ودخل فيما بعد في الائتلاف الثلاثي الذي ضم حزب الإصلاح والمؤتمر والاشتراكي. كما انضم إلى اللقاء المشترك التنظيم الوحدوي الناصري وحزب البعث العربي الاشتراكي, وحزب الحق واتحاد القوى الشعبية. ودخل المؤتمر الشعبي الانتخابات بكل ما لديه من ثقل في هذه المنافسة بالإضافة إلى أحزاب المجلس الوطني للمعارضة . المتغيرات الجذرية في الخارطة السياسية اليمنية، نقلت الانتخابات الرئاسية من الإطار “الشكلي” إلى الإطار “التنافسي” الجدي. مما زاد من مساحة الخلافات بين الحليفين السابقين، (المؤتمر والإصلاح) وهذا بدوره أعطى الانتخابات الرئاسية زخماً غير عادي, فكانت المنافسة قوية شكلاً ومضموناً. الإصلاح بما يمتلكه من نسبة مئوية من مجموع عدد أعضاء مجلسي النواب والشورى التي تؤهله لتزكية مرشحه الرئاسي وهي (%5) ضمن خوضه مع حلفائه الجدد الانتخابات الرئاسة. ويقال ان الإصلاح الذي يعرف حجمه وحجم الأحزاب المنضوية معه في “المشترك” كان يريد أن يؤكد قدرته في الحصول على نسبة مرتفعة أمام المؤتمر, خاصة إذا ما قورنت فيما بعد الانتخابات بالنسبة للتي حصل عليها الرئيس علي عبد الله صالح في انتخابات 1999م. أجمع اللقاء المشترك على اختيار مرشحه للرئاسة وكان المهندس فيصل بن شملان وزير النفط السابق, الذي لم يكن منتمياً فعلياً لأي من أحزاب المشترك مع انتمائه الحركي منذ عهود التشطير إلى اليمين(الإخوان المسلمين). الرئيس علي عبدالله صالح بحنكته المعهودة في إدارة الأحداث بدا واضحاً عليه انه متأكد من الفوز, فرصيده النضالي والوحدوي والتنموي كان كافياً بحسب المراقبين لأن يفوز بالأغلبية المطلوبة دون أية صعوبات. ولكن برغم أن الفوز بدا مؤكداً للرئيس الصالح منذ بداية الدعاية الانتخابية إلا أنها المرة الأولى منذ 28 عاماً في السلطة وجد فيها نفسه في مواجهة معارضة حقيقية. لكنه مع ذلك كان دائم التأكيد على أن العرس الديمقراطي الذي تعيشه البلاد يؤكد حرص اليمنيين على التداول السلمي للسلطة. واعتبر في مقابلة بثتها فضائية الجزيرة قبل الانتخابات عبر برنامجها الشهير بلا حدود, ان المنافسة في الانتخابات الرئاسية جيدة وممتازة وتؤسس لمستقبل أفضل للتداول السلمي للسلطة. ووصفها بالجادة, معتبراً وجود رقابة دولية على الانتخابات إلى جانب الرقابة المحلية المتمثلة في الرقابة المشتركة من قبل المؤتمر الشعبي العام وأحزاب المعارضة ومنظمات المجتمع المدني, انه دليل عملي على الجدية. وأكد حينها قبوله بالنتيجة حتى لو فاز مرشح أحزاب اللقاء المشترك, “سأقيم له بهذه المناسبة, احتفالاً لأني مؤسس الديمقراطية ومقتنع بها تماماً”. أهم ما جاء في تلك المقابلة التي وجدت صدى واسعاً, هو اعتزاز الرئيس صالح بأنه هو الذي أسس التجربة دون ان تفرض من احد- وهو اعتزاز وفخر لكل اليمنيين الذين هم على معرفة تامة بصحة ما قاله الرئيس- وهو نفسه الذي شجع المعارضة على منافسته في خطوة غير مسبوقة على مستوى المنطقة العربية, بشهادة كل من تابع تلك الانتخابات. خاض المرشح ياسين عبده سعيد التجربة عن تكتل (المجلس الوطني للمعارضة) إضافة إلى كل من الدكتور فتحي العزب (إصلاح) وأحمد المجيدي(اشتراكي) بصفة مرشحين مستقلين, ولكل منهم هدفه سواء الحزبي