شعرت أن العالم أصبح غريباً وأن كل أبواب الدنيا أغلقت أمام عينيها.. بكت بحرقة شديدة فهي لأول مرة تتخذ القرار ثم تبكي ففي كل مرة كانت تبكي فيها لم تكن مخيرة لكنها هي من قالت نعم هذه المرة.. أغزرت مدامعها بالنزول على خدودها فيما شاركتها بالبكاء بنات زوجها..لم يكن هناك من حل آخر معها فقد أخضعها القدر لفراق ابنتها التي أرسلتها إلى دار الوفاء لايواء ورعاية اليتيمات التابع لمؤسسة الرحمة للتنمية الإنسانية بعد خمس سنوات ترملت فيها واشتغلت بكل ماأوتيت من قوة حتى توفر لابنتيها وولدها الأكل والشرب ومصاريف المدرسة..كانت تنظر إلى ابنتها الصغيرة وتتذكر أختها فتجهش بالبكاء مرة أخرى ثم تسكت برهة وتتذكر بعد سكوتها القصير ابنها الآخر الذي أرسلته لدار الأيتام بنين وكأنها تحلم.. ثم تذهب بذاكرتها مرة أخرى إلى ابنتها وتتذكر عندما وقفوا للوداع وتعود للبكاء فهو الملاذ الوحيد الذي يلجأ إليه كل من شعر بغصة شديدة في حلقه. هكذا استقبلت الأم رمضان بدموع أحرقتها وأحرقت قلبها على فلذات أكبادها.. وعندما حان موعد السحور وجلس الجميع على المائدة.. وعندما مد الجميع يده إلى السفرة وقبل أن يتذوقوا الطعام..تذكرت ابنتها التي ستقضي أول رمضان من دونها.. وأذرفت دموعها مرة أخرى..فيما شاركتها بالبكاء بنات زوجها الجديد.. ووقف الزوج عاجزاً أمام دموع زوجته وبناته وحدثته نفسه أنه ربما أخطأ عندما شاطرها الرأي بإرسال ابنها وابنتها إلى الدور. لكنه عاد وقال لنفسه لكنني هنا لن أستطيع أن أوفر لهم كل احتياجاتهم.. هناك سيتعلمون وسيلقون الرعاية الكاملة. أشرقت الشمس والأم لم تنم بعد فكيف ياترى حال ابنتها وظلت محتارة أكانت صائبة في اتخاذ قرارها بإرسال أولادها إلى الدور.. أم أنها أخطأت..آه كم هو الندم صعب على اتخاذ قرار أصبح في زمن كان وكم هي الحيرة قاتلة.. وأخذت تتذكر الأيام القاسية التي عاشتها بعد وفاة زوجها وتذكرت يوم وفاته عندما قدم إليها وهو محمل على الأكتاف وقد فارق الحياة عندها سقطت الأرملة مغمي عليها وجلست ثلاثة أيام على سريرها لاحول لها ولا قوة فيما وقفت الطفلة الصغيرة التي لم يتجاوز عمرها الخامسة وهي تمسك بأخيها الأصغر وتنظر إلى أمها طريحة الفراش ثم تفكر بالمولود القادم الذي قد تيتم قبل أن يأتي إلى الحياة.. وأخذت تتذكر بعدها كيف عاشت بعد مماته أرملة قسا عليها كل من جاورها..قست عليها كل الوجوه التي كانت تنظر إليها بعين دنيئة ونفس مريضة في مجتمع لايرحم الأرملة وينظر إليها وكأنها مذنبة ومتهمة في أي عمل تقدم إليه وتبقى لا أنها وجدت المساعدة ولا أنهم تركوها لتساعد نفسها.. سحقاً لهذه النظرات القاسية ولتلك العادات القاتلة. ظلت الأرملة تكد وتتعب بالعمل فحاولت أن تجمع من الناس صدقة واشترت بها مجموعة من الغنم ومع مرور الأيام اشتغلت ببيع القات لكنها كانت تصحو في الصباح الباكر لتفاجأ بأن القات قد سرق وعندما تقرر عمل حارس للقات يكثر كلام أهل القرية بشأن الحارس الذي تم تعينه.. هكذا عاشت الأرملة تقاسي متاعب الحياة بمفردها حتى أعمام الأطفال لم يكونوا يأتون للمنزل قط..كانت تمر عليها أيام من غير أن تجد حتى بعض اللقيمات تسد بها جوعها وجوع أطفالها..والفتاة الصغيرة تصارع مع أمها قسوة البيئة فتصحو الفجر لتجهز الطعام بينما والدتها تبدأ عملها في بيع القات وبعد أن تنتهي من تجهيز الطعام تبدأ عملية جلب الماء وعندما تنتهي تعود إلى المنزل لتعتني بأخيها وأختها الرضيعة عجباً لهؤلاء الناس..