صدور ثلاثة كتب جديدة للكاتب اليمني حميد عقبي عن دار دان للنشر والتوزيع بالقاهرة    عيد العمال العالمي في اليمن.. 10 سنوات من المعاناة بين البطالة وهدر الكرامة    العرادة والعليمي يلتقيان قيادة التكتل الوطني ويؤكدان على توحيد الصف لمواجهة الإرهاب الحوثي    حكومة صنعاء تمنع تدريس اللغة الانجليزية من الاول في المدارس الاهلية    فاضل وراجح يناقشان فعاليات أسبوع المرور العربي 2025    انخفاض أسعار الذهب إلى 3315.84 دولار للأوقية    الهجرة الدولية: أكثر من 52 ألف شخص لقوا حتفهم أثناء محاولتهم الفرار من بلدان تعج بالأزمات منذ 2014    وزير الصناعة يؤكد على عضوية اليمن الكاملة في مركز الاعتماد الخليجي    "خساسة بن مبارك".. حارب أكاديمي عدني وأستاذ قانون دولي    حرب الهيمنة الإقتصادية على الممرات المائية..    رئيس الوزراء يوجه باتخاذ حلول اسعافية لمعالجة انقطاع الكهرباء وتخفيف معاناة المواطنين    عرض سعودي في الصورة.. أسباب انهيار صفقة تدريب أنشيلوتي لمنتخب البرازيل    هل سمعتم بالجامعة الاسلامية في تل أبيب؟    عبدالله العليمي عضو مجلس القيادة يستقبل سفراء الاتحاد الأوروبي لدى بلادنا    وكالة: باكستان تستنفر قواتها البرية والبحرية تحسبا لتصعيد هندي    لأول مرة منذ مارس.. بريطانيا والولايات المتحدة تنفذان غارات مشتركة على اليمن    هدوء حذر في جرمانا السورية بعد التوصل لاتفاق بين الاهالي والسلطة    الوزير الزعوري يهنئ العمال بمناسبة عيدهم العالمي الأول من مايو    عن الصور والناس    حروب الحوثيين كضرورة للبقاء في مجتمع يرفضهم    أزمة الكهرباء تتفاقم في محافظات الجنوب ووعود الحكومة تبخرت    الأهلي السعودي يقصي مواطنه الهلال من الآسيوية.. ويعبر للنهائي الحلم    إغماءات وضيق تنفُّس بين الجماهير بعد مواجهة "الأهلي والهلال"    النصر السعودي و كاواساكي الياباني في نصف نهائي دوري أبطال آسيا    اعتقال موظفين بشركة النفط بصنعاء وناشطون يحذرون من اغلاق ملف البنزين المغشوش    الوجه الحقيقي للسلطة: ضعف الخدمات تجويع ممنهج وصمت مريب    درع الوطن اليمنية: معسكرات تجارية أم مؤسسة عسكرية    رسالة إلى قيادة الانتقالي: الى متى ونحن نكركر جمل؟!    غريم الشعب اليمني    مثلما انتهت الوحدة: انتهت الشراكة بالخيانة    جازم العريقي .. قدوة ومثال    دعوتا السامعي والديلمي للمصالحة والحوار صرخة اولى في مسار السلام    العقيق اليماني ارث ثقافي يتحدى الزمن    إب.. مليشيا الحوثي تتلاعب بمخصصات مشروع ممول من الاتحاد الأوروبي    مليشيا الحوثي تواصل احتجاز سفن وبحارة في ميناء رأس عيسى والحكومة تدين    معسرون خارج اهتمامات الزكاة    الاحتلال يواصل استهداف خيام النازحين وأوضاع خطيرة داخل مستشفيات غزة    نهاية حقبته مع الريال.. تقارير تكشف عن اتفاق بين أنشيلوتي والاتحاد البرازيلي    الدكتوراه للباحث همدان محسن من جامعة "سوامي" الهندية    الصحة العالمية:تسجيل27,517 إصابة و260 وفاة بالحصبة في اليمن خلال العام الماضي    اتحاد كرة القدم يعين النفيعي مدربا لمنتخب الشباب والسنيني للأولمبي    صنعاء .. حبس جراح واحالته للمحاكمة يثير ردود فعل واسعة في الوسطين الطبي والقانوني    صنعاء .. حبس جراح واحالته للمحاكمة يثير ردود فعل واسعة في الوسطين الطبي والقانوني    النقابة تدين مقتل المخرج مصعب الحطامي وتجدد مطالبتها بالتحقيق في جرائم قتل الصحفيين    برشلونة يتوج بكأس ملك إسبانيا بعد فوز ماراثوني على ريال مدريد    الأزمة القيادية.. عندما يصبح الماضي عائقاً أمام المستقبل    أطباء بلا حدود تعلق خدماتها في مستشفى بعمران بعد تعرض طاقمها لتهديدات حوثية    غضب عارم بعد خروج الأهلي المصري من بطولة أفريقيا    علامات مبكرة لفقدان السمع: لا تتجاهلها!    