اختتام البرنامج التدريبي لبناء قدرات الكوادر الشبابية في الحكومة    بريطانيا تخصص 139 مليون جنيه استرليني لتمويل المساعدات الإنسانية في اليمن مميز    الصين: بعد 76 عاما من النكبة لا يزال ظلم شعب فلسطين يتفاقم    استعدادا لمواجهة البحرين.. المنتخب الوطني الأول يبدأ معسكره الداخلي في سيئون    صيد ثمين بقبضة القوات الأمنية في تعز.. وإفشال مخطط إيراني خطير    بائعات "اللحوح" والمخبوزات في الشارع.. كسرن نظرة العيب لمجابهة تداعيات الفقر والجوع مميز    وداعاً للروتين.. مرحباً بالراحة: بطاقة ذكية تُسهل معاملات موظفي وزارة العدل!    ياراعيات الغنم ..في زمن الانتر نت و بالخير!.    يوفنتوس مصمم على التعاقد مع ريكاردو كالافيوري    ريال مدريد يحتفل بلقب الدوري الإسباني بخماسية في مرمى ديبورتيفو ألافيس    وزارة الحج والعمرة السعودية توفر 15 دليلاً توعوياً ب 16 لغة لتسهيل رحلة الحجاج    العليمي يصل المنامة للمشاركة في القمة العربية    الاتحاد الأوربي يعلن تطور عسكري جديد في البحر الأحمر: العمليات تزداد قوة    استقرار اسعار الذهب مع ترقب بيانات التضخم الأميركية    كلوب يسخر من واقعة المشادة مع صلاح    بمشاركة أهلي صنعاء.. تحديد موعد بطولة الأندية الخليجية    وزيرا المياه والصحة يبحثان مع البنك الدولي تمويل إضافي ب50 مليون دولار لمشروع رأس المال البشري مميز    نص المعاهدة الدولية المقترحة لحظر الاستخدام السياسي للأديان مميز    نيمار يتصدر معدل صناعة الفرص في الدوري السعودي رغم غيابه! (فيديو)    صحة غزة: ارتفاع حصيلة الشهداء إلى 35 ألفا و233 منذ 7 أكتوبر    الخطر الحقيقي على الجنوب وقضيته يكمن في معاشيق    هيو جيو كيم تتوج بلقب الفردي وكانغ تظفر بكأس الفرق في سلسلة فرق أرامكو للجولف    ولي العهد السعودي يصدر أمرا بتعيين "الشيهانة بنت صالح العزاز" في هذا المنصب بعد إعفائها من أمانة مجلس الوزراء    تسجيل مئات الحالات يومياً بالكوليرا وتوقعات أممية بإصابة ربع مليون يمني    دعوة مهمة للشرعية ستغري ''رأس المال الوطني'' لمغادرة صنعاء إلى عدن وتقلب الطاولة على الحوثيين    هل الشاعرُ شاعرٌ دائما؟ وهل غيرُ الشاعرِ شاعر أحيانا؟    لماذا منعت مسرحيات الكاتب المصري الشرقاوي "الحسين ثائرآ"    «البلسم»تختتم حملتها الطبية في اليمن وتنجح في إجراء 251 عملية قلب مفتوح وقسطرة تداخلية للكبار والأطفال    وصول شحنة وقود لكهرباء عدن.. وتقليص ساعات الانطفاء    قطع الطريق المؤدي إلى ''يافع''.. ومناشدات بتدخل عاجل    عار على الجنوب وقيادته ما يمارسه الوغد رشاد كلفوت العليمي    قصص مدهشة وخواطر عجيبة تسر الخاطر وتسعد الناظر    الرئيس الزُبيدي يقرر إعادة تشكيل تنفيذية انتقالي شبوة    وداعاً للمعاصي! خطوات سهلة وبسيطة تُقربك من الله.    ثنائية هالاند تُسحق ليفربول وتضع سيتي على عرش الدوري الإنجليزي!    