أو الشخصي. اللافت للنظر في حينه هو تضاعف عدد طالبي الترشح لمنصب رئيس الجمهورية إلى ضعفين ونصف العدد الذي توقف في الانتخابات الرئاسية الأولى، عند (24) مرشحاً رغم حداثة التجربة آنذاك. فقد بلغ في الانتخابات الرئاسية الأخيرة إلى (64) طلباً قُبل منها 50 طلباً مستوفياً شروط الترشح بينهم ثلاث نساء، وغالبيتهم مستقلون، يمثلون مختلف فئات المجتمع، من: سياسيين، وزعماء قبليين، وعسكريين متقاعدين، ورجال أعمال، وأكاديميين، ومثقفين. وان دل هذا على شيء فلن يكون سوى المناخ الديمقراطي الذي تعيشه البلد. حمي الوطيس أثناء فترة الدعاية وكان لزاماً على الخمسة المرشحين النزول الميداني إلى كافة المحافظات للقاء الجماهير عبر المهرجانات الانتخابية, فكانت المنافسة على أشدها بين مرشحي المؤتمر واللقاء المشترك بينما ظل المرشحون الثلاثة يصيحون في الهواء دون ان يكون هناك من يستمع لهم من الجماهير المحتشدة عبده الجندي عضو اللجنة العليا للانتخابات وصف أمام الصحفيين اثنين من المرشحين الثلاثة بأنهما يعملان لصالح المرشحين الرئيسين بالوكالة. وسائل إعلام الدولة عملت وفقاً للقوانين المنظمة لتغطية الانتخابات بإبراز جميع مهرجانات المرشحين الخمسة, بتساوي وان وصفت بأنها تحيزت لطرف ضد أخر إلا ان التغطية كانت في اغلبها تسير وفق ما رسم لها قانونياً. كما ان وسائل الإعلام الدولية اهتمت بالحدث الانتخابي الكبير منذ بداية الدعاية الانتخابية إلى إعلان النتائج, بعض تلك الوسائل وصفت تغطيتها بالمثيرة للجدل, لم يكن ذلك الوصف مهماً لأن الجدل الانتخابي كان موجوداً على امتداد الساحة اليمنية. فلم يسبق للشعب ان خاض مثل هذه التجربة الرائدة في العمل الانتخابي. في فترة الدعاية شاهد الناس زعماء المعارضة (المشترك) يقفون بقوة مع مرشحهم المهندس فيصل ابن شملان الذي بدأ في خطاباته أمام الحشود متفائلاً بالنصر وهو يعرض برنامجه الانتخابي, ولذا كان ينتقد الحكومة و رئيس الجمهورية نفسه, لقد عد مراقبون ذلك العمل في حد ذاته تقدماً ايجابياً و خطوة للأمام, ودليلاً على الحرية التي يعيشها شعبنا واقعاً ملموساً. وبدت خطابات الرئيس الصالح أمام الجماهير التي احتشدت في كل المحافظات حماسية بشكل كبير, برنامجه الانتخابي اعتبره محللون الأفضل, كونه صاحب خبرة وتجربة طويلة في الحكم, وقالوا انه ذو رؤية تفصيلية للواقع والمتطلبات التنموية, بينما برنامج منافسه كانت تنقصه تلك الرؤية بحسب مهتمين.. ولأن الرئيس الصالح يستخدم سياسة التقارب والانفتاح مع كل التيارات بعيداً عن العنف والحقد السياسيين. فإن خطاباته أقنعت الكثير من أعضاء الأحزاب المنافسة له في الانتخابات, بضرورة ان يعطوه أصواتهم, ولأنهم رأوا فيه المواصفات التي يجب ان تتوفر في قائد اليمن في هذه المرحلة. عززت السلطات الأمنية إجراءاتها عشية الانتخابات، ونشرت قوات حفظ للأمن قوامها 100 ألف جندي في أنحاء البلاد. وأعلنت الحكومة اليمنية يوم الانتخابات “يوماً بدون سلاح” باستثناء الجنبية, حيث سمح للناخبين بارتدائها أثناء الإدلاء بأصواتهم.. وكان الرئيس قد قال في كلمة وجهها إلى الشعب اليمني بمناسبة شهر رمضان قبل صدور النتائج الرسمية للانتخابات “ليس هناك منتصر