في سبعينات القرن المنفرط حضرت الى الدنيا، كان عقد التغيير في اليمن، كانت همهمات العجائز تشي بامتعاضهن: لقد تغير الوادي وانفلتت الحال. وحينما استطاع رأسي حمل نظرتي الى أعلى راقبت سماء الوادي حيث تتربع كقطعة حلوى وجباله المقدودة بعناية. كانت تلك أثداء منبسطة لمساقط السيل، شخب غزير من اللبن المنهمر بجموح، هكذا كانت تتراءى لي لم تكن أثداء الجبل تحتجب بساتر بينما نساء واديي الحميم يتسربلن السواد وإن كن يطرزن سواد ملابسهن ببعض الزركشة، فأنى لهن زركشة عمرهن المسفوح بانتظار الغائب! الغياب كان قدرهن، والانتظار الممض كان الوسيلة القسرية لتزجية الحزن، وليزدردن اللحظات المهدورة في عمرهن العاطفي، الغائب في الغالب رجل سرقه المهجر، أباً أخاً زوجاً، أو وعداً طال انتظاره. كان عالم طفولتي نسوياً خالصاً يحضر الرجل فيه كاستيهام محفوف بمتعة المجهول والخوف منه. توارثت نساء العائلة حد الاعتياد اللامبالي انتظار رجالهن المهاجرين الى القرن الأفريقي وشرق آسيا وشبه القارة الهندية، ومن ثم أضيفت بلدان النفط العربية مهاجر جديدة. عجائز الوادي كن يؤكدن أن الوادي وناسه قد عصف بهم التغيير. وأتذكرني طفلة تلصق أذنها بالنافذة (المصكوكة) بعنف أصيخ السمع إلى أهازيج الشعارات الثورية التي تندد بالمنظومة التقليدية وعلى رأسها طبقة السادة التي انحدر منها. أتذكر برطمات أمي إثر غلقها المتوتر للنافذة، كان أحد رجال البروليتاريا المحتدمة كخطاب يصرخ بملحمة أكل اللحم النيء بعد أن عادت بهم شاحنات النقل (القلابي) كما يطلق عليها في الوادي، عادت بهم من إحدى الانتفاضات الشعبية التي كانت تعم البلاد وقتها، وبخاصة في وادي حضرموت معقل الفكر الرجعي كما كان يوصف في تدابير المد الثوري. كانت السبعينات عقد المتغيرات الاجتماعية. الطفلة التي كنتها لم تدرك أنه كان انعطافاً مغايراً حتى على مستوى الأسرة، وإلا لما احتلت رواية «موسم الهجرة الى الشمال» للروائي السوداني الطيب صالح أرفف والدتي تجاور أدوات زينتها، الرواية الأكثر جرأة بمقاييس ذلك الزمان الشخصي، بمحمولاتها وجرعاتها المكثفة من الجنس والنساء والصراع. وانفتح معها عالمي القرائي. كنت في السابعة لم أفقهها. وبمثابرة نحلة تبحث عن رحيق يومها، كانت مكتبة أجدادي ورداً أفتح بتلاته. ولا اكتفي نبشاً في زوايا دار أخوالي الفسيحة المتشامخة بحثاً عن ولو مزقة من كتاب. وفي ركن قصي محجوب اخترت بعناية صومعة لعوالمي التي كنت ألجها بشغف شاهق، منغمسة في سهوب الكتب. لم تكن تلك الصدفة المكنونة التي اخترت حلالها كيما أتصاعد في عوالم القراءة سوى غرفة المناحل، وقرب خلايا العسل كنت أتصادى والنحلات. يخلقن أقراصهن العسلية وأخلق أنا أقراص وعيي الذي سيصبح صورة عمري المقبل، أشواقي تطلعاتي الإنسانية كامرأة قاطعتها الظروف ومجتمع لا يعتني بأشواقها وتطلعاتها، بل يئدها بتدابيره الظالمة. في أحد الأيام لم تطق النحلات ظلي الثقيل عليهن - ربما- وعوالمي الضاجة اللامرئية، ولعل شعوراً بالمنافسة دهمهن، فتولت إحداهن لسعي بحقد شديد. وعلى اثر صرخاتي تداعت نساء العائلة الى مكمني الحصين. فضح سري، ولم تنفعن شفاعة والدتي لديهن، خبئت الكتب عني، ومرضت بالحنين إليها. أيامها كان والدي قد عاد لزيارة قصيرة من مهجره الطويل، ورأيت في عيونه التواطؤ، بعدها تخلل همس مؤامرة تحاك لتهييض عوالمي، وكانت مشروعاً لتزويجي يدار خفية ثم علناً. فز كياني الطفل. واختلجت مستنفرة كل قاموس التمرد، وعطفاً على هذا التواطؤ القاسي صدعت علاقتي بوالدي: الغائب الذي انتظرناه برفيف قلوبنا، كان مهجوساً - على منوال مجتمعه الذكوري - بذبح تطلعاتي قبل أن تشب عن الطوق، فكيف بي ونترات التمرد تنضح من مساماتي... غير أن أمي التي سبقتني الى عوالم الدهشة والقراءة والحلم وقادتني إليها كانت لي أقوى معين، وكانت ومازالت التحالف الأهم في