عدن تنتفض ضد انقطاع الكهرباء... وموتى الحر يزدادون    صراع على الحياة: النائب احمد حاشد يواجه الحوثيين في معركة من أجل الحرية    شاهد:الحوثيون يرقصون على أنقاض دمت: جريمةٌ لا تُغتفر    "امتحانات تحت سيف الحرمان": أهالي المخا يطالبون بتوفير الكهرباء لطلابهم    في الذكرى ال 76 للنكبة.. اتحاد نضال العمال الفلسطيني يجدد دعوته للوحدة الوطنية وانهاء الانقسام مميز    وفاة امرأة وطفلها غرقًا في أحد البرك المائية في تعز    الذهب يرتفع قبل بيانات التضخم الأمريكية    سنتكوم تعلن تدمير طائرتين مسيرتين وصاروخ مضاد للسفن فوق البحر الأحمر مميز    افتتاح مسجد السيدة زينب يعيد للقاهرة مكانتها التاريخية    بن عيدان يمنع تدمير أنبوب نفط شبوة وخصخصة قطاع s4 النفطي    وصمة عار في جبين كل مسئول.. اخراج المرضى من أسرتهم إلى ساحات مستشفى الصداقة    أسرارٌ خفية وراء آية الكرسي قبل النوم تُذهلك!    إنجاز يمني تاريخي لطفلة يمنية    ما معنى الانفصال:    البوم    الامم المتحدة: 30 ألف حالة كوليرا في اليمن وتوقعات ان تصل الى ربع مليون بحلول سبتمبر مميز    في افتتاح مسجد السيدة زينب.. السيسي: أهل بيت الرسول وجدوا الأمن والأمان بمصر(صور)    احذر.. هذه التغيرات في قدميك تدل على مشاكل بالكبد    هل تعاني من الهم والكرب؟ إليك مفتاح الفرج في صلاةٍ مُهملة بالليل!    دموع "صنعاء القديمة"    اشتراكي المضاربة يعقد اجتماعه الدوري    هل استخدام الجوال يُضعف النظر؟.. استشاري سعودي يجيب    هناك في العرب هشام بن عمرو !    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



التليفون السياّر
المرضى الذين علموني
نشر في الجمهورية يوم 27 - 06 - 2010

يتطلب الاهتمام بالمريض تركيزاً ذهنياً من الطبيب من أجل الاستماع لقصته، وإظهار التفهم لمشاعره، واستكشاف أعراضه الهامة، وإجراء الفحص الحكمي في أجواء هادئة لملاحظة العلامات الظاهرة عليه، والتفكير بطريقة منظمة لتحليل الموجودات والربط بينها، للوصول إلى التشخيص الصحيح، وتوضيح هذه الأمور للمريض وشرحها له، بما يناسب فهمه وتفكيره، بهدف إقامة علاقة وطيدة بينهما تكون أساساً لتحقيق الشفاء.
ولا يمكن أن يتم ذلك إلا إذا كان ذهن الطبيب صافياً، وفكره وعقله موجهاً نحو المريض لا يشغله عن ذلك شيء، ولا يمنعه من التركيز والاهتمام طارئ يقطع عليه تفكيره، ولا صخب أو ضوضاء تشغل حواسه، وتصرف أنظاره عن المريض أمامه.
ولذلك فقد تعودت، منذ بواكير أعمالي العيادية، على عدم الرد على التليفون إلا بعد أن يتم تحويل المكالمة من مكتب الاستقبال، في الضرورات القصوى وعادة للرد على مكالمات الزملاء الأطباء.
كما أنني لا أقوم بالاتصال تليفونياً بأحد خلال وجود المريض لدي، وإن فعلت ذلك في بعض الأحوال فأنا أقوم بذلك بعد خروج المريض، وبعد الطلب من الممرضة تأجيل دخول المريض التالي، حتى أتفرغ عدة دقائق للاتصال التليفوني.