أو مهزوم في هذا الاستحقاق بل ان المنتصر والفائز الأكبر هو شعبنا اليمني العظيم”. ودعا كافة القوى السياسية “إلى التحلي بروح الديمقراطية وتحمل مسؤولياتها الوطنية والعمل على ما يعزز الوحدة الوطنية. وكان ذلك بمثابة خطاب تهدئة للنفوس لإزالة ما علق بها أثناء عملية الدعاية من انفعالات حماسية.. كانت الجماهير قد احتشدت في كل المراكز الانتخابية في 20من سبتمبر في طوابير واختارت مرشحها في ذلك اليوم للرئاسة, ركز الكثير من الناخبين قبل ان يدلوا بأصواتهم على قضايا مهمة مثل الأمن والتنمية، فكان الرئيس صالح هو الأجدر بثقتهم. فجاءت نتيجة الفوز لصالحه كما توقع الجميع, فحصل على 77 %من أصوات الناخبين, بحسب ما أعلنته اللجنة العليا للانتخابات, حيث ان نسبة الأصوات التي حصل عليها الرئيس على عبدالله صالح بلغت 17ر77 % فيما حصل منافسه فيصل بن شملان على 83ر21 % والمنافسون الثلاثة الآخرون على النسبة المتبقية. وقالت اللجنة في بيان بثته أجهزة الإعلام ان عدد الناخبين الذين يحق لهم الانتخاب بلغ تسعة ملايين و 248 ألفاً و456 ناخباً اقترع منهم ستة ملايين و25 ألفاً و818 شخصاً بنسبة مشاركة بلغت 15ر65 %. كما ان عدد الأصوات الصحيحة في تلك الانتخابات بلغت خمسة ملايين و377 ألفاً و238 صوتاً في حين بلغ عدد الأصوات الباطلة 648 ألفاً و580 صوتاً. جاءت النتيجة لتتناسب مع تاريخ الرئيس علي عبد الله صالح النضالي الطويل في السلطة وإنجازاته الكبيرة, وفي مقدمتها الحفاظ على الوحدة. واعتبر بعض المحللين السياسيين اليمنيين الانتخابات اليمنية لعام 2006 حدثاً فريداً في العالم العربي, حيث أُجريت في أجواء ديمقراطيةِ في ظل رقابةٍ دولية وإقليمية مكثفة. في ذلك الوقت أعلنت الشبكة العربية لمراقبة الانتخابات عن تقريرها الأولي حول رصدها ومراقبتها للانتخابات الرئاسية وانتخاب المجالس المحلية في اليمن، وشاركت الشبكة ب (8) مراقبين دوليين من جنسيات عربية مختلفة بمساعدة 700 مراقب ومراقبة محليين من اليمن تم توزيعهم على كافة المحافظات اليمنية. وأعلنت في تقرير لها نشر في حينه إلى أن عملية الانتخاب تميزت بكونها قد تجاوزت عدداً من الثغرات والنواقص التي رافقت العمليات الانتخابية السابقة، كاستقرار الحالة الأمنية عموماً وعدم تسجيل حوادث إلا في حالات نادرة، مما أدى إلى سير عملية الانتخابات بسلاسة وشجع الناخبين على المشاركة. وقال التقرير ان الإقبال الكبير للناخبين، والتنافس الكبير بين القوائم والأحزاب المشاركة، كل ذلك أعطى للعملية بعداً إيجابياً وعزز من شرعيتها، وبما يضمن تمثيلاً أكثر عدالة لكل مكونات الشعب. بالإضافة إلى الالتزام بالجدول الزمني المحدد لافتتاح المراكز الانتخابية وإغلاقها وإجراء عملية العد والفرز. وكذلك توفير مستلزمات العملية الانتخابية من قبل “اللجنة العليا للانتخابات والاستفتاء” واستكمالها عند وجود نقص في بعض المراكز. وإفساح المجال لمندوبي الأحزاب السياسية والمرشحين والمراقبين الدوليين والمحليين للإشراف على سير العملية.. منظمات وجهات عديدة دولية وعربية شهدت بعظم الانتخابات ونزاهتها, وبكفاءة الإنسان. اليمني الذي عرف الشورى منذ الأزل.. ومارسها مجدداً في الانتخابات الرئاسية.