كنت أعتقد أنني أستطيع التعامل مع جميع المرضى بما تفرضه واجبات المهنة الطبية من تقديم الرعاية الطبية الممتازة لكل مريض، وأن أمنح كلاً منهم ما يحتاج إليه من العناية الطبية وإبداء الاهتمام بمشاغله ومخاوفه ما كبر منها وما صغر،وأن أنغمس في مشاعره وانفعالاته،وأبدي له التفهم والتعاطف الضروري لتحقيق علاقة شفائية قادرة على الأقل على إعطائه الشعور بالمشاركة وتمنحه بعض الراحة والطمأنينة. وكنت أعتقد كذلك أنني قادر على تحمل كل الإزعاجات والإلحاحات والاهتمام بالأعراض التافهة، التي يظل الكثير منهم يرددها متجاهلين ماهو أكثر أهمية وخطورة. وكان ظني كذلك أن مشاكلي الخاصة وانفعالاتي ومزاجي وما أعاني منه أحياناً من القلق ومشاغل البال، لن تكون قادرة على التأثير على علاقتي بالمرضى، أو تنعكس بطريقة سلبية على مستوى الرعاية الطبية التي يحتاجونها، والتي هي واجبي الأول والأخير نحوهم، وتشكل مطلبهم الأساسي وهدفهم الذي جعلهم يأتون إلي يملؤهم الرجاء والأمل. وكنت أحاول كذلك الادعاء أنني أستطيع أنفض مشاعري الخاصة عن تفكيري وأبعدها بمجرد دخولي إلى العيادة، وأنني كذلك أقدر على نسيان مشاكل المرضى ومشاعرهم وانفعالاتهم وآلامهم ومعاناتهم بمجرد خروجي من العيادة. ولم يمض وقت طويل، قبل أن أدرك أن الفصل بين حياتي ومشاعري وبين المرضى ومشاكلهم، أمر خارج عن الطاقة والقدرة، وأن الأمور تتداخل فيما بينها بشكل عظيم، ولايمكن إزالة هذه الاشتباكات والتداخلات مهما كانت القدرات والمواهب التي يمتلكها الطبيب. أدركت كذلك أن العناية بكل مريض تتأثر بالمرضى الآخرين الذين قد سبقوه في المعاينة خلال ذلك اليوم، والذين يكون بعضهم قد استهلك كل مالدى الطبيب من تحمل وصبر، واستنفد كل ماهو مخزون لديه من القدرات على الهدوء والسكينة ورباطة الجأش، وترك الطبيب في حالة من الإرهاق النفسي والضيق حتى يصبح على وشك الانفجار. وعلى الرغم من أنني أحاول أن أتعامل بمهنية واحتراف مع المريض الثالث والعشرين، وأن أمنحه نفس الاهتمام والرعاية التي أعطيها للمريض الأول خلال اليوم نفسه، ولكن حقيقة الأمر في الواقع شيء مختلف مهما تظاهرت ومهما ادعيت. وأنا أدرك كذلك أن أي مريض يمكن أن يثير مشاعر سلبية في نفس الطبيب، وإذا لم يتنبه الطبيب إليها في الوقت المناسب، فإنها قد تخرج عن نطاق سيطرته، وتتطور إلى مشاعر النفور والبغض وربما الكراهية، وانعدام التعاطف مع آلام المريض ومعاناته. وقد تؤدي هذه المشاعر السلبية المتراكمة في نفس الطبيب ضد المريض، إلى التعامل معه بجفاء وقسوة،أو بإهمال وعدم اهتمام وبدون تعاطف وتفهم لمعاناة المريض، مما يؤدي إلى انهيار العلاقة بينهما،أو إعاقة نشوء علاقة جيدة بينهما تكون قادرة على التأثير على نفسية المريض وبث الطمأنينة في قلبه، وتساعده على تحمل آلامه وسرعة شفائه، ومما لاشك فيه، أن للمشاعر السلبية تأثيرها السيئ على تفكير الطبيب، وإعاقة سير العمليات الذهنية،وتشويش الصفاء الذهني والعقلي الضروري للطبيب لتقدير الأمور تقديراً صحيحاً، والوصول إلى التشخيص والقرار العلاجي الصحيح. وقد تنشأ حالة البغض والنفور من المريض لدى الطبيب بسبب كثرة الأنين والتأوه