لم يمدوا أيديهم لمساعدتنا ولم يتركونا لنساعد أنفسنا..عجباً لكل عم ترك أبناء أخيه المتوفى للدهر كي يتجرعوا آلامه ولم يحاول حتى أن يمد يداً ليمسح بها على رؤوسهم..عجباً لكل خال ترك أخته الأرملة تكد وتشقى ولم يساعدهم حتى بقوت يوم يسدون به جوعهم ويروون به عطشهم. كانت مكسورة الجناح تدعو الله في كل صلاة أن يحسن من حالها وحال أطفالها حتى جاءها النصيب وتزوجت برجل طلق زوجته ومعه منها ستة أطفال ثلاث بنات وثلاث بنين وقد رزقت بمولودة من زوجها الجديد لكن نصيبها أن تظل طوال حياتها تعيش في الفقر فقد انتقلت من فقر إلى فقر فزوجها الجديد فقير يعمل في المزرعة لكن نقوده لاتكفي لقوت يومه هو وأولاده ولايستطيع أن يوفر لأطفال زوجته احتياجاتهم ممادفعها إلى أن ترسل ابنتها وابنها للدور وبينما هي غارقة بتفكيرها جاء ابن زوجها الأكبر يهرول إليها ويخبرها أن موظفتين من الدار جاءوا لزيارتها ولاعطائها معلومات مفصلة عن الدار الذي تعيش فيه ابنتها وعندما قدم الموظفتان صدمتا بالمكان فالمنزل الذي تعيش فيه هذه الطفلة المكون من غرفة واحدة لاثاني لها يدل على مدى فقر الأسرة وتعبها أيعقل أن يعيش عشرة أفراد في غرفة واحدة لا أقول عشرة أفراد مجازاً بل هم عشرة دون زيادة أو نقصان يعيشون وينامون في غرفة واحدة وعندما جلس الموظفتان وبعد الترحيب الجميل الذي استقبلتهم الأم وبنات زوجها به بدأ الموظفتان الحديث عن الدار وعن السبب الذي جئنا من أجله وهو أن المؤسسة وقبل أن تقرر احتضان اليتيمة لابد لها من النزول الميداني ليروا الحالة هل تستحق الايواء وليتم عرض جميع الشروط على الأسرة وعن الخدمات التي يقدمها الدار لليتيمات وعن شروط الدار التي تعكس مدى حرص المؤسسة على البنت اليتيمة وتم عرض الصور التي التقطت لابنتها في الدار اندهشت الأم بجمال المكان وروعته وعندما انتهت الزيارة وبينما الموظفتان يشدان الرحال بالصعود إلى الباص طلبت الأم الحضور إلى الدار لرؤية ابنتها وعندما وصلت إلى الدار ارتمت الفتاة في حضن أمها وأخذت تقبلها وقرأت في عينيها علامات الفرح والاستقرار..شعرت الأم بأنها وضعت طفلتها بأيد أمينة وأن مسئوليتها تجاه ابنتها قد أدتها على أكمل وجه.. شكر الأمهات البديلات في الدار الأم على التربية النبيلة التي ربت بها الفتاة فالأدب والاحترام الذين تعامل بهما الآخرين أجبر الجميع على احترامها اضافة إلى ذكائها وسرعة بديهتها كل هذه الصفات وغيرها تدل على أن الأم التي ربت الطفلة هي أم مثالية رغم الحياة القاسية التي كانت تعيشها قالت المشرفة للأم تأكدي أن ابنتك في أياد أمينة الدار دارك وتفضلي لزيارته بأي وقت تشائين ونحن سنزوركم بين الفينة والأخرى وقررت أن ترسل أختها الصغرى إلى الدار بعد أيام.. تأقلمت الفتاة اليتيمة في الدار بسرعة شديدة..من يراها لايصدق أنها من الملتحقات الجدد وتقول لزميلاتها في الدار أنا لن أخرج من هذا المكان أبداً وعندما تسألها عن انطباعها في الدار تقول «حلى». عادت الأم إلى منزلها وهي مطمئنة كل الاطمئنان على ابنتها التي ابتسم لها الدهر أخيراً نامت بعد يومين لم تذق فيهما طعماً للنوم من شدة حزنها على ابنتها حمدت الله كثيراً على هذه النعمة التي أنعم الله بها على ابنتيها.