وحتى لا يقاطعني أحد بينما أقوم بمعاينة المريض، فإن الممرضة لا تدخل إلى مكتبي أثناء وجود أي مريض لدي إلا في الأحوال الضرورية جداً والتي قد اعتادت على معرفتها ولم تعد بحاجة إلى سؤالي أو انتظار توجيهاتي.
ولم يكن لدي مصدر للمقاطعات المزعجة سوى بعض المرافقين المزعجين الذين يحضرون مع المريض، والذين يقاطعون المريض أو يقاطعونني بعد كل جملة في محاولاتهم للتوضيح، التي يعتقدون أنها ضرورية لمساعدة كل من المريض والطبيب.
وكذلك فإن الأطفال الصغار الذين يحضرون مع أمهاتهم ويملأون الغرفة بالصراخ الذي يخرق الآذان ويشتت الأفكار ويدفعني إلى حافة التوتر العصبي والتوقف عن أي جهود أخرى، والانتهاء من معاينة المريض بتسرع واقتضاب حتى اتخلص من ذلك الجو المسموم.
أما الأطفال الأكبر قليلاً قبل سن المدرسة فإنهم مصدر للإزعاج غير المحتمل حيث يبدأون في استكشاف الغرفة، والقفز فوق الكراسي والمناضد، وجر الكرسي ذي العجلات ومحاولة الجلوس عليه وتحويله إلى دراجة، أما عندما يقتربون من طاولة أدوات الكشف، ويبدأون بتناول السماعة أو جهاز الضغط أو غيرها من الأدوات، فإن القلق والتوتر وتشتيت الذهن والفكر يتجاوز كل حدود المعقول، خصوصاً إذا طلبت من أحد المرافقين الإمساك بالطفل حتى أتمكن من التركيز على المعاينة، وأجده يسحبه إلى الخلف قليلاً ثم يطلقه، ليتجه بعبثه اللاعب نحو مكتبي أو جهاز الكمبيوتر أو أي جهة أخرى من الغرفة.
واعتدت على هذه الأمور من الإزعاجات والمقاطعات القليلة خلال معظم فترات عملي الطبي، حتى ظهر خلال الحقبة الأخيرة ذلك الاختراع العظيم المدهش وهو “التليفون السيار” أو “المحمول” وانتشر بين جميع فئات الناس في المدن والقرى بشكل ليس له مثيل من بين جميع الاختراعات المدهشة التي شملت كل مجالات الحياة منذ منتصف القرن العشرين وحتى اليوم.
وعلى الرغم من إعجابي الشديد بالتليفون السيار وتقديري العظيم لفوائده، وللنقلة الهائلة التي أضفاها على حياة الناس وعلى تواصلهم وعلى حياتهم، فإنني حتى اليوم على الأقل لم اضطر إلى استخدام التليفون السيار على المستوى الشخصي، وهو شيء أحاول أن اتفرد فيه، وتساعدني عليه كثير من الأمور الخاصة التي تقلل من حاجتي إليه، أو تؤخرها على أقل تقدير.
ولقد تعرضت خلال هذه الفترة إلى مئات من المواقف المحرجة الشديدة التي يطلب مني بعض المرضى أو المرافقين رقم التليفون السيار الخاص بي، وعندما أجيب بأنني لا امتلك واحداً منها، فإن البعض يندهش بشدة، كيف يمكن لطبيب مثلي ألا امتلك التليفون السيار، بينما يشعر بعضهم بالخذلان وخيبة الأمل، لأنني لا امنحهم الثقة أو الاهتمام، أو حق الاتصال بي إذا دعاهم إلى ذلك أي طارئ، ويذهب بعضهم إلى التأكيد بشدة بأنهم لن يسببوا لي أي إزعاج، وأنهم لن يتصلوا إلا في الظروف الشديدة القصوى.
وعندما أعود مؤكداً لهم أن ما خطر ببالهم غير صحيح، وأنني لا يمكن أن أقلل من قدرهم ومكانتهم بهذا الشكل، وأنني بكل صدق لا امتلك التليفون السيار، ولو كان لدي بالفعل لما ترددت لحظة في تقديمه لهم بكل محبة وإخلاص، يصدق بعضهم ويتشكك البعض ويخرج جميعهم بنصف اقتناع وبعدم الرضا الكامل.