والصراخ بدون سبب معقول، أو المبالغة في الأعراض، أو بسبب التعليقات السلبية من المريض عن نتائج العلاج، مثل الإشارة تصريحاً أو تلميحاً إلى أن عدم التحسن يرجع إلى إهمال الطبيب،أو أن الآثار الجانبية للعلاج بسبب أخطاء الطبيب، أو لأن المريض لم ينل ما يريد الحصول عليه من الطبيب من السرعة في الشفاء وانتهاء الآلام بالسرعة المرغوبة، وخاصة مع شخص كريه المظهر وشرس الطباع وعدواني نحو الطبيب. وربما تنشأ هذه الانفعالات السلبية حين يرفض المريض إجراءات ضرورية لتشخيص حالته، أو عندما ينكر أي تحسن في حالته، على الرغم من التقدم الكبير الذي حدث له، وقد يحدث عندما تتصرف بعض الإناث بعدوانية ووقاحة برفض الكشف الطبي العادي بطريقة فجة، تحمل في طيها نوعاً من الإهانة للطبيب. ومن المؤكد أن حالة الطبيب النفسية وشعوره بالإجهاد والإرهاق والتعب، وتراكم المرضى وازدحامهم، ووجود حالة من الفوضى والصياح تضغط على أعصابه، وتؤثر في قدرته على تمالك نفسه وضبط أعصابه، وتؤثر في قدراته على تحمل المرضى والصبر على مضايقاتهم، وتجعله بالتالي فريسة سهلة لتكوين المشاعر السلبية تجاه أي مريض، لأي سبب من الأسباب. وقد تنشأ هذه المشاعر السلبية لدى الطبيب بدون سبب أحياناً، لأن المرض يطلق كل ما هو سيء في نفس المريض، ويجعله شخصاً منفراً، غاضباً، قليل التحمل، مثيراً للإزعاج،غريب الأطوار، ولكن هذا الشخص بعد شفائه يظهر على طبيعته وقد يكون شخصاً رقيقاً، هادئ الطبع مجاملاً ومحبباً إلى النفوس. ومن الواجب على الطبيب المحترف الملتزم بقواعد وأصول المهنة الطبية ألا يسمح لهذه المشاعر السلبية أن تنشأ في نفسه،وإذا حدثت مشاعر النفور والبغض للمريض في نفسه فإنه لا يسمح لها بالتراكم، ولديه من المعارف والخبرات والحكمة مما يمكنه من التعالي عليها وكبتها، وأن يظهر للمريض وأهله كل مشاعر الاحترام والتفهم مهما بدا في تصرفاتهم من الإساءة أو المشاعر العدائية الغاضبة، وكثيراً ما ينجح الطبيب في كبت هذه المشاعر السلبية،ولكن كل المعارف والخبرات والحكمة قد تفشل وتنهار أحياناً في القيام بدورها، مهما بذل الطبيب من الجهود في محاولات كبتها والتغلب عليها، ومنع آثارها السلبية السيئة على مشاعره وتفكيره.
خلال يوم من أيام عملي المزدحمة بالمرضى، اتصل بي أحد أقاربي تليفونياً يطلب مني إعطاء الأولوية في الدخول لمريضة من جاراتنا، كان زوجها قد اتصل به راجياً وساطته، ووعدته الاهتمام بالأمر ، وما هي إلا دقائق قليلة بعد أن أنهيت محادثتي معه حتى سمعت ضجة وصياحاً وصخباً في الصالة عند مكتب الاستقبال، واتضح أن سببها هو أن المريضة التي حدثني قريبي عنها قد وصلت بالفعل مع زوجها واثنين من ابنائها وإحدى بناتها وجارة لها مسلحين بالتوصية الخاصة التي قدمها لهم قريبي، ويريدون الدخول على الفور دون الانتظار دقيقة واحدة. ولما طلب منهم الممرضون وموظفو الاستقبال الانتظار حتى خروج المريض السابق وإعلامي بأمرهم،ثارت ثورتهم وعلا صياحهم، وأخذوا يكيلون السباب والشتائم لهؤلاء الممرضين الذين لا يقدرون أن المريضة في حالة إسعافية عاجلة، وأن خبر وصولهم إلي قد وصلني، وأنني انتظرهم بالفعل. ولما عرفت