حضرموت اليوم قالت كلمتها لمن في عينيه قذى    القلة الصامدة و الكثرة الغثاء !    عصابات حوثية تمتهن المتاجرة بالآثار تعتدي على موقع أثري في إب    حضرموت والناقة.! "قصيدة "    حضرموت شجرة عملاقة مازالت تنتج ثمارها الطيبة    الأوقاف تحذر المنشآت المعتمدة في اليمن من عمليات التفويج غير المرخصة    ازدحام خانق في منفذ الوديعة وتعطيل السفر يومي 20 و21 أبريل    يا أئمة المساجد.. لا تبيعوا منابركم!    دور الشباب في صناعة التغيير وبناء المجتمعات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



سوق السبت
المرضى الذين علموني
نشر في الجمهورية يوم 23 - 06 - 2010

قبل أن ينتهي مقيل يوم الجمعة بين السابعة والنصف والثامنة والنصف مساءً،أبدا بالشعور أن الإجازة الأسبوعية قد انتهت، وأن الخميس والجمعة قد مرا وكأنهما ساعات، ويبدأ الشعور بأن أمامي أسبوعاً آخر من العمل، ولكن يوم السبت هو أصعب أيام الأسبوع، وأطولها وأكثرها مشقة وإجهاداً.
أشعر أحياناً بأن العمل المرهق يوم السبت هو عقاب أو انتقام استحقه بسبب الإجازة الأسبوعية التي انقطعت فيها عن معاينة المرضى يومين متتاليين.
وهكذا أبدا في التهيب من يوم السبت قبل أن يحل موعده بليلة كاملة، ولعل ذلك الهم والقلق يشحن روحي بالطاقة الضرورية لمواجهة مشقاته، وما أن تتجاوز الساعة الثامنة صباحاً حتى تكون حواسي قد تيقظت تماماً حتى وإن ظللت أتكاسل وأتناوم لدقائق أخرى.
وفي الثامنة والنصف أو بعدها بقليل أكون قد وصلت إلى العيادة لأن البدء مبكراً يضمن لي أحياناً بعض النظام وعدم تراكم المرضى وازدحاماً مما يخلق المشاكل والمتاعب للجميع.
وفي يوم السبت على غير العادة يتجمع المرضى من كل صنف ولون، من الحالات الحادة الإسعافية العاجلة، إلى المرضى ذوي الحالات الحرجة المزمنة، وكذلك المرضى العصابيون والقلقون الذين يحتاجون إلى وقت أطول من المعتاد ومعاملة مختلفة من الآخرين، إلى جانب المرضى ذوي الحالات المستقرة الذين حضروا لمجرد المتابعة والمراجعة، مع كوكبة من الحالات البسيطة المباشرة.
كما أن مرضى يوم السبت يتميزون بالحضور من مختلف المناطق البعيدة من الأرياف ويستغرق وصول بعضهم 46 ساعات بالسيارة، ولكن المرضى من المناطق القريبة أو من مدينة تعز نفسها أو من الأحياء المجاورة،أو حتى بعض الأقارب لا يستنكفون من المشاركة في مزاحمة مرضى المناطق البعيدة في يوم السبت.
ويذكرني يوم السبت بيوم السوق الأسبوعي الذي كان ولايزال ينعقد في أماكن كثيرة يحضر فيه الناس من كل حدب وصوب للبيع والشراء، لذلك فإنني أطلق عليه أحياناً “سوق السبت الطبي”.
وفي بدايات أعمالي العيادية كان موضوع الزحام يوم السبت يثير غيظي وحنقي وحاولت العديد من الإجراءات التنظيمية الهادفة لسير العمل بشكل سريع ومريح وأن ينال كل مريض مايستحقه في الوقت المناسب، ولكن ذلك كله كان بدون جدوى.
