جماعة الإخوان الوجه الحقيقي للفوضى والتطرف.. مقاولو خراب وتشييد مقابر    مناقشة تنفيذ مشروع شبكة الصرف الصحي في مدينة البيضاء    الصين تنشر قائمة ب20دولة قصفتها أمريكا خلال 80 عاما    صنعاء .. اعلان نتيجة اختبارات الشهادة الأساسية    في ذكرى رحيل هشام باشراحيل.. حين قاوم القلم عسكرة الحياة المدنية    الارصاد يتوقع هطول امطار رعدية على مناطق واسعة من المرتفعات    سامسونغ Samsung تصنع أجهزة جوالات للتجسس الإسرائيلي لمنطقة الشرق الأوسط    تصريحات بلا أثر.. ومواطن يئن تحت وطأة الجوع والانهيار    شبوة أبتليت بجار السوء.. مأرب موطن القتلة والمجرمين وقاطعي الطرق    من يومياتي في أمريكا .. هنا أموت كل يوم    اليوم نتائج الشهادة الاساسية وهذه طريقة الحصول على النتيجة    اليوفي يستعرض.. ويتصدر بخماسية العين    كوستاريكا تقلب الطاولة على الدومينيكان    ترامب يستضيف قائد الجيش الباكستاني في اجتماع غير مسبوق بالبيت الأبيض    كيف تواجه الأمة الإسلامية واقعها اليوم (2)    انهيار متواصل للريال اليمني.. أسعار الصرف تواصل التدهور في عدن    شكر الله سعيكم.. نريد حكومة كفاءات    إصابة 3 مواطنين إثر 4 صواعق رعدية بوصاب السافل    الهلال السعودي يتعادل مع ريال مدريد في كأس العالم للأندية    إيران تبدأ بإطلاق الصواريخ الثقيلة    الخطوط الجوية اليمنية... شريان وطن لا يحتمل الخلاف    مباراة تاريخية للهلال أمام ريال مدريد    مليشيا الحوثي تختطف عريساً قبل يوم واحد من زفافه    الحوثي والرهان الخاسر    اشتداد حدة التوتر بين مسلحين قبليين ومليشيا الحوثي في ذمار    الصبر مختبر العظمة    مواطنون يشكون منع النقاط الامنية ادخال الغاز إلى غرب محافظة الضالع    اعتقال صحفي في محافظة حضرموت    الفريق السامعي: ما يحدث ل"إيران" ليس النهاية ومن لم يستيقظ اليوم سيتفاجأ بالسقوط    إغلاق مطار "بن غوريون" يدفع الصهاينة للمغادرة برا .. هربا من الموت!    كندة: «ابن النصابة» موجّه.. وعمرو أكبر الداعمين    مجلس الوزراء يشدد على مواجهة تدهور العملة للتخفيف من معاناة المواطنين    عدن بين الذاكرة والنسيان.. نداء من قلب الموروث    حجة .. إتلاف مواد غذائية منتهية الصلاحية في مديرية المحابشة    لأول مرة في تاريخه.. الريال اليمني ينهار مجددًا ويكسر حاجز 700 أمام الريال السعودي    اجتماع بصنعاء يناقش جوانب التحضير والتهيئة الإعلامية لمؤتمر الرسول الأعظم    لملس يزور الفنان المسرحي "قاسم عمر" ويُوجه بتحمل تكاليف علاجه    رسميا.. برشلونة يضم خوان جارسيا حتى 2031    الرهوي يناقش التحضيرات الجارية للمؤتمر الدولي الثالث للرسول الأعظم    مدارج الحب    أزمة خانقة بالغاز المنزلي في عدن    لاعبو الأهلي تعرضوا للضرب والشتم من قبل ميسي وزملائه    شرب الشاي بعد الطعام يهدد صحتك!    شرطة صنعاء تحيل 721 قضية للنيابة    بين صنعاء وعدن .. على طريق "بين الجبلين" والتفاؤل الذي اغتالته نقطة أمنية    ترامب يؤكد ان مكان خامنئي معروف ويستبعد استهدافه وإسرائيل تحذّر من انه قد يواجه مصير صدام حسين    الإمارات توضح موقفها من الحرب بين إيران وإسرائيل وتحذر من خطوات "غير محسوبة العواقب"    الصحة العالمية: اليمن الثانية إقليميا والخامسة عالميا في الإصابة بالكوليرا    من يومياتي في أمريكا .. بوح..!    حوادث السير تحصد حياة 33 شخصاً خلال النصف الأول من يونيو الجاري    استعدادًا لكأس الخليج.. الإعلان عن القائمة الأولية لمعسكر منتخب الشباب تحت 20 عاما    على خلفية أزمة اختلاط المياه.. إقالة نائب مدير مؤسسة المياه والصرف الصحي بعدن    طبيب يفند خرافات شائعة عن ورم البروستاتا الحميد    بالأدلة التجريبية.. إثبات وجود ذكاء جماعي لدى النمل!    صنعاء .. التربية والتعليم تعمم على المدارس الاهلية بشأن الرسوم الدراسية وعقود المعلمين وقيمة الكتب    القائم بأعمال رئيس المجلس الانتقالي يتفقد مستوى الانضباط الوظيفي في هيئات المجلس بعد إجازة عيد الأضحى    وزير الصحة يترأس اجتماعا موسعا ويقر حزمة إجراءات لاحتواء الوضع الوبائ    اغتيال الشخصية!    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



العُرس
نشر في الجمهورية يوم 28 - 12 - 2008

القاعة واسعة ،وكوشة العروس مزينة بما أمكن من ورود وستائر بيضاء ووردية ، النساء جالسات حلقات حول الطاولات هنا وهناك ، وسلومة جالسة على كرسيها ، ظهرها مستند بكامله على المسند ، ورأسها لا بالمرفوع ولا بالمطأطئ ، يداها على حجرها بالخواتم الذهبية والفضية والأساور والخرز ، وقدماها ثابتتان على الأرض بخلاخيلهما ، وعلى فمها شبه ابتسامة، كأن فيها من الرضا والمباركة شيئا ، أما نظرتها فثابتة ، ممتدة على مدى أفقي ، لا تكاد ترمش ، في رنو مسترخٍ على العروس.
