قبل أن يكبر أخي ويكره السحاب، ويتشرد مع كل فتيان الحارة في شوارع المدينة يسرقون من الدكاكين ويلاحقون الفتيات ويثيرون الصخب والمشاكل في كل الأرجاء، وقبل أن يأتي أبي بالجنود ليأخذوه ذلك العصر إلى المعسكر في الجنوب ، وقت كنا لا نزال (أصحاباً) نصعد إلى السطح ونستلقي سوياً جوار المدخنة وأيدينا معقودة تحت رؤوسنا نراقب السحاب.. كان لنا عادة أخرى وكان يهتم كثيراً بتعليمي إياها بأن ننزع أعواداً صفراء من الحشائش القليلة التي لا تنمو إلا على الحواف قرب الميازيب حيث المساحات الطينية التي نسيتها الأيام بين آخر حجارة وضعها عمال أبي الذي، قبل أن نأتي نحن، كما تقول أمي، كان لا يزال شاباً يبني لنا بيتاً. قبل أن يكبر ويكره السحاب ، كانت هي لا تزال تحبه وتحبني فتتراكم فوقنا هنا وهناك ونحن تحتها بصمت ننتظر القطرات الأولى من المطر لنرى أي المواضع من جسدينا تصيب. في تلك اللحظات فقط كان العصر يمر بهدوء ودخان تنور أمي يتصاعد أبيض مع رائحة الخبز.. غير أن تأملاتنا تلك ، كانت اكثر الأحيان ، تقطعها أصوات انفجارات مهولة مهرولة عبر كل الأفق، آتية دون مقدمات من جبهة الحرب في الجنوب. أما وقد كبر فجأة، فصرت أرى أمامي، كلما عاد إلى المنزل وقد ازداد كبراً، رجلاً زاد في كبره عني بروز عظمتي وجنتيه وتضخم صوته واحمرار عينيه .. بتُ في الفترة الأخيرة وعندما كنت أظل ساهراً في الظلام وحدي لافتح له الباب سراً بعد انصاف الليالي خوفاً من أبي.. أشم رائحة السجائر من كل ثيابه التي يبدلها لينام ونحن معاً في غرفتنا أعلى المنزل. وما أن ضربته أمي تلك المرة، حتى لاحظت أنه قد صار أطول منها ، وبدأ يفتل ويمط زغباً خفيفاً ظهر على صدغيه وقفز من الشباك الصغير في غرفة المخزن التي حبسته أمي فيها متوعدة إياه بأنها ستخبر أبي حال وصوله. وظل يعود خلسة فكنت أخبئ له الخبز وسيقان الدجاج التي يحبها، وأكثر الأحيان أشياء من مصروفي. لكني لم اكن قادراً، رغم كل ما كان بيننا قبل أيام من ودٍ وسحاب، على أن أصارحه بمدى غضب أمي لنقضه الصلح مع أبي تلك المرة حين هاجم وأصحابه الجدد جامع النساء مرة ثانية. ولأنه كان قد صار رجلاً وتركني لصغري وسحاباتي، تأكدت من أن أيام السطح والحشائش لن تعود. بل زادت مخاوفي من عاقبة عدم موافاتي إياه بالخبز والطعام وكذا النقود، فيأتي ليبحث عني عند السطح حيث يتركني دائماً وأنا مستلقٍ وفي فمي عشبتي أراقب السحاب كما كان يعلمني، فيجثم على صدري مثلما فعل بابن جارنا الابكم الذي ضربني، ويقبض بيسراه على عنقي وبيمناه يناولني كل ما لست أذكر إلا أنه كان شرراً متوالياً رأيته كالبرق بين كل ومضة من عينيه الحمراويتين وأخرى. وفي العصر الأخير الذي أتاه ، كنت قد خبأت بين أكوام الحطب ما يكفيه وأصحابه ليومين على الأقل، إلا أنه لم يدخل متسللاً ذلك اليوم كعادته أو مهادناً، بل لائذاً خائفاً كما كان يفعل أيام صعودنا إلى السطح كلما دخل في مطاردة مع أبي، وبدلاً من احتمائه بطرف ثوب أمي، جلس يفرك أصابعه على كيس الطحين خلفها وهي منشغلة ، يتحدثان بأمر كنت لا أزال صغيراً لأفهمه .. غير أن أمي كانت تلح بأن الذنب ذنبه وأنه هو من اضطر أبي لذلك. وبعد أن رحل الجنود به ذلك العصر وعاد أبي إلى دكانه ودخلت أمي من جديد مطبخها تعجن خبزها والدموع القليلة التي رأيتها تنساب برضى على خديها آخر مرة ، دلفتُ إلى حيث الحطب وحيث أخبئ الطعام والنقود، نثرتها بهدوء في الممر وصعدت الدرجات المظلمة ، ومن على حواف السطح قرب الميزاب انتزعت عود عشبة صفراء وضعته بين اسناني وارتميت جوار المدخنة دون معلم أو صاحب ، عاقداً تحت رأسي يديّ ودهشتي، اراقب السحاب وانتظر المطر الذي سقطت أول قطرة منه ذلك اليوم فأصابت خدي. خريف 2003م