كما يذهب بعضهم حتى إلى القسم بأنهم لن يعطوا الرقم لأي شخص يطلبه منهم، وسوف يحتفظون به سراً حسبما أريد، وعندما أعيد لهم التأكيد بأنني لا يمكن أن أكذب، وأنني لو كنت امتلك تليفوناً سياراً، ولا أريد إعطاء رقمي لهم أو لأحد غيرهم، فإن لدي من الشجاعة الأدبية والأخلاقية قدراً يكفي لكي أصرح لهم بذلك بكل وضوح، ولا يستطيع أحد أن يلومني في ذلك.
وكنت أرى أن ملامح التصديق تنتشر على وجوههم، وإن كانت الدهشة تعقد ألسنتهم، وكأنني مخلوق عجائبي قادم من المريخ، وعندما يلح بعض المرضى في معرفة الأسباب التي تمنعني من استخدام التليفون السيار، ويبدو أن بعضهم يظن أن امتناع الطبيب عن استخدام التليفون السيار، قد يكون أمراً مفيداً من الناحية الصحية، ويريدون معرفته، وقد وجدت حلاً في الفترة الأخيرة، بالقول أن لدي “حساسية في الأذن ضد الموجات والذبذبات الالكترونية والصوتية” وأصبح الكثير منهم يبدي قناعته متفهماً ومشفقاً.

ولكن التليفون السيار في أيدي المرضى ومرافقيهم أصبح مصدراً جديداً للإزعاج والمقاطعات خلال المعاينة الطبية، تفوَّق فيها على جميع مصادر الإزعاج الأخرى بدرجة عظيمة، وأثبت أنه حتى في هذا المجال من أعظم الاختراعات وأشدها قدرة وكفاءة.
قبل عدة سنوات عندما بدأ التليفون السيار بالانتشار، كنت أنزعج بشدة عندما تنطلق رناته، ولا أقدر على إخفاء امتعاضي وضيقي وغضبي في بعض الأحيان، وكثيراً ما كنت أنهر المريض أو مرافقه بشدة آمراً إياه بإغلاق التليفون.
وقد عاقبت بعض المرضى بمغادرة غرفة الكشف والانصراف إلى الأعمال العيادية الأخرى لمدة طويلة تصل إلى ربع ساعة أو ثلث ساعة، ثم أعود بعدها لأقول لهم بلهجة حانقة ومتشفية، أنني قد تعمدت تركهم لذلك الوقت، حتى افسح لهم مجال الرد على المكالمات التلفونية.
ثم صرت بعد ذلك أطلب من المريض أو مرافقيه إغلاق التليفون بهدوء وبدون انفعال، ولكن مشاعر الضيق والامتعاض تظهر عادة على ملامحي ولا أتمكن من إخفائها.
ثم ملأت العيادة وخصوصاً غرف انتظار المرضى بلوحات جدارية برجاء إغلاق التليفون السيار قبل دخول غرفة الكشف لمقابلة الطبيب، وأكبر اللوحات وأوضحها كانت على باب غرفة الكشف المباشرة.
ولكن الأغلبية الساحقة من المرضى لا تزال تدخل غرفة الكشف بدون إغلاق التليفون، وعندما يرن فإن بعضهم يصاب بالحرج، ويقول أنه كان قد أغلقه سابقاً ولا يعرف ما حدث، ثم يقوم بمحاولات متعجلة لإغلاقه من جديد، واعتبر ذلك من ناحيتي اعتذاراً كافياً وترضية مناسبة.
لكن بعض المرضى لا يأبه بذلك، وتراه يندفع مباشرة إلى الإجابة على التليفون ويتركني اتفرج عليه، وهو يجيب على مكالمة عادية في سؤال عن الأحوال وغير ذلك من الأمور العادية، قبل أن ينتبه إلى أنني عالق في انتظار إكمال مكالمته.
