في ليلة رمضانية كنت قد انتهيت تقريباً من معاينة جميع مرضاي لتلك الليلة والساعة تقترب من منتصف الليل،ولم يكن باقياً لدي سوى نتائج المختبر لمريضين أو ثلاثة كنت في انتظار فراغ أخصائي المختبر منها حتى أتمكن من تحرير الوصفات الطبية ومغادرة العيادة، وأنا أتحرق شوقاً للعودة إلى منزلي، حيث يمكنني قضاء عدة ساعات من الاستمتاع بمضغ القات والقراءة كما هي عادتي في أكثر الليالي الرمضانية. في لحظات الانتظار تلك، دخل الممرض إلى مكتبي لإعلامي بأن شخصاً قد وصل فجأة إلى العيادة لمعاينة زوجته قادماً من قرية بعيدة، وهو مصمم على أن أراه الليلة ولا يستطيع الانتظار حتى مساء اليوم التالي، لعنت في نفسي الممرض والمريضة وزوجها،وذكرت نفسي للمرة الألف،أن من بعض منغصات مهنتنا التي ليس علينا سوى احتمالها وقبولها،أن أي طبيب لا يستطيع أبداً تحديد عدد مرضاه، ولا المدة اللازمة لمعاينة كل منهم. ولا يقدر في معظم الأحيان أن يرفض معاينة مريض ظهر أمامه فجأة، بعد أن يكون قد فرغ من كل قائمة المرضى لديه، بل إن عليه في بعض الأحيان أن يعود أدراجه إلى مكتبه، إذا قابله المريض على السلم أثناء نزوله، أو عند بوابة العمارة أثناء خروجه. وهكذا وافقت متبرماً على رؤية هذه المريضة،وطلبت من الممرض سرعة إدخالها داعياً إلى الله بيني وبين نفسي أن تكون حالة بسيطة لا تتطلب سوى دقائق قليلة من وقتي، وغير محتاجة إلى أية إجراءات تشخيصية تتطلب مني الانتظار وقتاً أطول، ومتمنياً أن أفرغ منها في الدقائق القليلة الباقية لي في انتظار نتائج المختبر لآخر مريضين لدي. دخل الرجل إلى مكتبي وامرأته تسير وراءه بخطوة أو خطوتين كالعادة، ورددت على تحيته باقتضاب طالباً منهما الجلوس في الكرسيين أمام مكتبي، وذلك ما قاما به بهدوء. كان الرجل شخصاً بسيطاً في مظهره مثل الآلاف من الفلاحين في منطقته، وملابسه غير مهندمة مثل الكثيرين غيره،ولا يدل مظهره على عمره، لكنني قدرت أنه في حدود الأربعين عاماً، أما امرأته فكانت مغطاة الجسم والوجه بشكل كامل بواسطة الشرشف الأسود المعروف، والذي قد أصبح لونه باهتاً ومبقعاً من طول ارتدائه. وعادة ما كانت القرويات حينئذ لا يمتلكن سوى شرشف واحد،لا يلبسنه إلا خلال السفرات خارج حدود القرية، أما داخل القرى فلم تكن القرويات يتحجبن، ولا يحتجن إلى الشراشف ، وكانت أغلبية النساء سافرات يعملن في بيوتهن وحقولهن من طلعة الصباح إلى مغيب الشمس. بدأ الرجل بإطرائي بكلمات بسيطة ويقول انه عقد أمله بعد الله علي،وأن أحد معارفه قد أوصاه بالقدوم إلي،وأنني شخص طيب وقادر على مد يد المساعدة له، وأنه جاء إلي برجاء عظيم،ويأمل ألا أخيب ظنونه. ولما أحسست أنه لم يدخل في صميم الموضوع، قاطعته بحدة وطلبت منه أن يشرح لي ما الذي تشكو منه زوجته وأين مكان الألم، ولكن الرجل عاد إلى نفس الحديث السابق بكلمات أخرى، ومرة أخرى قاطعته بحدة أشد من الأولى، ووجهت الأسئلة إلى زوجته ولكنها لم تحر جواباً، ولم تظهر حتى حركة