وطوال فترة الحفل التي امتدت لأكثر من ساعتين لم تتحرك سلومة من مكانها ، ولم تحرك طرفاً من أطرافها ، ولم تتغير ابتسامتها المطمئنة وجلستها الواثقة ، كأنها قد خلقت لذلك الكرسي ، وطوال حياتها لم تعش في غير هذا المكان كأن سلومة قد وجدت هناك منذ الأزل فوجودها متصل وسيتصل أبدا.
لم تحظَ سلومة في حياتها – التي حظيت بعشرة رجال على الأقل – بعرس كهذا ،لم تجلس قط على كوشة مهفهفة الستائر ولم يخطر ببال أحد من عرسانها أن يجلس بجانبها ويمسك يدها أمام الناس ، في كل مرة كانت تزف مغطاة من قمة رأسها إلى أخمص قدميها بشال أخضر ثقيل ، موشى بخيوط ذهبية أو غير موشى – حسب غنى العريس – ومضغوطة الجسد بين أجساد النساء الضاجة بالصخب والغناء ، تزف رأسا من بيتها إلى بيته ، حيث تُفرَش زاوية ما بسجادة صغيرة ، تقعد عليها لا تكاد تتنفس من ثقل شالها الأخضر ، وحولها النساء حلقات على الأرض أمام صواني الحلوى ودلال القهوة المرة ، وما إن يظهر موكب الرجل حتى تتلاشى مواكب النساء ، ينفض السامر ، فلا يرى غيره نظراتها القاطرة دلالاً وعاصفة الأساور والقلائد والحروز والخلاخيل الذهبية والفضية والبلاستيكية الملونة التي لا تنوء سلومة أبدا بحملها.
هذه الليلة ، على هذا الكرسي الذي صنع لأجلها ، تتجلى سلومة في ألق بهائها ، عيناها الناعستان – طبعا أو تطبعا – المكحولتان بالكحل البلدي الأسود، مستكينتان على العروس ، والعكفة تبرز حجم ضفائرها من تحت غطاء الرأس المنقوش ، والبدلة الذهبية على شكل وردة جزء لا يتجزأ من أنفها ، وهذه الثقة ..آه هذه الثقة ، لا ريب أن دجاجاتها التسع نائمات الآن ، فقد قامت فجرا بتنظيف قنهن وجمع البيض ، وأفرغت ما تبقى من صحن الرز أمامهن ظهرا قبل أن تبدأ بالاستعداد للعرس وترتقي حافلة المدعوات الذاهبة رأسا إلى قاعة الاحتفالات في جمعية المرأة بمسقط.
ابتسامتها الخفيفة لا تروم تزحزحا عن فمها،ولا تكشف – إلا بقدر طفيف- عن تجاعيد قليلة تزين ذلك الفم ، لا ..لا من سخرية في هذه الابتسامة بل رضا ومباركة ، لقد كسبت عدة ريالات من بيعها البيض الطازج ، وهذه الدشداشة الهدية الوحيدة التي تلقتها من ابنتها التي تزورها مرة كل عيد ، أبوها هو الرابع ، لاحق سلومة – متدلها بمشيتها- أشهرا في الضواحي والأفلاج والسكك الضيقة حتى رضيت به ، لأجلها هجر بلده وزوجته الأولى وأقام معها .
بدأ توزيع الطعام ، وضعت الصحون والسكاكين والشوك على الطاولات ، وبدأت أطباق المشاوي والكيك والمعجنات تدور على سلومة التي لم تعرها أدنى التفاتة ، ظلت بجلستها الثابتة ، ونظرتها المسترخية على العروس الممسكة بباقة ورد طبيعية ، وحين عزمت عليها المضيفات ، بدأت تأكل بالشوكة كأنما أكلت بها طوال حياتها ، واختارت شراب شاني الذي صبغ شفتيها بالحمرة ، وكلما ارتفعت يدها أو هبطت رنَّت الأساور وأصدر العاضد المخفي تحت كم الدشداشة صوته المموسق ذا التاريخ المشهود في خلب الألباب.