أما مرافقي المرضى فإنهم لا يعتبرون طلب إقفال التليفون أمراً يعنيهم مثل المرضى، ويردون على المكالمات بأصوات عالية، وإن كان بعضهم يبتعد نحو طرف قصي من أطراف الغرفة، ولا ينتهي من مكالمته حتى أكون قد انتهيت من المعاينة والكشف الطبي، ثم يتذكرني فجأة ويتجه نحوي قائلاً: “أيوه يادكتور.. ماذا لدى المريضة؟”.

وقد أصبحت من خلال ملاحظاتي الطويلة على يقين أن الناس عموماً، ومنهم المرضى والمرافقون، يجيبون على رنات التليفون من غير تفكير، وبصورة انعكاسية مباشرة تشبه المنعكسات العصبية، التي يعرفها الأطباء بإحداث فعل معين ينتج عنه رد فعل عصبي خاص، وكان الرد على التليفون استجابة غزيزية بدائية لرناته، مثلما يحدث من سحب اليد بسرعة إذا تم وخزها بإبرة حادة.
ولقد استمعت إلى رنات التليفون السيارة بمختلف درجاتها من الشديد بدءاً من الخافتة الهادئة، إلى المتوسطة، وانتهاءً بالصاخبة المثيرة، وبأنواع من النغمات من رنات الأجراس المختلفة، إلى وقع الطبول وإيقاعات رقصات البرع الشعبية، إلى الألحان الموسيقية السيمفونية، ومن أغاني رقيقة لبعض المطربين والمطربات، إلى أصوات العصافير، وتغريد البلابل، ومواء القطط، ونباح الكلاب، ومختلف أنواع الأدعية الدينية، وخطب الواعظين والأذان والأناشيد من كل نوع.
وخلال فترة سابقة، بدأت بمحاولات للفت نظر بعض المرضى إلى بعض قواعد التعامل المهذب بين الناس، فأقول لأحدهم بعد أن يكمل الرد على تليفونه في محاولة لإشعاره بمخالفة قواعد السلوك المتعارف: “انظر يا أخي.. أنا عندي هنا خطين تليفون، ولكننني لا أجيب عليها، إلا بعد أن تتحول عن طريق مكتب الاستقبال، وأنا لا أجيب إلا على بعض المكالمات الضرورية الهامة.. وأنا كذلك لا أقوم بالاتصال بأحد أثناء وجود مريض لدي.. هذا الوقت المخصص لك.. هو حق لك وحدك.. لا أسمح لأحد بأن يقاطعني فيه لدقيقة واحدة..”.
ولم أشاهد في المرات العديدة التي قدمت فيها مثل هذه المرافعة “البليغة” مريضاً واحداً يبدو أنه قد فهم مغزاها وإيحاءاتها، وما أطلبه منه خلالها ، بل أجد معظمهم يهز رأسه، وكأني أخبره بقصة عن نفسي لاتعنيه في قليل أو كثير.
كنت مرة أجري كشفاً بالأمواج الصوتية لامرأة حامل يرافقها زوجها، وطلب مني أن أشرح له مايشاهده على الشاشة، فرحبت بذلك، وبدأت أشير إلى بعض أجزاء الجنين، فانطلق صوت التليفون السيار في يده، فأجاب على المتصل مديراً ظهره نحو الجانب الآخر، ولم أسمع ماكان يقوله، ولكنه أنهى المكالمة بعد دقيقتين وعاد إلي قائلاً: أيوه أيش قلت يادكتور؟”، وقبل أن أحاول أن أقول شيئاً، انطلق التليفون السيار برنته المزعجة مرة ثانية، وفعل مافعله في المرة السابقة، وعاد نحوي دون أن يتكلم هذه المرة، ولكن التليفون لم يمهله، فقد انطلق من جديد ولم يكمل الإجابة عليه حتى كنت قد أنهيت الكشف على المريضة زوجته، وقمت وأنا أقول له: “أمرك عجيب والله يا أخي.. ألا تفكر قليلاً يا رجل؟.. كانت أمامي خمس دقائق للكشف على زوجتك وطمأنتك عليها، وإرضاء فضولك في ماتريد معرفته مني.. خمس دقائق لاغير ومع ذلك تتركني وتتركها لترد على ثلاث مكالمات تليفونية متتابعة.. أليس هذا عجيباً؟”.