من تحت الشرشف يدل على أنها قد سمعتني، أو حتى مهتمة بما يجري بيني وبين زوجها من حديث. وعلى الرغم من أن ضيقي بالأمر قد بدأ يتصاعد، فقد قررت اختصار الطريق وطلبت من المرأة أن ترافقني لتستلقي على سرير الكشف، وأن ترفع الحجاب عن وجهها وترخي من ملابسها حتى أتمكن من الكشف عليها. وفاجأني الرجل بقوله عندئذ:”هذا هو الطريق الصحيح، فأنت طبيب، وسوف تكتشف كل شيء بنفسك عندما تقوم بمعاينتها”. أدهشني الأمر قليلاً حين سمعت الرجل يؤيد قيامي بالكشف على زوجته بدون أن أعرف ما تشكو منه وهو أمر غير معتاد، لأن غالبية المرضى يريدون أن يسهبوا في شرح شكاواهم وتعداد أعراضهم،وتكرار الشكوى من نفس الأعراض، والمبالغة في تصوير شدة الآلام التي يعانون منها، وكثيراً ما أضطر إلى مقاطعتهم وإيقافهم عن السرد ودفعهم إلى سرير الكشف دفعاً، قد يكون غليظاً في بعض الأحيان. لكن تأييده لي في قطع الحديث ودفع امرأته إلى سرير الكشف، قد أسعدني لأنني ظننت أن ذلك سوف يقلل من المدة اللازمة للمعاينة، ولن يؤخرني عن مغادرة العيادة التي قد أصبحت بمشاعري شديد الاستعجال لها، ومتلهفاً عليها. كانت المرأة في مثل عمر زوجها تقريباً، ووجهها قد لوحته الشمس، وبه بعض التجعيدات، وأقرب إلى الدمامة،وكفاها خشنتان ومليئتان بالشقوق الصغيرة الناتجة عن أعمالها في الحقول والمراعي والمنزل، كانت حاملاً في الشهر التاسع، وقمت بإجراءات الكشف المعتادة، وتأكدت من أنها صحيحة الجسم، ولا يبدو عليها أية علة ظاهرة، وكان الجنين طبيعياً من جميع نواحيه، وقدرت أنها على وشك الوضع خلال أسبوع أو اثنين على الأكثر، وأخذت أضغط على بعض مناطق البطن والصدر والخاصرتين، وأنا أسألها إن كانت تشعر بأي ألم في أي مكان، وكانت تجيب بهزات نفي صغيرة منرأسها دون أن تصدر أي صوت، ودون أن تنظر إليّ مباشرة، وكأن وجودي لا يعنيها في قليل أو كثير. استدرت إلى الرجل وقلت له أن امرأته في حالة ممتازة، وأن الحمل طبيعي وأنها ستلد قريباً بطريقة طبيعية، ولكنني سوف أكتب لها بعض الفيتامينات والمقويات الضرورية، وكنت في داخل نفسي مبتهجاً لأن مهمتي قد انتهت في وقت أقصر حتى مما قدرت، وأدركت أني سوف أغادر العيادة في موعدي المرتقب تماماً، وسوف أتمتع ببقية الليلة مثلما قدرت. ولكنني فوجئت بالرجل يدير وجهه ويبدي اعتراضاً على ما قلته له، قائلاً:”لقد فحصت المرأة يا دكتور...وأدركت كل شيء..وأنا أملي فيك كبير لكي تساعدني فلا تردني خائباً...أرجوك”. وعاد ضيقي إلي من الرجل بسرعة، وأشد مما كان، وأعدت له رأيي السابق بصوت أعلى وبنبرة عالية حادة، تظهر مشاعر الغضب التي بدأت تطفو على السطح،وقلت له أن هذا هو ما تحتاجه زوجته ولا شيء آخر. ولكن الرجل عاد يتململ ويعيد الكلام، مؤكداً في آخره أن هذا ليس ما جاء من أجله،وأنه رجل فقير ولم يكن ليجشم نفسه عناء السفر والغرامة، إذا كان ما سيناله آخر الأمر ليس سوى فيتامينات ومقويات. سألته بحدة وغضب:”وما الذي تريده إذاً؟ ما الذي جئت من قريتك إلى هنا تسعى للحصول عليه؟”قال بنبرة هادئة ومستسلمة، وقد نكس رأسه حتى أصبح قريباً من صدره،وموجهاً نظره نحو أرض الغرفة:”أنت طبيب حكيم وذو خبرة وسمعتك طيبة وأنت تعلم بكل شيء...وقد قمت بفحص المرأة بنفسك..وأنت أخبر بكل شيء..وتقدر أن تساعدني...وأملي فيك كبير”. قلت في نفسي أن هذه الليلة لن تنتهي على خير، وأن الرجل يبذل ما في وسعه لتعطيلي وتضييع وقتي، وبدأت أفقد السيطرة على مشاعري،وأخذ غضبي وحنقي عليه يتزايد، فخاطبته بصوت عال:”اسمع يارجل...وفكر جيداً فيما تقول،أنا أؤكد لك أن امرأتك بخير، وأنت تقول أنني طبيب وأعرف كل شيء وأفهم كل الأمور، دعني أقل لك أنك مخطئ!!....نعم، أنا طبيب، ولكنني لا أعلم بكل شيء، أنا لا أعرف إلا الأمور التي يخبرني بها المريض،...وأنا لست منجماً ولا أعلم الغيب..إذا كنت تريد أن تقول لي أي شيء فقله الآن من فضلك وبوضوح...لا تضيع وقتي في اللف والدوران والكلام الفارغ”. تردد الرجل قليلاً قبل أن يقول بصوت أشد انكساراً وصل به إلى حد المذلة والضراعة: “يا دكتور..أنا جئت إليك لكي تصف لنا الدواء الذي يستطيع أن يخلصنا من هذا الجنين الذي في بطن امرأتي...فنحن لا نريده”فصحت بنبرة غاضبة:”ولِمَ تريد أن تتخلص من الجنين؟وكم لديك من الأبناء؟”. فقال بلا مبالاة:”تسعة” فرددت بسخرية شديدة:”وماذا سيضيرك هذا الطفل العاشر؟دعها تلد بالسلامة وبعدها سنجد حلاً دائماً لك لمنع الحمل!”. عاد يقول بصوت أعلى هذه المرة وقد رفع رأسه ونظر إلي في عيني مباشرة وهو يقول بلهفة وتذلل”لا..لا..يا دكتور...أرجو أن تعمل كل جهدك بإعطائنا العلاج اللازم للتخلص من هذا الجنين..وفي أسرع وقت ممكن..أرجوك خالص الرجاء”. فنظرت إليه متحدياً، وقلت بنبرة قاسية وغاضبة، وكأني أصفعه بالكلمات صفعاً:”أسمع يا رجل ..هذا جنين في الشهر التاسع، وإذا ولدت امرأتك الآن أو غداً،فستجد أمامك طفلاً كامل النمو ذو شخصية مستقلة، ولن يقدر أحد على التخلص منه إلا بإلقائه من حالق، أو دفنه تحت الأرض..هل تفهم ما أقول؟” أجاب بسرعة وعجلة:”لا..لا..يا دكتور..أنا لا أريد أن اقتله...كل ما أريده كما قلت لك دواء يؤدي إلي ذوبانه، وزواله من بطنها بطريقة طبيعية، من غير أن يلاحظ أحد شيئاً”. وكانت عجلتي ولهفتي الشديدة على سرعة مغادرة العيادة تعطل تفكيري، وتعيق تفهمي للتلميحات الواضحة في حديثه وفي أسلوبه في التعبير وفي تردده وإشاراته والتعبيرات المرتسمة على وجهه، التي تصرح بحقائق الموقف بأكثر مما يمكن أن تقوله الكلمات، ولكنني لم أستطع الانتباه إليها بسبب ما طغى على تفكيري من التشوش، ومنع ذهني من ملاحظة كل تلك التلميحات والإشارات الموحية،بسبب الاستعجال واللهفة على سرعة مغادرة العيادة. قلت له وقد أحسست أن غضبي يوشك على الانفجار، ولكن بساطة الرجل وربما سذاجته، وما يبدو عليه من الطيبة والوداعة، ترغمني على أن أكظم غيظي:”هيا يا رجل اين عقلك؟أنت تبدو رجلاً طيباً..ولكن يبدو لي أنك بلا عقل...