سبب الضجة والصياح، وكنت قد أنهيت معاينة المريض أمامي، فقد طلبت من الممرضين دخولهم على الفور،على الرغم من أن ستة أو سبعة من المرضى يسبقونهم في الدور، وعلى الرغم من ذلك فإنهم دخلوا إليّ ولا يزالون ثائرين واستكملوا قائمة السباب والشتائم للموظفين الذين أعاقوهم من الدخول، وكان غضبهم لا يزال في قمة فورته، حتى أن أحداً منهم لم يكلف نفسه عناء تحيتي أو شكري على ما منحتهم من الأسبقية في الدور، واستمروا في حديثهم الغاضب نحوي وتوجيه اللوم إليّ على عدم تأديب مثل هؤلاء الموظفين السيئين. واضطررت لتحمل الأمر واللوم وتركتهم ينفسون عن غضبهم دون وجه حق، وبدون أن أوجه إليهم أي تنبيه على أنهم قد تجاوزوا حدود اللياقة والأدب، رغم أنني لم أكن مقتنعاً بالسماح لهم بالدخول قبل غيرهم من المرضى الذين ينتظرون أدوارهم بهدوء، وإنما رضخت لهم لأن أصواتهم أعلى، وصخبهم أشد، وطلباتهم أكثر إلحاحاً. كانت المريضة في الأربعين من عمرها تقريباً، ولديها خمسة من الأبناء والبنات، والآن حبلى للمرة السادسة، وهي في الشهر السادس من الحمل، وكانت تصيح وتتألم وتصرخ أثناء دخولها تسندها جارتها من جانب وابنتها من الجانب الآخر،وعندما بدأت في سؤالها عن الألم أخذت تشيح بوجهها إلى الجانب الآخر، وغير راغبة في الحديث معي، تاركة الأمر للمرافقين الذين أخذ كل منهم يدلي بدلوه، ويكشف جانباً من القصة المرضية، وهي تبدي الضيق والضجر والتأفف والاستعجال على الانتهاء من أمر المعاينة، وكأنها مجبرة عليه قسراً. وإلى جانب ظروف المعاينة الأخرى من الصخب والصياح،وإحساسي بأنها تبالغ وتهول في وصف الأعراض، وما يبدو عليها من النفور فقد أثار ذلك في نفسي مشاعر سلبية من انعدام التعاطف معها، ولكنني قمت بكبتها بقوة فلم يظهر شيء منها على ملامحي ولا في تصرفاتي وأقوالي ،رغم أنها قد تركت أثارها السلبية على تفكيري. حصلت على القصة المرضية من مرافقيها وفهمت أنها تعاني من ألم بطني منذ شهر ونصف، يحدث كل عدة أيام ويصحبه دوخة وهبوط شديد لا تستطيع الحركة بعده، ثم يخف تدريجياً، ويعود بطريقة مفاجئة وغير متوقعة بعد عدة أيام. وخلال الأسابيع الستة السابقة حدثت لها ثلاث نوبات من الألم الشديد المصحوب بالدوخة والإغماء، ويقومون بحملها إلى المستشفى وهي غير قادرة على الحركة. وفي كل مرة يجري لها الكشف بالأمواج الصوتية وفحص الدم ويؤكدون لها أن الحمل طبيعي وأنه لا يوجد أي خطورة عليها، ويصرفون لها بعض الأدوية وتستخدمها ولكن حالتها مستمرة في حدوث الألم بنفس الطريقة، ولكن الطبيب الأخير الذي عاينها قبل عشرة أيام وأجرى لها الكشف بالأمواج الصوتية،أخبرها أن لديها “ماء في البطن” ناتج عن مرض الكبد، وأنها اليوم قد جاءت إليّ للتأكد من مرض الكبد، وإذا كان كذلك فإنها تريد تقريراً ينصح بسفرها إلى الخارج، سيتم إرساله إلى والدها لكي يقدم لها المساعدة في السفر والعلاج. كنت أتحدث مع الجميع، وكل واحد يوجه إليّ كلمة أو سؤال، وأفتش في الأوراق وكشوف الأمواج الصوتية وفحوصات الدم متعجلاً، وأعاينها في الوقت نفسه وأجد أن كل شيء لديها طبيعي، ولا أجد منها إلا الشكوى بالألم الشديد الذي يفاجئها والذي لاتحدد