رحلة الهروب عبر البحر من الصومال إلى اليمن تتكرر مأساتها التراجيدية يوماً بعد يوم، والإحصائيات لعدد الضحايا تبدو مخيفة؛ لكن المأساة تلاحق أيضاً من يصلون إلى اليابسة وما تتعرض له النساء على وجه الخصوص يظهر أنهن أكثر المتضررات من مغامرة الانتقال إلى الضفة الأخرى بحثاً عن الأمان.. تبدأ الرحلة المؤلمة للاجئين الصوماليين عبر البحر إلى اليمن من ميناء بصاصو عبر المحيط الهندي إلى خليج عدن في قوارب غير صالحة للنقل الآدمي، حيث يحشر أكثر من 120 نازحاً في قارب لا يتسع لأكثر من 40 شحصاً.. ويتم وضع النساء مع الرجال في أوضاع عمودية متراصة. تقول جميلة (25 عاماً): إن لدى المهربين رمحاً حديدياً مدبب الرأس ويقومون بإدخاله في أحشاء أية امرأة تحاول التذمر من الوضع أو رفض الأوامر، ولا أستطيع نسيان المشهد المأساوي لاغتصاب أختي أسماء (20 عاماً) من قبل اثنين من المهربين وسط ذهولنا وأمام أعيننا جميعاً، وعندما تذمرنا بالبكاء أدخلوا الرمح الحديدي في أحشائها ثم ألقوا بها في البحر!». وتضيف جميلة: «كنت مع أمي التي انهارت وأغمي عليها من هول المشهد، فأختي أسماء كانت قبل اغتصابها تشكو الجوع، فوجدت نفسها أمام وحوش بشرية أفقدتها عذريتها وحياتها أمام أعيننا جميعاً».. يدفع الصوماليون 50 دولاراً أمريكياً للمهربين عن كل شخص يرغب في الهرب، ويتعرضون وسط البحر لأخذ ما لديهم من المال إن وجد في رحلة تمتد أربعة أيام، خلال هذه الرحلة لا يجد الكثيرون منهم الطعام ولا يسمح لهم بأخذ أية حمولة إضافية. تقول جميلة إنها رأت بأم عينيها كيف «ألقي بعشرة أشخاص في البحر بعد أن شعر المهربون أن هناك ثقلاً على المركب دون أن يأبهوا وكأن هؤلاء الأشخاص مجرد نفايات آن الأوان للتخلص منها!». أثناء العبور في "رحلة الموت" كما يطلقون عليها، من غير المسموح للنازحين الصوماليين برفع أصواتهم أو حتى الاهتمام بنظافتهم الشخصية، تقول جميلة التي كانت تتحدث بحرقة: «إن الروائح المزعجة التي نتنفسها تصبح هينة أمام هول المشاهد العنيفة التي يتعرض لها اللاجئون نساء ورجالاً من ضرب وإهانة واغتصاب ومن ثم إلقاء في عرض البحر، وصراخ الرجال والنساء والأطفال يكسر عتمة وصمت الليل والخوف مما هو آت ويجعل الساعات تمر ببطء وكأنها جبال جاثمة على صدورنا». كانت جميلة تعمل مدرسة متطوعة لمادة اللغة العربية في مدينة جوهر على بعد 95 كيلومتراً شمال العاصمة الصومالية مقديشو، لكنها الآن خادمة في أحد المنازل بمدينة تعز براتب شهري يبلغ عشرة آلاف ريال يمني، أي ما يعادل خمسين دولاراً أمريكياً. تقول جميلة: «قبل الوصول إلى الساحل اليمني في بير علي بمحافظة شبوة يطلب المهربون من الجميع الاستعداد للقفز في الماء على مسافة بعيدة جداً من الساحل، وهنا تبدأ الكارثة الأخرى، حيث يغرق العديد منهم ويصبحون غذاء لأسماك القرش، فقد غرقت أمي مع الذين غرقوا، أما أنا فأنقذني أحد قوارب الصيد، كما أنقذت هذه القوارب آخرين