هل تتصور أن هناك دواءً يصفه لك طبيب وأن هذا الدواء يستطيع أن يذيب ويزيل طفلاً كامل النمو يتنفس وينبض قلبه ويصيح ويصرخ ويقوم بكل الوظائف التي تقوم بها أنت وأنا ويجب أن تفهم أن هذا أمر مستحيل ولا يوجد شيء مثل هذا الدواء السحري وإذا كان أحد قد أخبرك بذلك فهو كذاب.. عد إلى رشدك الآن واتبع النصيحة التي قلتها لك، وبعد الوضع سوف أجد لك الحل الأنسب لمنع الحمل، وأعدك بذلك. لكنه أجاب بعناد وإصرار : (لا.. لا.. يادكتور.. أنا أرجوك أن تخلصنا من هذا الجنين.. وبأي طريقة تريد.. وأنت طبيب قدير.. وأخبر بكل شيء. كان عقلي لايزال مغلقاً، وتفكيري معطلا، فاندفعت مشاعري بطوفان من الغيظ والغضب والتحدي أخذ يفور بداخلي وينفجر مثل بركان سالت حممه المتقدة الحمراء، وتدفقت علي وعليه وعلى امرأته، وانتشرت في جميع أرجاء مكتبي على هيئة كلمات أو صرخات حادة غاضبة متحدية : “ماهذا الذي تقوله يارجل.. عد إلى رشدك وإلى عقلك.. هذه المرأة هي زوجتك كما تقول، هل هذا صحيح ؟ فأجاب بنبرة موافقة من رأسه دون كلمة، بينما اندفعت الصرخات من فمي هادرة : “إذاً قل لي بربك، لماذا تريد التخلص من الطفل الذي في بطنها؟... هل هو زنوة ؟! تعمدت استخدام كلمة “زنوة” الدارجة، وتجنبت استخدام لفظ أقل قسوة مثل طفل غير شرعي أو غيرها من الكلمات الفصحى مثل ابن زنا أو ابن حرام، وربما كان هدفي عندئذ التخلص من الموقف باستخدام مثل هذه الكلمة المهينة والمستفزة حتى أعيده إلى رشده، وإلى طريق التفكير الصواب في أسرع وقت، وحتى لا أطيل المقابلة أكثر مما صارت إليه، وأنتهي مما تصورته غباءً وبلادةً لا حد لهما. لكنني فوجئت بالرجل يجيبني بكل هدوء ورصانة وقد استعاد رباطة جأشه : “نعم يا دكتور.. هذا الطفل الذي في بطن امرأتي هو كما قلت زنوة! أحسست بأن كلماته تلك كانت مثل مطرقة هائلة نزلت على رأسي بكل شدة حتى كادت تفقدني صوابي، وشعرت أنني أتضاءل في مقعدي، وأنني على وشك الإغماء من مشاعر الدهشة والذهول التي غمرتني مصحوبة بشعور غامض يشبه الخدر والتنميل ممتداً في موجة بطيئة من رأسي إلى أخمص قدمي. ولم أدرك ساعتها كيف بدا مظهري للرجل، وما الذي قدره عن حالتي ومشاعري، ولكني لا أزال حتى اليوم أكن له كل مشاعر التقدير والاحترام، لأنه فيما يبدو، أدرك مايعتمل في نفسي من المشاعر والانفعالات التي أذهلتني المفاجأة عن استيعابها وإدراكها، ناهيك عن التعبير عنها فمضى يشرح لي الأمر باستفاضة وهدوء، متيحاً لي الفرصة والوقت الضروري لكي أتمكن من استعادة السيطرة على انفعالاتي ومشاعري وتملك رباطة جأشي من جديد. وأخذ يشرح الأمر بهدوء وروية قائلاً :” مثلما قلت لك يا دكتور.. هذه المرأة زوجتي وابنة عمي، ولدينا تسعة من الأبناء والبنات.. وقد تزوج ابني الأكبر ولديه طفل الآن، وكذلك فإن اثنتين من بناتي قد تزوجتا في القرية من شابين طيبين .. وأنا أحب زوجتي، ولم أر منها خلال مايقارب 25 عاماً من زواجنا سوى كل خير.. هي التي تقوم بفلاحة الأرض وزراعتها، وجني