لم تكن ليلى قد أنهت مهماتها المنزلية اليومية التي تقطعها إرباً في محاولات مكوكية لإنجازها على الوجه الأكمل حين جلست منى تنتظرها بلهفة لتضع لها خطة اليوم.. فمنى لا تستطيع التحرك خطوة واحدة دون تخطيط مسبق من ليلى.. أقنعت نفسها مؤقتاً أنها تحبها ربما لأنها تشبهها بعض الشيء.. لم تحاول أن تسأل نفسها في أي وقت من الأوقات لماذا هي مضطرة لانتظار أوامر وتوجيهات ليلى.. فقط تسمع وتطبق وتنفذ بالحرف ما يملى عليها.. بيد أن ليلى هي التى شغلها الأمر وتساءلت مراراً: لماذا لاتبذل منى أية محاولة للتحرر منها ونفض استسلامها اللا نهائي وغير المشروط لها.. هل هي بالفعل راضية أم أنها تظهر غير ما تبطن؟ انحصرت مشكلة ليلى الأساسية في أنها لم تستطع النفاذ الكامل إلى داخل منى لتطمئن إلى طريقة تحريكها لها وتعرف ردة فعلها الحقيقية تجاه الأمر.. لم تكن قاسية ولا صارمة بالمعنى المفهوم لكن انشغالها الدائم والضاغط أضفى عليها مظاهر الحدة دون أن تشعر أو تقصد.. أما منى فقد تركز همها في إرضاء ليلى بغض النظر عن أي شىء.. سألت نفسها مراراً: هل أحبها حقيقة؟ لم تأتها إجابة أكيدة.. فليلى لم تعطها أية فرصة اقتراب حقيقي منها.. كانت متقلبة المزاج والمشاعر.. تجلس إليها لتعد لها خطة العمل اليومي منفرجة الأسارير وما أن يحدث مايقطع عليها حبل أفكارها حتى تنقلب إلى أخرى غضوب ناقمة نافذة الصبر تكاد تعصف بالغرفة بما فيها.. وفي لحظة واحدة تقلب كل الموازين وتغير كل التوجيهات دون أن تعطي أحداً فرصة حوار أو مساحة تفاهم أو اعتراض.. فيتراكم الألم والحزن في نفس منى من غير أن تسمح لنفسها بالإفصاح.. بيد أن اليوم كان أصعب ما مر بالمرأتين على حد سواء.. فقد انفعلت ليلى انفعالاً مدوياً بمجرد أن اختلت بمنى في نهاية اليوم.. لم تكن ثورتها عادية.. بل انفجرت كوابل وسلسلة من القنابل الحارقة.. الشيء الذي أثار حفيظة صاحبتها وقلقها على مصيرها وعلى استمراريتهما معاً.. لم تفعل منى بحق - من وجهة نظرها - أي شيء يثير كل تلك الزوبعة التي اختتمتها ليلى وهي في قمة العصبية والغضب بمفاجأة ليست في الحسبان حين أخبرتها أنها لم تعد قادرة على تحمل مسؤوليتها وأن عليها أن تتحرك دون أن تنتظرها لأنها مطحونة بين مسؤوليات عملها وبيتها وأبنائها.. ولم يعد لديها وقت لأي أحد إضافي بعد الآن.. وعلى منى أن تبحث عن آخر يعتني بأمرها إذ لم يعد لها مكان وسط دوامات ليلى.. انفجرت منى بالبكاء.. ثم صرخت: من أتى بي إلى هنا؟؟ ألست أنت؟؟ من الذى عودني الاعتماد عليه.. وزين لي الحلم حتى رأيته واقعاً.. أالآن لا تريديننى؟؟ .. لا.. أنت التي بحاجة إليّ.. لا أنا.. وقفت ليلى مشدوهة.. فاغرة فاها.. لم تستطع الرد..اضطربت أمامها صورة منى الطيعة التي كبرت على يديها وعينها ولم تجرؤ في أي وقت من أوقات حياتهما معاً أن تنطق حرفاً بدون إذنها، سألت نفسها: هل بالفعل تمتلك هذا القدر من المشاعر الدفاقة والغضب العارم.. والقدرة على المواجهة؟ بادرتها: لماذا لم تعلني عن نفسك طيلة الوقت إذن؟؟ لماذا تركتينى أتحكم فيك وأنت تستطيعين التصرف في أمورك وإدارة حياتك..؟ ردت منى: أنا الملومة إذن؟ تمنيت أن أكون متنفساً لمشاعرك وأحلامك المكبوتة..بيد أني صدمت فيك.. صدمت بكل ماتحمله الكلمة من معنى حين وجدتك على استعداد حقيقيّ للبيع!! لا.. ليس من حقك أن تبيعيني وتلقي بي إلى ظلمة المجهول.. كما جئت بي إلى هنا وأنا بعد جاهلة لا أدري شيئاً عن الدنيا فعليك إكمال مسيرتى.. إن كان الجميع ذوي أهمية بالنسبة لك فأنا الساعة الأهم.. وأنا التي سأوجهك لا أنت.. فأنا تلميذتك.. ابتسمت ليلى رغم صراخ منى وغضبها.. كانت تشعر بالسعادة وهي ترى منى السلبية المستسلمة تخلع سلبيتها وتتكلم وتناقش وتصيح وتتخذ قراراتها.. إنها إذن حقيقة لا خيال.. لأول مرة تركت ليلى نفسها تماماًً.. استسلمت لأفكارها..وأسلمت منى دفة الأمور لتضع خططها بنفسها دون أن تقاطعها أو تعدل مساراتها.. فضلت أن تتبادل الدور معها لتكتشفها وتسبر أغوارها الغامضة.. أخذت تستمع بشغف لرفيقتها وهي تسرد مشاعرها وانفعالاتها وأحلامها وآمالها بل وحتى إحباطاتها وفشلها.. شعرت أنها تراها وتجلس معها لأول مرة.. تتفاعل وتنفعل من دون حواجز ولا أسوار..أخذهما الحوار لساعات وساعات لم تفق فيها إلا وهي تكتب كلمة: النهاية.. وصوت زوجها يأتيها من الغرفة المجاورة: ليلى.. كفاك كتابة.. بالله عليك أريد فنجاناً من الشاي فرأسي يؤلمني.. ردت: حاضر.. حالاً يكون جاهزاً..