ولعل قليلاً من الشعور بالارتياح قد دخل إلى نفسي عندما وجدت أن يوم الاثنين في البلاد الغربية، وهو أول أيام العمل الأسبوعي عندهم، يشبه يوم السبت عندنا على الرغم من قدراتهم التنظيمية والالتزام بالمواعيد.. ولكن يوم الاثنين لديهم يظل يوماً مرهقاً مليئاً بالعمل والإجهاد مثل يوم السبت عندنا، وقد كان لي في ذلك عزاء كبير لأن المرضى يتشابهون في كل مكان وزمان.
ووجدت أخيراً أن أهم مايمكن أن أفعله هو البداية المبكرة يوم السبت في موعد لا يتجاوز الثامنة والنصف صباحاً، وإلا أتلكأ مع أي مريض، وأن أتصرف بسرعة بحيث تأخذ مني الحالات البسيطة وحالات المراجعة عدة دقائق فحسب، لكي أوفر الوقت الباقي للحالات الإسعافية والمتعبة.

وفي أحد أيام السبت النموذجية أشرت بمجرد دخولي إلى مكتب الاستقبال إشارة يفهم منها أنه عليه أن يدخل المريض الأول إلى غرفة الكشف، وأن يجهز الثاني لينتظر في الكرسي بجانب الباب حتى يدخل بعد الأول مباشرة، ولا تضيع دقيقة في الانتظار بين كل مريض والذي يليه.
المريضة الأولى في الخمسين من عمرها، مراجعة للمرة الرابعة من حالة عصاب وقلق بسيط مع اكتئاب خفي، وقد تحسنت بالعلاج كثيراً حتى انتهى العلاج منذ 3 أسابيع، وبدأت “الالتهابات” تعود في كل جسدها بادئة من “فم المعدة” و”رأس القلب” مع قلة الشهية، وألم بعد الأكل، وكظمة في الصدر، “يادكتور.. أشتي دواء ينفعني قالوا لي هذا مهدئ.... وسأدمن عليه.. ولن استطيع أتحرك ولا أنام إلا بالعلاج.. أشتي دواء نهائي.. الله يحفظك ويطول عمرك”.
المريض الثاني، عبده فرحان، في الخامسة والستين من العمر يعاني من تضخم القلب وهبوط ارتخائي في القلب، ويتناول الأدوية منذ عامين بشكل شبه منتظم، وقد بادرني قبل أن يجلس أمامي وقبل أن يفلت يدي من المصافحة: “آه.. يا “شريف”،.. الموت يهددني كل ليلة..!”، وأسأله عن قصته وأعيد تقييم حالته وأشرح له نوبات ضيق النفس الانتيابية الليلية التي تعاوده كل ليلة، وأن سببها هو أن جرعة المدرات البولية لديه قد تناقصت، وأرفع له الجرعة إلى المستوى المطلوب وأودعه بعد أن طمأنته بأن الموت لن يهدده هذه الليلة ولابعدها.
المريضة الثالثة شابة متزوجة ولديها بنت واحدة وعمرها سنتان، يرافقها زوجها الذي كان مغترباً، وهي الآن تعاني من غثيان وإقياءات وقلة الشهية وفتور، حالة بسيطة ومباشرة، فحص عام روتيني سريع، وفحص البول وإجراء كشف الموجات الصوتية للتأكد من الحمل.
المريض التالي، عبدالقادر السفياني، شاب في السابعة والثلاثين من العمر ذو قامة طويلة وبنية قوية مع ميل إلى البدانة، ووجه ممتلئ مستدير يتدفق صحة وحيوية، ويلبس ملابس أنيقة ونظيفة، ويزين معصمه بساعة غالية الثمن، ويحمل بيده اثنين من التليفونات السيارة، أخذ يشكو من مغص وانتفاخ بطن وبشم وقرقرة وإسهال بسيط منذ عصر اليوم السابق، بعد وجبة غداء دسمة، وراح يعيد شرح هذه الأعراض، ويكررها ويتفنن في وصفها، ويبالغ في التهويل من معاناته الشديدة منها طوال الليلة البارحة بعد المعاينة السريعة أمرت له بإجراء الفحوصات العامة المعتادة.
المريضة التالية، أم علي جميل، في الأربعين من عمرها تحضر لأول مرة تعاني من ضيق و”كُبدة”، وألم صدري على الثدي الأيسر، وينتشر إلى الكتف الأيسر والظهر، و”ينصل” الذراع اليسرى كلها، مع “نغزات” في الصدر، وألم في المعدة، وضيق وضجر حتى لأنها لا تطيق أبناءها، ولا تطيق أن يكلمها أحد مع فتور عام ولا تقدر أن تقوم بأعمال البيت، وتريد أن تعمل تخطيط قلب لكي تطمئن.