بعد أن سمعوا صيحاتنا عند بزوغ الفجر». تلفتت جميلة كثيراً حولها بحثاً عن أمها حتى أغمي عليها وسقطت في النهاية بجسد متهالك، وعيون حمراء، وثياب مبللة ورأس مكشوف في قارب الصيد غير قادرة على تحمل الإرهاق. موت في البحر وتيه على اليابسة في مخيم اللاجئين الصوماليين في اليمن، يشكو الجميع غياب الخدمات الصحية والتعليمية وانتشار الأمراض، يقول المستشار حسين حاجي، نائب القنصل الصومالي في عدن: «إن اللاجئين بحاجة لاهتمام المجتمع الدولي، فالمرضى منهم لا يجدون فرصة للعلاج أو الرعاية والاهتمام، ما أدى إلى وفاة العديد منهم». لقد خلق انهيار الدولة في الصومال في مطلع تسعينيات القرن العشرين مأساة شعب يتعرض الآن للهلاك في البر والبحر، وتبدو المرأة الصومالية هي الخاسر الأكبر في نزيف الدم اليومي الذي يترك آثاره من المحيط الهندي وحتى خليج عدن. تروي قمر قصتها المؤلمة مع المهربين والدموع في أحداقها، هي امرأة صومالية لديها خمسة أبناء بينهم ثلاث إناث، تعرضت ابنتها البكر للاغتصاب على أيدي المهربين ثم ألقوا بها في البحر لتلتهمها أسماك القرش، تعاني قمر أزمة نفسية نتيجة ذلك، وقد راجعت عدداً من الأطباء بدعم من خيرين لكنها لم تنس تلك الطريقة الوحشية التي راحت ضحيتها ابنتها خديجة ذات الستة عشر ربيعاً؛ وهي فقدت اثنين من أولادها أيضاً في الصومال عند الرحيل، وتحاول البحث عنهم بمساعدة «اللجنة الدولية للصليب الأحمر».. تقول مندوبة الحماية في بعثة اللجنة الدولية للصليب الأحمر في اليمن كاسندرا فارتل: «إن الكثير من الصوماليين فقدوا أهاليهم في رحلتهم المضنية عبر البحر الأحمر، واللجنة الدولية تسعى جاهدة لإعادة الروابط العائلية للأسر عبر برنامجها «البحث عن المفقودين» وأعمال البحث الرامية إلى التعرف على أماكن وجودها وجمع شملهم مع أسرهم؛ لكن المهمة تبدو صعبة «فنحن نبحث عن إبرة في كومة قش؛ إذ يعتمد المهربون طرقاً متعددة للوصول إلى اليمن قادمين من ميناء بصاصو شمال شرق الصومال، وقبل الوصول يقوم المهربون بإلقاء النازحين الصوماليين على مسافة بعيدة من السواحل اليمنية؛ والنتيجة أن الكثيرين منهم يتعرضون للغرق فيما آخرون يصلون فاقدي الوعي بثياب مهترئة تماماً». يؤكد رئيس الجالية الصومالية في اليمن مادكوس دولدر: «أن النساء أكثر الضحايا المتضررات من عملية النزوح اليومي، والمنظمات المعنية مازالت بحاجة لبذل المزيد من الجهد لتقديم الرعاية والدعم للاجئين الصوماليين». كما يضيف مسؤول قسم البحث عن المفقودين في بعثة اللجنة الدولية للصليب الأحمر في اليمن، محمد حرسي: "إن إعادة الروابط بين أفراد الأسر المشتتة والبحث عن المفقودين حقق نتائج إيجابية؛ لكن الطريق لايزال طويلاً". حاجة لتدخل المجتمع الدولي في صنعاء وتحديداً في حي «الصافية» تتجمع المئات من الأسر في بيوت سكنية بدائية تفتقر لأبسط ضرورات الحياة؛ إذ تعيش كل أسرة في غرفة صغيرة تحتوي على مستلزمات المعيشة