فقال لي ببرود يصحبها حيرة: “المشكلة يادكتور.. أن هذا الرجل الذي يتصل لا أعرفه.. وكنت أحاول معرفة ماذا يريد مني.. ولماذا يكرر لاتصال”.
قلت له: “إذن فمصيبتك أعظم من مصيبتي بما يفوق كل الحدود.. لا بأس عليك!.. وهنيئاً لك جميع الاتصالات ممن تعرف وممن لاتعرف!!.
وفي إحدى المرات بعد أن أنهيت الكشف على أحد المرضى وكتبت له الفحوصات والكشوفات المطلوبة منه على قصاصات صغيرة من الورق، ومددت يدي بها نحوه لتسليمه إياها، وفي تلك اللحظة رن جرس التليفون السيار، فرد عليه مباشرة بطريقة رد الفعل الانعكاسية الغريزية وانسجم في المكالمة بشكل كامل غير قادر على رؤية يدي الممدودة بالقصاصات نحوه.. وبدأت أشعر بالحرج بسبب يدي المعلقة في الهواء بيني وبينه، ولكي أتغلب على ذلك قمت من مكاني خلف مكتبي، ووضعت القصاصات في جيب قميصه الأمامي، ثم أمسكت بيده أقوده مثلما يقاد العميان، خارج غرفة الكشف إلى الممر الفاصل، ثم أفتح له باب الصالة دافعاً إياه نحوها دفعة صغيرة، وهو لايزال منسجماً بكل جوارحه وحواسه في المكالمة التليفونية الطارئة.

أما إحدى المصائب العظيمة فهي عندما أجد مرافقاً للمريضة يمد إلي يده بالتليفون السيار:
“ها ها يادكتور خذ كلمه لو سمحت..!”.
“من هو؟”
“زوجها في السعودية.. وقد طلب التحدث إليك”.
“ولكنني لم أعاين المريضة بعد ولم أجر لها أي فحص و كشف.. فما الذي يمكنني أن أقول له عن حالتها الآن؟”.
“بس أنت كلمه يادكتور.. وطمئنه”.
طيب.. طيب... ما اسمه على الأقل؟”
“عبدالله قاسم”
“أيوه يا أخ عبدالله حياك الله.. وأهلاً وسهلاً”.
“حياك الله يادكتور وأبقاك.. والله أنني دائماً أسمع عنك كل خير.. وأرجو اهتمامك الخاص بالمرأة.. لقد اتعبتني منذ زمن طويل وغرمت أموالاً طائلة على علاجها من دكتور إلى آخر.. لكنني عندما سمعت عنك من بعض الاصدقاء قلت لهم يجيبوها إلى عندك.. وماهو مرضها يادكتور.. أشتيك تشرح لي كل حاجة.. وأرجو ألا تخفي عني شيئاً، أنا إنسان مؤمن بالله..
وإذا عندها مرض خطير قل لي بصراحة...”.
وأتمكن أخيراً من مقاطعته، وأقول له أنني لم أسمع من امرأته كلمة واحدة حتى الآن، ولم أكشف عليها ولم أجر لها أي فحص أو كشف يمكنني من الإجابة على أسئلته وطمأنته.. وأنني سوف أفعل إذا اتصل بي بعد ساعتين أو ثلاث،وأقطع المكالمة مودعاً بالتحيات المعتادة من جانب واحد دون أن أسمح له برد التحية لا بمثلها ولا بأحسن منها.
وكثير من المرضى المرافقين يتصلون بي تليفونياً ومن أماكن بعيدة، وبعد أيام أو أسابيع من معاينتهم فيقول أحدهم:
المريضة يادكتور مكانها تعبانة.. ولا يزال الوجع عندها كثير .. والطرش ..
