تبدو اليوم القنوات الفضائية أكثر ميلاً لعرض الصورة الخاطفة البراقة التي تنشئ واقعًا مصطنعًا بدل الواقع العيني، إنها تعلمنا استهلاك الصورة لا قراءتها يتناول الباحث الفرنسي (مارك أوجيه) في كتابه (حرب الأحلام) التقدم المتسارع لصناعة الصورة في عصر البث الفضائي، حتى أنه يطلق عليه (غزو الصور)، الذي أضحى يغطي الأرض كلها ولو بنسب ومقادير متباينة، فهو غزو يشبه نمطًا جديدًا من الخيال الذي يعصف بالحياة الاجتماعية ويصيبها بالعدوى، ويخترقها إلى حد أنه يجعلنا نشك فيها . وإن أهمية الصورة وتأثيرها ليس فقط في عنصر الحركة، ولكن تكمن قوة تأثيرها في كيفية اختيارها، ووضعها بعناية، وصياغتها صياغة مناسبة تولد المشاركة والإقناع لدى الشباب، تأكيدًا للفكرة القائلة إن الرؤية مصدقة Seeing is Believing، فالتأثير الذي تمارسه الصورة على الشباب تنجم منه نتيجتان:- الأولى: انجذاب الشباب المستمر وغير المنقطع تجاه المادة الإعلامية المعروضة، وهذا الانجذاب دليل لنجاح تلك المادة في احتكار انتباه الشباب وصرفه عن محيطه المباشر. فالتلفزيون يحمل لنا كمًا هائلاً من المعلومات والمعارف والقصص والإعلانات، ويدخل إلى بيوتنا ولذلك نضطر للخروج، لأن الحياة في التلفزيون تبدو جميلة، بينما هي في الواقع مختلفة وهذه هي الهوة التي يصنعها التلفزيون بين الواقع والوهم، فالشباب في التلفزيون يركز على الصورة وبذلك يقل الحوار، وفي كثير من الأحيان يقدم مفاهيم وتصورات اجتماعية غير واقعية مما خلق هوة بين الواقع والخيال، وكثير من الأفراد صنعوا عالمهم من التلفزيون أن الهاجس الأساسي في الحديث عن الصورة المرئية يصب في مقدرتها في إقصاء الواقع أو إبعاده عن ساحة الإدراك، فلا وجود إلا لما تظهره عيون الكاميرا أي لا يوجد إلا ما هو مرئي أو ما نريد أن نجعله مرئيًا عبر شاشة التلفزيون، الأحداث التي لم تصلها كاميرات القنوات الفضائية أو لا ترغب في أن تصلها هي أحداث مغيبة أو منسية، أو بالبساطة أنها غير موجودة بالنسبة للشباب هو غير موجود، وهذه إحدى إشكاليات الصورة المرئية والتي توظفها أنظمة ومؤسسات وقوى وبما يخدم أهدافها ومصالحها. وتشكل الصورة المرئية بعدًا نفسيًا كامنًا في لا شعور المتلقي من الشباب، باعتبارها تفصيلاً حياتيًا يوميًا، ولأنها تنحو بذائقتهم البصرية والحسية نحو فصام معيشي بينما تراه عيونهم ويقدم على أنه واقعي وما يعيشه الشباب كواقع حقيقي بعيد بهذا القدر أو ذاك عن الصورة الموجهة إليهم، ويحدث هذا بصفة خاصة في المجتمعات التي تعيش أوضاعًا اقتصادية واجتماعية وسياسية متأزمة. وهكذا فإن الشباب المتلقون لهذه الصورة والذين بالكاد يؤمّنون لقمة عيشهم ويعيشون ظروفًا صعبة سيشعرون بأن العالم في وادٍ وتفاصيل حياتهم في وادٍ، بالتأكيد من هؤلاء الشباب في البداية سينبهرون بهذه الصورة بل إنهم سيشعرون بالاستلاب إزاءها لكنهم سيدركون الحقيقة وسرعان ما سيكتشفون أن هذه الصورة المصطنعة لا تمثل لهم شيئًا حياتيًا وهذا شعور جذري سيجعل الشباب أسير حالة فصام تتشكل شيئًا فشيئًا في وعيهم . إن الصورة تراهن على البعد الأيقوني Iconic للواقع الذي يتحول من المجرد إلى المحسوس، ومن اللامعقول إلى المعقول، فتستدعي الموضوعات المجردة واللامعقولة