البسيطة، وكثيراً ما تعمل اللاجئات الصوماليات في اليمن كخادمات ومتسولات؛ وهو ما عرّض أطفال الكثيرات منهن للحرمان من الدراسة؛ بل إن كثيرات منهن يحتجزن أطفالهن في المنازل من الصباح وحتى عودتهن في المساء من العمل.. وفي هذا الوضع الصعب تمر على بعض الأطفال شهور دون أن يروا الشمس، في المقابل قامت أخريات باستئجار مكان متواضع لجمع العشرات من هؤلاء الأطفال بحيث تشرف على رعايتهم صوماليات مقابل أجر لا يتجاوز الخمسة دولارات للطفل الواحد.. وتشكو العديد من اللاجئات الصوماليات من تعامل المنظمات الإنسانية المعنية باللاجئين في اليمن، ويتهمنها بالتقصير. في المقابل يعيد مسؤول العلاقات الخارجية في المفوضية السامية للاجئين عبدالملك عبود ذلك إلى «شح الإمكانات» الذي حال دون قيام المفوضية بما هو مطلوب منها بشكل كامل.. وطبقاً لإحصائيات المفوضية فإن 38 قارباً وصلت خلال شهر اكتوبر من العام 2007م إلى اليمن وعلى متنها 3800 شخص، غرق منهم 38، فيما 134 مازالوا مفقودين.. وبحسب المفوضية لقي 1400 لاجئ صومالي حتفهم غرقاً في البحر خلال العام 2007م وفقد المئات. وفي شهر يناير من العام الحالي 2008م غرق في البحر ما يزيد على 200 لاجئ، فيما العشرات هم في عداد المفقودين، وآخر الإحصائيات تتحدث عن غرق 37 صومالياً بمحاذاة مدينة شبوة في 20 فبراير الماضي ومن بينهم 12 امرأة. يقول المستشار حسين حاجي: "إن الطريقة غير الإنسانية التي يتعامل بها المهربون مع اللاجئين النازحين الصوماليين تحتاج لتدخل المجتمع الدولي لإيقاف هذا العبث بالكرامة الإنسانية".. يعيش آلاف اللاجئين الصوماليين في مخيم تم اعداده في (خرز) لكنه يفتقر إلى الكثير من الخدمات وخاصة الصحية منها، ويتزاحم في المخيم ما يزيد على 8000 لاجئ يتخذونه في الغالب نقطة ترانزيت عند وصولهم قبل الانتقال إلى المدن اليمنية للعمل في غسل السيارات.. يشير علي عبده أواري، وزير التعاون الدولي والشئون الاجتماعية الصومالي في ولاية «بونت لاند» التي يخضع ميناء بصاصو لسيطرتها، ويعد أكبر منفذ للتهريب في الصومال: «إن الحد من عمليات التهريب يحتاج لدعم إقليمي ودولي».. وفي هذا الصدد تقول الحكومة اليمنية إنها لم تعد قادرة على توفير الخدمات للاجئين الصوماليين، وإنها تحتاج لمساندة المجتمع الدولي. وطبقاً لتصريحات نائب رئيس الوزراء لشئون الدفاع والأمن الدكتور رشاد العليمي، فإن عدد اللاجئي في اليمن تجاوز نصف المليون «وتترتب على ذلك أعباء مالية وصحية واجتماعية تتحملها اليمن جراء هذا النزوح الأفريقي». وفي لقاء مع الرئيس الصومالي عبدالله يوسف أحمد في العاصمة مقديشو، عبر عن شعوره «بالأسى والحزن جراء هذا الألم اليومي الذي يتعرض له الشعب الصومالي على يد مهربي البشر الذين حولوا البحر إلى جثث تطفو وأجساد تنهشها أسماك القرش». إنه الموت الصومالي في رحلة السفر الشاقة من بصاصو إلى خليج عدن، فهل يسمع العالم صرخاتهم: يا موت انتظر!.