المحصول، وترعى الأغنام، وتعتني بالبقرة وبكل شئون المنزل. وأنا كنت أساعد في العمل كبناء حجر وطين في القرى المجاورة لكي أساعد على توفير احتياجات الأبناء.. ولقد عشنا حياة هائلة بالرغم من كل هذه المتاعب والشقاء والعمل والجهد الذي نتعاون فيه من أجل حياتنا وأبنائنا.. ولكن سبل العيش والعمل قد ضاقت علي خلال الأعوام الأخيرة، ورأيت أن أسافر إلى السعودية للعمل هناك، وتوفير فرصة أفضل لحياة زوجتي وأبنائي، وقد قمت فعلاً بذلك وعانيت وقاسيت في الغربة كثيراً، ولكني صممت على الصبر حتى أحقق ما أصبو إليه وما سافرت من أجله.. ومنذ شهر وصلني خطاب منها كتبته إلي بواسطة أحد أبناء عمومتي ألحت فيه على عودتي بأسرع وقت ممكن، واستحلفتني بكل غالٍ ونفيس وبحياة أبنائنا أن أعود إلى البلاد فور استلامي الرسالة، وإذا لم أفعل ذلك فإنها سوف تقتل نفسها، أو حتى قد تندفع إلى قتل الأبناء الصغار حتى لا تترك وراءها في هذه الدنيا شيئاً يذكر بها. واسترسل الرجل في رواية قصته، بينما كنت أجاهد في استجماع ملكاتي الذهنية وسيطرتي على مشاعري، قائلاً : “بالطبع أنا لم أفهم شيئاً من الرسالة ولكنني بادرت إلى السفر على الفور, ووصلت البلاد قبل يومين، وأدركت فوراً مدى حجم المشكلة التي وقعنا فيها، وهي بدورها قد سلمت أمرها إلى الله، وإلي، وهي على استعداد لتنفيذ أي شيء آمرها به، بل إنها خلال اليومين السابقين لم تتوقف عن التوسل إلي كي أقتلها، أو أساعدها على الانتحار، لكنني أعرف هذه المرأة ومدى عفتها وشرفها وإخلاصها ومدى حبها لي ولأولادها ولبيتها، وأصبحت مقتنعاً أن ماحدث كان أمراً مقدراً، قضى به الله علينا، ولا راد لقضائه.. وفي جميع الأحوال فأنا أريد المحافظة على سمعتي وسمعتها، وكذلك سمعة أبنائنا وبناتنا وخاصة المتزوجون منهم، ولذلك فإن أفضل الوسائل لذلك وأقلها ضرراً هي التخلص من هذا الجنين بحيث لا يبدو أي أثر على وجوده.. وهذا ما دفعنا للتوجه إليك راجين منك تقديم يد العون والمساعدة ولك الأجر والثواب عندالله. ساد الغرفة صمت عميق بعد أن أنهى الرجل مرافعته، وخلال ذلك كان غضبي وانفعالي الشديد قد تحول إلى شعور بالخجل الشديد من نفسي ومن سلوكي وتصرفاتي معه، ومن مدى الفظاظة التي عاملته بها خلال الدقائق السابقة. وبدأ ينمو في نفسي شعور بالإكبار والتقدير والاحترام نحو ذلك الرجل الضئيل الجالس أمامي، والذي كنت منذ قليل أراه شخصاً جاهلاً، لا يقدر على التمييز بين الأمور، ويفكر بطريقة غريبة ويطلب من طبيبه طلبات مستحيلة. وأدركت عندئذ مدى ما يتمتع به هذا الرجل البسيط من الحكمة والتفوق الأخلاقي، وبعد النظر، والقدرة على الصفح والغفران، واتخاذ أصعب القرارات في حياة الإنسان محافظاً على جميع مظاهر الرحمة والنبل الإنساني والصفات الأخلاقية الراقية التي ترفع الإنسان من مرحلة البهيمية إلى مرحلة الإنسانية الحقة. لم أدر كم من الثواني أو الدقائق مرت علي وأنا واضع رأسي بين كفي مرتفقاً بساعدي على المنضدة