عمري كله، وهكذا حدت بمصيري عن سهم اجتماعي كاد المجتمع الذكوري يصوبه نحوي. وفي انسلال كخلاص كان القدر يواعدني بفضاء جديد ينتظرني عدن... مدينة مفتوحة بعيون على الأفق، بحر تتجاور على شاطئه المتناقضات،عالم المدينة التي لا تحد مفاجآته لقادمة من الريف مثلي، منحتني ناصية ذاتي، كللت تطلعاتي بأدوات التمكين، توسّع عالم القراءة عندي بالمكتبات العامة ومكتبات الأصدقاء دونما رقيب، مقروناً بمجتمع منفتح، وتعليم مختلط يجاور فيه درجي درج زميلي، ما نزع رهاب الرجل داخلي، وعالج علاقات الذكورة والأنوثة التي كرسها مجتمع الوادي. نافحتني عدن حد التشيع لطموحاتي وتطلعاتي، وكانت فرصتي كيما أكون على قدم المساواة مع زملائي والذهاب في تجاوزهم والتغلب عليهم ولو في لعبة تنس. استخرج العذر لتطرفي فسنين التمييز السلبي ضدي كأنثى لا تغادر خواطري وتلغم هواجسي دافعة بي الى أقاصي الحضور المبتغى. في عدن أيضاً حضرت السياسة بوعيها التنظيمي ومزايداتها الحزبية والأجنحة المتصارعة للإخوة الأعداء يقتتلون على ضفاف تكتلات المصالح والمناطق، والتشنج الأيديولوجي،ودورات الدم تغذي شجرة الأخوين في ربوع ما كان يسمى جنوباً قبل الوحدة، واستمر الى بعد الوحدة، وكأنما دم الأخوة المسفوح بأيدي الإخوة قدر اليمنيين وتميمة بقاء الطغاة. راودتني التنظيمات الشبابية السياسية يومها الانخراط فيها، غير أن وعيي كان قد أنجز قناعته، قررت عدم الانخراط في تأطير سياسي. كنت ومازلت منفكة من تكلسات الأدلجة أياً كان دثارها، وفضلت مقعد مراقب يبدو محايداً. على حين غرة دهمتني الكتابة لم أؤثث حياتي لمتوالياتها، منفكة من وعود تقليدية وشوشتها نفسي جرتني الكتابة إلى عوالمها، أغوتني النشوة الخالصة حينما افرغ من نص أكتبه، تجليات المعاني محمولة على مفردات خاصتي. زفرات التعبير المحشورة داخلي وهي تنضو عن نفسها غلاف المسكوت. العناد المتصاعد بين دفتي النص لتاريخ المحظور الاجتماعي - واهمس لكم سراً - تبهجني انفراجة عيون قارئ لا يخفي دهشته حينما يقرأ لي، كنت أكتب وكأنما انتقم من تاريخ إقصائي وتهميشي كامرأة. أكتب وفي رأسي كل نساء المعمورة على امتداد التاريخ. أكتب بحزن رجعي لكل بنات جنسي، تصطخب معاناتهن داخلي، تحضرني جداتي الحكاءات المحزونات، تنفلق الكتابة عن ذوات تأبى التغييب. مع الانخراط والاستغراق في التجربة الكتابية، خف الهاجس السالف، لا أقول استرخى النزق الكتابي لدي، لأن الكتابة في ذاتها قرين النزق وصنوه، ولكنه خفف ربما نزوعاً الى تضاريس نص اقل نتوءاً وحدية وحدة... هل الكتابة فعل تغيير اجتماعي بيقينية؟ هي كذلك بالتأكيد. وإن لم تكن فعل تغيير مباشر فهي اندراج في تغيير عام يختضم به المجتمع. الكتابة تبتدر الأسئلة وتتوسل أجوبة، ولو بدت خجولة أحياناً. يقفز السؤال مني إلي قبلاً: هل شارك نصي في تغيير ولو يسير؟ لا أرى تجربتي ناجزة كما أصبو، لذا لن أتنطع بحكم يهزم طموحي، غير أنني استشهد بعقد من الكاتبات والسرديات على الأخص انتظم في العقد التسعيني وما بعده، شكل فارقة وتمييزاً إيجابياً رافق متغيرات الواقع الاجتماعي والسياسي والاقتصادي اليمني والعربي والدولي التي طفت في السنوات التسعينية وإلى الآن. وكان حضورهن النصي القوي دوال لمقابلات التغيير في المجتمع، ومعبراً عنه ومبشراً به أحياناً، فنبيلة الزبير وأروى عبده عثمان، ومها ناجي صلاح، ونادية الكوكباني، ومنى باشراحيل، وريا احمد، ونورة زيلع، وهند هيثم، وغيرهن أخريات لسن أقل إجادة وتميزاً، تألقن وما زلن في المشهد الإبداعي والثقافي اليمني حضوراً نوعياً ومتنوعاً وتنويعاً على ثيمات المتغير الواقعي ودفعاً بحضور نسوي مائز يواكبه، نشود لحضور فاعل للمرأة في كل مفاصل الفعل الاجتماعي، يفتت ما ترسب من «تغريبة» التهميش الطويل، وإن كان المدى مفازة لا يستهان بشراكها، غير أن للتجلي اجتراح المعجزات.