حين نتغامز عليها ضاحكين: هيه ياسلومة, وأبو البنت ,لماذا تركك هو الآخر؟,تفرد ظهرها، تضع يدها على وسطها, وترمش بعينيها, فنهتف قبلها :حسد! ,فتبتسم بجذل, وتضرب فخذها مؤكدة على كلامنا: إيه والله حسد, كل يوم أجد الشعر والعظام والخيوط السوداء مدفونة أمام بيتي , ماذا يحسدون مني؟..أنا مريضة ووحيدة.., فنبادر إلى القول إنه ليس هناك من هو أكثر صحة منها , فقد تخطت الستين , وماتزال مشيتها الساحرة تثير تصفيرا من هنا وصيحة من هناك..فيشرق وجه سلومة بالبهجة فرحا بمزاعمنا ، وتؤكد أنها ماتزال تتلقى عروضا للزواج , ترفضها, فكلهم عجائز لايصلحون لشيء غير التذمر..
تمسح سلومة فمها بمنديل ورقي, تبدأ النساء حولها بتسوية ملابسهن وزينتهن, تخرج المرايا الصغيرة من الحقائب اللامعة ،تمرر الفراشي الدقيقة على الحواجب, يُعاد صبغ الشفاه , تُكثَّف طبقات البودرة , تمسد بعض الشعور المنسابة بخفة ،ولا تملك سلومة- المضمخة الجبين بماء الزعفران - أي حقيبة يد, ولم تكن بحاجة إليها قط, ولاتلتفت إليهن, بل إلى العروس التي لم تتحرك من أمام الكاميرا.
انسابت النساء في حلقات للرقص, تبدأ كل حلقة بمجموعة صغيرة تكبر تلقائيا مع كلمات الغناء المختلطة ببعض الكلمات السواحيلية, وسلومة لاتفهم هذه اللغة على الرغم من أن أحد أزواجها كان يجيدها, ولكن زواجهما لم يدم أكثر من أشهر, يحلو لها أحيانا- في بعض جلسات النساء ضحى- أن تقلده: تستلقي فجأة على ظهرها, تضع رجلا على رجل, وتتكلم بصوت خشن محاكية لهجته تماما: لا والله لم أرتح مع امرأة أكثر منك يا سلومة.. أنتِ نعمة..أنت عطية.. أين أنتِ من زمان؟.. آه.. خذي المندوس.. خذي الحمارة..خذي النخلات.. أين كنتِ ياامرأة؟.. ثم تعتدل جالسة وتضحك: وبعد أن وضعت الولد ذهب, وذهبت النخلات والحمارة.. حسد.. كلما جاء البيت ولم يجدني, قالت الحاسدات: ذهبت مع عشاقها.. كذب..يحسدنني.. علام؟..أنا مريضة ووحيدة.., وتبتسم غامزة بعينيها, فنبادر إلى القول :أنتِ بألف صحة وعافية.. ولستِ وحيدة فقد خرج ولدكِ من السجن.. سيتزوج .. وتشاهدين أولاده.., هل يخطر ببالها الآن تحت هذه الأضواء الملونة الراقصة ووقع الكلمات المغناة صور أحفادها المرتقبين؟ أتفكر فيمن سيشبهون: ولدها الوسيم كأبيه أم أمهم التي ستكون هندية على الأرجح اختصارا للتكاليف؟ ليس بوسعها إقامة حفل زفاف كهذا لولدها, ولا حتى حفل تقليدي, سيتزوج بهدوء وسترى أولاده.. أما ولدها الآخر فلا حلّت عليه الرحمة, لم تره منذ سنوات ,ذهب يوم ذهب أبوه- السابع الذي ابتنى بها في سنة المحل- ولم يسأل.
انسحبت النساء من حلقات الرقص وتهالكن على الكراسي, تململت العروس قليلا, وحدقت في الباب, خفتت أصوات الغناء وبدأت بعض المدعوات بالانسحاب, وظلت سلومة مستندة براحة على الكرسي ومبتسمة بطمأنينة لا تشوبها شائبة, وحين أسرت لها جارتها إن الحافلة ستتحرك عائدة إلى البلد , نهضت أخيرا باستقامة كأن آلام الديسك لم تعذبها قط ، مشت صاعدة إلى الكوشة, وضعت يدها على رأس العروس التي طأطأت قليلا خوفا على تسريحة شعرها , تمتمت سلومة بالفاتحة , ثم سارت - بمشيتها تلك التي جعلتها عروسا عشر مرات- وسط القاعة المزدانة, وخرجت إلى الحافلة.
قاصة من عمان


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.