أمامي، ولكنني أتذكر أنني تحركت أخيراً، وسحبت مقعداً صغيراً، وجلست إلى جانبه أتحدث إليه بخليط من الكلام يشمل التقدير الخاص لموقفه والاحترام لشخصه، وتأييده فيما اتخذه من قرار صواب، ومحاولاً أن أقلل من وقع كلامي السابق عليه ببعض كلمات الاعتذار. وكنت خلال ذلك أربت بيدي على كفه أو كتفه، لإظهار تعاطفي معه. ولكني لاحظت أن الرجل غير مهتم بشيء مما أقول، فهو يحاول أن يتبين من وراء الكلمات، ماهو موقفي الأخير من طلبه، ولا يهمه إن كنت قد غضبت، أو أسأت القول، أو التصرف، فذلك فيما يبدو، لم يكن لديه أمراً ذا بال. فلما أدركت ما يجول بخاطره قلت له مباشرة أنني سوف أساعده ولكن ليس على الطريقة التي يريدها بدواء يذيب الجنين ويزيله من الوجود. وأومضت عيناه بلمحة أمل سريعة، سرعان ما عاد إليها الغشيان، وعادت الجهامة إلى وجهه، ولكنني لم آبه بذلك، وشرحت له أن هناك جمعية خيرية تهتم بهذه الأمور وأنني سوف أقوم ببعض الاتصالات في اليوم التالي، وإذا نجح مسعاي، فسوف يأتي مندوب هذه الجمعية ويأخذها إلى مقرها، وكان عندئذ في الحديدة.. وسوف تقضي زوجته بقية الوقت حتى تحين الولادة، ثم عليه بعد ذلك أن يأخذ امرأته، ويصحبها عائداً إلى قريته، وهم سوف يهتمون بالمولود، وفي العادة يسلمونه إلى بعض الأسر المحرومة من الإنجاب للقيام بتبنيه، وليس عليه أن يشغل نفسه بشيء بعد ذلك. وأخبرته أنه ليس عليه أن يخبر أحداً في الجمعية باسمه ولا اسم زوجته ولا قريته وأن كل شيء سيظل في طي الكتمان. انكب الرجل على يدي محاولاً تقبيلهما، ولكنني عانقته ورجوته العودة في اليوم التالي، حيث سأكون قد تدبرت الأمر، وغادر وهو يردد كلمات الشكر والدعاء التي لم أكن قادراً على سماع شيء منها. وفي الليلة التالية جاء الرجل وزوجته، وأبلغني الممرض بأنه قد أبقاهما في غرفة الانتظار.. وبعد حوالي ساعة حضر إلى مكتبي مندوب الجمعية الخيرية التي وافقت على مساعدة هذه الأسرة. وكنت أنوي استدعاء الرجل وامرأته إلى مكتبي كي أقدمه إلى مندوب الجمعية، وأطمئنه وأودعه، وربما كنت كذلك أنوي الاعتذار إليه عن فظاظتي في الليلة السابقة بكلمات صريحة وواضحة. وبالفعل استدعيت الممرض ولكني وجدت نفسي أطلب منه، بدون تفكير مسبق، أن يقدم مندوب الجمعية إلى الرجل وامرأته الجالسين في غرفة الانتظار، وأن يطلب منهما أن يرافقا مندوب الجمعية إلى حيث يقودهما. لم أدرك ساعتها لم تصرفت على هذا النحو ولم أقابل الرجل، ولم أودعه حتى بكلمة، وأنني مهما كانت إساءتي إليه، فإنني قد قدمت له حلاً معقولاً ومقبولاً للورطة العظيمة التي وقع فيها. ولكنني أدركت سر تصرفي ذلك بعد أيام.. لقد كنت خجلاً من نفسي، ومن سوء سلوكي معه في الليلة السابقة، ومن مدى الفظاظة والتهور التي أبديتها نحوه، ولم أكن بعد قد استجمعت في نفسي الشجاعة والجرأة على مواجهته مرة أخرى، وأنني لا أزال أشعر بالتضاؤل أمام رجل في مثل قامته الأخلاقية العالية وحكمته الفطرية النابعة من الضمير الإنساني النبيل.