له مكاناً، ولكنه يشمل البطن كلها ويصيبها بالدوخة والهبوط والإغماء. وكان المضض والألم على كل مكان في بطنها أثناء الجس، وهي تبالغ في الأنين والتأوه وتبدي التأفف والضجر من الكشف والأسئلة المتتابعة والتي تكررت معها عدة مرات من الأطباء السابقين. سألتها مباشرة ماهو الذي يقلقها وما هو أسوأ مايمكن أن تفكر به من مرض قد أصابها، فأجابت بضيق واضح: “ولا قلق عندي ولا حاجة.. ولاعندي أي تفكير بأي مرض.. المهم عندي أن الألم والهبوط ينتهي وخلاص.. بس أشتيك تتأكد لي من الكبد والماء الذي في البطن.. لأني مش مصدقة أني عندي مرض في الكبد.. وعمري ما شكيت من الكبد ولاغيره”. أجريت لها فحوصات وظائف الكبد وغيرها من الفحوصات اللازمة للدم وقمت بالكشف بالأمواج الصوتية على الجنين وكان طبيعياً من كل ناحية ويتوافق مع منتصف الشهر مثلما يحسبون. وكان الكبد طبيعياً تماماً، وليس هناك أي علامات لوجود سائل في تجويفي البطن والحوض، وأبلغتهم النتائج مطمئناً، ومعيداً ومكرراً طمأنتهم بأن كل شيء على مايرام، وسأقوم بمتابعتها خلال الأيام القادمة للتأكد من كل شيء مرة أخرى. سألوني: لماذا قال الطبيب الذي عاينها قبل عشرة أيام أن عندها “ماء في البطن”، وأنه ناتج عن مرض الكبد؟... وأخبرتهم أنني لا أعرف ذلك، ولكنني استطيع التأكيد في هذه اللحظة على أمرين: أولهما أنه لايوجد ماء في البطن وهو ما نعرفه بالاستسقاء البطني، وهذا لايحدث إلا إذا كان الكبد في حالة متقدمة من التليف والضمور، والأمر الثاني هو أن الكبد لديها في حالة طبيعية تماماً، ويستحيل أن يكون سبباً للاستسقاء. ووصفت للمريضة بعض المهدئات العصبية ومضادات التقلص والألم، وأعتقادي لا يزال بأنها متوترة الأعصاب وشديدة القلق، وأنها تثير الاهتمام بنفسها من غير قصد إرادي بالطبع، وتبالغ في التهويل من شدة آلامها، ولكن ظروف الحالة وملابساتها كانت تشير إلى ذلك من خلال السياق العام. لم أحاول بيني وبين نفسي أن أقدم تفسيراً آخر للماء الذي شاهده الطبيب في بطنها قبل عشرة أيام ولم أجده أنا، ولما كنت على يقين بأن الكبد لديها طبيعي، فقد ظننت دون أن أعيد التفكير أن الطبيب مخطئ، أو أنه لم يقل ذلك، بل حدث التباس وسوء فهم جعل المريضة وأقاربها يظنون ذلك، وهذا كثير الحدوث بين المرضى والأطباء. وبعد خروج الجميع قدرت أنني قد أحسنت التصرف بشكل ممتاز، وهنأت نفسي على قدرتي في السيطرة على مشاعري، ولم أترك أعصابي تفلت مني، أو أبدي أي انفعال أو مشاعر سلبية، على الرغم من طريقتهم في فرض توقيت وأسلوب المعاينة والكشف، وعلى الرغم من جميع الأسئلة التي يوجهها الجميع بطريقة مستفزة أحياناً، وعلى الرغم من كل مشاعر الضيق والقلق والقرف التي تبديها المريضة من كل من يحيط بها ومن كل مايحدث حولها، وإحساسي بأنهم كانوا جميعاً غير مقتنعين بالكثير مما قلت: وقلت في نفسي أخيراً أنني قد استطعت التأكيد لهم على عدم وجود مرض كبدي متقدم لديها ولا استسقاء بطني، وهو الأمر الذي كان يشغلهم ويقلقهم، وهو مادعاهم للحضور إلي ذلك اليوم، وربما سوف يستمر الألم ويتكرر، ويمكن التعامل معه مثلما يتم ذلك مع جميع المريضات الأخريات وخاصة أثناء الحمل.