المريض التالي حالة بسيطة ومباشرة من تشمع الكبد والاستسقاء البطني وتورم القدمين، أما الذي بعده فقد كان حالة من انتفاخ الرئتين والقصور التنفسي المزمن مع ضخامة القلب، واسترخاء القلب الاحتفاني، وحالته العامة سيئة جداً، وصدره مليء بالأصوات الصدرية والمفرزات، ويعاني من حمى متوسطة الشدة نتيجة التهاب قصبي حاد.
المريض التالي، صالح عبدالله، في الثامنة والستين من عمره، من إحدى القرى الريفية في منطقة يريم، على بعد خمس ساعات بالسيارة، يعاني من حمى وانتفاخ البطن وطرش وإمساك وألم بطني شامل منذ ثلاثة أيام. وقد تعاين لدى ثلاثة أطباء خلال الأيام السابقة وحالته تزداد سوءاً.
كان بطنه منتفخاً وممضاً عند الجس في كل مكان، ولا توجد كتل بطنية، وقمت بالإنصات بالسماعة لأكثر من دقيقتين، ولم أستطع التأكد تماماً من وجود أصوات الحركة المعوية المعتادة. أظهر فحص الدم ارتفاعاً كبيراً في كرات الدم البيضاء وأظهرت الأشعة تجمعات غازية في الأمعاء الغليظة بدون وجود علامات الانسداد المعوي الكامل.
لابد أن المريض يعاني من التهاب بريتوني عام، قد يكون جماً عن انثقاب الزائدة الدودية، أو قرحة هضمية، أو التهاب الرتوج القولونية، أو أي شيء آخر قد يشمل ورماً سرطانياً في القولون. وطلبت من المريض الرقود في المستشفى، وتململ المريض وامتعض المرافقون قائلون أنهم لا يستطيعون توفير النفقات والتكاليف المادية للرقود، لا في مستشفى خاص، ولا حتى في مستشفى عام. وأن أحد الأطباء في اليوم السابق قد طلب منهم السفر إلى صنعاء للرقود في مستشفى الثورة العام هناك، ولكنهم قرروا أن يحضروا إلي، بعد أن أوصاهم بعض أقربائهم الذين نالوا الشفاء على يدي بعد أن أيأسهم الأطباء الآخرون.
شرحت لهم مخاطر الحالة وأن الأمور قد تسوء في أي وقت وأن رقوده في المستشفى ضروري لدرء هذه المخاطر، وربما يحتاج إلى عملية استكشافية في أي وقت، وأنه يحتاج كذلك إلى إجراء كشف طبقي مقطعي للبطن في اليوم التالي. أعادوا علي الصعوبات التي يواجهونها وعدم رغبتهم في الرقود في المستشفى حتى لو توفرت الإمكانيات فهم يريدون العلاج وسوف يعطونه له في منزله بين أبنائه وأهله.
أسقط الأمر في يدي، وقلت لهم أنني سوف أعطيه العلاج عن طريق المحاليل الوريدية التي يجب أن تعطى ثلاث مرات في اليوم، وأنني سوف أصف لهم العلاج لمدة ثلاثة أيام وعلى شرط العودة بعدها لمتابعة حالته، أما إذا ساءت حالته في أي وقت فعليهم الحضور إلي، أو التوجه إلى أي مستشفى كبير قريب منهم، فقالوا جميعاً بارتياح وكل واحد بطريقته “أيوه.. أيوه هكذا تمام.. وخلينا نتوكل على الله”.
وبعد حوالي ساعتين من بدء المعاينة، أصبح بين كل مريض والتالي يدخل أحد المرضى السابقين بعد أن اكتملت نتائج الفحوصات والكشوفات التي أجريت له، ولابد من إبلاغه بالنتيجة والتشخيص والتعليمات الضرورية، مع تسليمه وصفة العلاج وإعادة طمأنته، وإعادة الإجابة على جميع أسئلته، ومحاولة تبديد شكوكه وشواغله ومخاوفه.