لتحولها إلى علامات أيقونية، يتجلى فيها الواقع في صور خيالية تضفي عليها القوى الإبداعية الخلاقة للإنسان سمات سحرية، وهنا تكمن خطورة الصورة في تحويل الواقع إلى عالم من اللعب، يبهج العين ويفتنها ويخيل للمشاهد بأن هذا الواقع لم يسبق أن رآه، على الرغم من أنه عالم نثري مألوف وغارق في الرتابة اليومية. هذه الحقيقة تطرح إشكالية تتعلق بمصداقية الصورة في ضوء مستحدثات تكنولوجية الصورة التي تستطيع أن تشكك في خطاب الحقيقة التي تقدمها الصورة، وأن تخدع الشباب وتزيف الواقع أمام عينيه، وأمام الصورة التي يقدمها التلفزيون لم يعد كافيًا القول بأن ما هو غير واقعي وغير معقول يرادف الخداع البصري، بل صار يميل إلى محاكاة الواقع وتقليده إلى درجة الإدمان، وهكذا اختلط الواقع بالوهم، وتلاشت الحدود بينهما، وضاعت مصداقية الصورة، فلم تعد حاملة لخطاب الحقيقة، ولكنها ما زالت تحتفظ بمتخيلها العجائبي، وتنتج أحلامًا اصطناعية تجمع بين ذلك الثالوث (الواقعي والخيالي والرمزي) . والتكنولوجية الحديثة التي أفرزت الصورة الرقمية قد فتحت المجال أكثر للتلاعب بالصورة وتوظيفها في مجال التوظيف الإعلامي مقارنة بالصورة التماثلية، وذلك لأنه كما يقول الفيلسوف الفرنسي (سريجست دوبريس) بأن الصورة الرقمية قضت على الهامش الذي يفصل بين الصورة ونسخها، حيث لا توجد نسخة ولا أصل للصورة الرقمية لأنها هي الصورة والأصل في الوقت ذاته . الثانية: نجاح المادة الإعلامية المعروضة في شل ملكة التفكير والتساؤل، وفي وأد حاسة النقد لدى الشباب ودفعه إلى استقبال خطاب الصورة من دون تفحص ونقد، والهدف تمرير جملة من الأفكار والمواقف عن طريق الوجدان والعاطفة وليس العقل. يؤكد جان جاك روسو (إن قلة الرؤية تدفع إلى مزيد من التخيل)، وهكذا فإن اكتساح الصورة التلفزيونية لم يحد من التخيل فقط، بل أدى إلى تبسيط الواقع وتسطيحه، وهذا بفضل (فائض العاطفة hyper emotion) الذي نجم عن ما يلي: إن الصورة بحكم ملموسيتها تملك بعدًا عاطفيًا أكثر من اللسان الذي يعتبر معطى تجريديًا، هذا البعد يتضخم نتيجة تركيز القنوات الفضائية على الأحداث الدرامية والمأساوية، لهذا تعمل الصورة على توحيد التجربة الاجتماعية العملية أو الرمزية على أسس عاطفية أمام انكماش المتخيل . فالصورة هي عماد ما بات يطلق عليه (المجتمع الإعلامي)، وهي تقدم نفسها كمرجعية أولى وأخيرة، لا يقاس على سواها، بل إنها توهم الشباب أنها هي الواقع، والمذهل في تدفق الصور هو قدرتها الفائقة على تعطيل الحواس الأخرى، وتحفيز الغريزة والمتعة، لأن تلقيها لا يتطلب جهدًا أو تركيزًا، يقول عالم السياسة الفرنسي (هنري مدلان): (الصورة تمر وإذا لم نتشبث بها مرت بسرعة، وحرمتنا لذة فهم الصورة التي سبقتها، حرمتنا رفقة الزمن الصوري الذي يتقدم بسرعة فائقة غير آخذ بالاعتبار الزمن النفسي الذي يسمح بالتمهل والتفكير والنقد) . وعلى الرغم من أن الصورة تبدو محايدة أو تعدي المحايدة، إلا أنها في الحقيقة ليست كذلك، ذلك أن مفردات الصورة يجرى اختيارها بعناية فائقة وفي علاقتها بمجموعة الصور التي تبث في وقت محدد أو في إطار برنامج، أو مسلسل، أو إعلان، فإنها تقدم إيحاءً محددًا. أستاذ الإعلام العربي المشارك بجامعة صنعاء