لحظة لو سمحت .. من هي المريضة أولاً؟
نحنا اللي جينا لك من العدين .. قبل شهر .. وعملت لنا فحوصات وجهاز..
أيش قد نسيتنا يادكتور؟!
بس اشتيك تقول لي أيش الدواء اللي معاها.. تعرف نوع الدواء اللي تستعمله؟
أيوه يادكتور .. حبوب صفراء وحبوب بيضاء ثلاثة أنواع وحبوب حمراء.
طيب .. طيب .. أيش أقدر أعمل لك الآن؟ ماهو المطلوب الآن؟
تشوف حالتها .. وتشوف أيش من دواء باينفعها!!!
وكيف أقدر أشوف حالتها وهي بعيدة عني .. وإذا كان الدواء ما نفعهاش بعد ما عاينتها وهي قدامي وبعد الكشف والفحوصات .. كيف أقدر أصف لها دواء ينفعها من بعيد من غير ما أشوفها!!؟
يعني أيش يادكتور؟
يعني إذا لم ينفعها الدواء أو إذا ساءت حالتها لازم ترجعها على طول من غير كلام .. ولا تليفونات..!
وفي يوم آخر، يتصل بي شخص آخر:
يادكتور نحنا اللي جينا لك من جبل رأس .. تذكرنا والا لا ؟
لا والله .. لا أتذكر .. متى جئتم؟
قبل شهر ونصف .. لما جبنا لك الوالدة اللي عندها المعدة وسويت لها فحوصات كاملة وجهاز .. ومنظار .. تذكرتها الآن؟
ها .. آه .. أيوه .. أيوه .. وكيف حالتها الآن؟
إن شاء الله تكون بخير!
هي تحسنت شوية .. لكن قبل ما تكمل الدواء رجعت حالتها أسوأ من الأول.
وما المطلوب مني الآن؟
تغير لها العلاج .. أو اللي تشوفه.
طيب حاضر .. بس أشتيك تقول لي كيف أغير لها العلاج بالتليفون .. ومن غير ما أشوفها ولا أعاينها!!!؟
أقطع المكالمة وأصرخ في التحويلة: يامروان لا تحول إلي مكالمة من أي مريض إلا بعد أن تسجل الاسم والمكان ، ومتى حضر إلى المعاينة، وماذا يريد، وماهي الأسئلة التي يود أن يتلقى عليها الإجابات، ولا تقم بتحويل المكالمة إلا إذا اتصل المريض سبع مرات متتالية في يوم واحد.

وأسمع أحياناً ضجة عالية وأصواتاً مرتفعة في صالة الانتظار، فيتبادر إلى ذهني أن مشاجرة كلامية تجري بحدة، وأخشى أن تفلت الأمور، فأقطع معاينة المريض، وأندفع إلى الممر الصغير الذي يفصل باب حجرة الكشف عن الصالة، حيث يمكن أن أنادي الممرض أو الممرضة المسئولين عن مساعدتي المباشرة متسائلاً ماذا يحدث وما هذه الأصوات المرتفعة فتكون الإجابة:” لا .. ولا حاجة يا دكتور .. مكالمة تليفونية عادية بالسيار”.
أخيراً اعتدت على الأمر ولم أعد ألوم أحداً، ولا أنتقد مريضاً ولا مرافقاً، شعر بالحرج أو لم يشعر، اعتذر أو لم يعتذر، أغلق تليفونه أو تركه مفتوحاً، أجاب عليه باقتضاب أم بإسهاب، بصوت خفيض هادئ أم بصوت صاخب .. كل ذلك وغيره لم يعد يعني لي شيئاً وسلمت أمري لله .. ثم بدأت أتهم نفسي بأنني أنا الذي أتصرف خارج المألوف وليسوا هم بأي حال من الأحوال .. واقتنعت بذلك أخيراً .. وتذكرت المثل البدوي القديم “ إذا جُن قومك .. عقلك ما ينفعك”.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.