أصبحت الساعة الآن حوالي 11:30 صباحاً، سمعت ضجة وصياحاً في الصالة، و تبين أن المريض الشاب عبدالقادر السفياني يتشاجر ويسب ويشتم الجميع، لأنهم أخروا النتائج المخبرية وقدموا عليه بعض المرضى، والآن النتائج أصبحت بيديه منذ ربع ساعة وهم يمنعونه من الدخول إلى الطبيب. طلبت من الممرض إدخاله، وكان لايزال غاضباً جداً ويقول : “أنت طيب يادكتور.. وعملك جيد.. لكن هؤلاء الموظفين السافلين في الخارج يسيئون إليك وإلى عملك..” هدأته بكلمتين، وطلبت منه احترام المكان وبقية المرضى، وإذا حدث أي تجاوز أو تأخير، فالأمر ليس متعمداً.. وهذا ما تفرضه طبيعة عملنا وعليه أن يعذرنا.
كنت أردد الاعتذارات بهدوء، وأحاول أن أتغاضى عن سوء أدبه وألفاظه، وأبدي ابتسامة فاترة، وأنا أؤكد له أن الفحوصات لديه طبيعية، وأنها وعكة بسيطة من سوء الهضم، وسلمته الرشدة وأنا أحاول أن أوسع من ابتسامتي، وأنا أودعه وهو لا يزال يزم شفتيه غاضباً، ويعقد حاجبيه مترفعاً وحانقاً، وأنا فيما بيني وبين نفسي أتمنى لو صفعته أو كسرت عنقه.. آه.. الله يرحمك يا أبقراط(1).
دخلت المريضة التالية، فاطمة غشام، وهي في الخامسة والسبعين من عمرها تقريباً يسندها أبنها وابنتها من جانبيها، وهي لا تكاد تقدر على المشي، وخطواتها بطيئة كأنها تنتزع أقدامها من الأرض انتزاعاً، وما أن شاهدتها حتى عرفت أنها مريضة لدي أتابع حالتها منذ حوالي 15 عاماً. وهي تعاني من أمراض عديدة منها الربو القصبي والتليف الكبدي وارتفاع ضغط الدم وضخامة القلب وإفقار دموي إكليلي، وقبل أن أستقبلها وجدتها تصيح بالقدر الذي يسمح لصوتها بالارتفاع.
“آه.. ويلك من الله يا “أحمد الشريف” ! ويلك من الله!.. وبادرت نحوها مرحباً ومعتذراً : “أهلاً.. أهلاً وسهلاً بك ياعمة فاطمة سامحينا، والعفو منك يا عمة” فلم تلتفت نحوي ظلت تتقدم نحو سرير الكشف، وهي تقول بلهجة غاضبة : “ماني ولاني عمتك.. من الصبح وأنتم تطرطروني وتجعجعوني لاذلحين.. زيدتوني فوق مرضي مرض.
تجاهلت الأمر وبدأت أقوم بالمعاينة وأخذ القصة المرضية ومرت الحالة على خير.
المريضة التالية جاءت للمراجعة وقد تحسنت من العلاج ولكن “الكبد” والضيق والراجف والوجع برأس القلب والغثيان بدأ يرجع، كما أنها تحس شيئاً مثل اللقمة “حانبة” في الحلق والصدر، مع ضيق وضجر، و”التهابات” تنتشر من المعدة إلى الصدر والرأس والظهر وجميع أنحاء الجسم..
المريضة التالية شابة في السابعة عشرة من العمر تعاني من ألم بطني منذ يومين، لم أتمكن من فحص بطنها بالشكل الصحيح، ولم أستطع تحديد وجود مضض محدد في المنطقة الحرقفية اليمنى، التي تحدد التهاب الزائدة الدودية، وكان فحص كرات الدم البيضاء لديها طبيعياً، وكذلك الكشف بالأمواج فوق الصوتية.. آه.. البنات الشابات بين الخامسة عشرة والعشرين، من أكثر الفئات العمرية صعوبة في التعامل معهن، ويجب على أن أحذر نفسي دائماً حتى لا أقع في الخطأ.
أخبرت أهل الفتاة وهي تنصت أنني أشك قليلاً في وجود التهاب في الزائدة ولكنني لست متأكداً تماماً، ولذلك فسوف أصف لها المضادات الحيوية بدون المهدئات وأنني سوف أقوم بمعاينتها في اليوم التالي حتى أستبعد شكوكي.
واستغرب الأهل كيف يمكن أن يقول الطبيب أنه يشك، وأنه ليس على يقين من التشخيص، وماهي فائدة فحص الدم؟.. وكيف لم يظهر الكشف بالموجات الصوتية الأمر، ويؤكده أو ينفيه بشكل قاطع؟!..، شرحت لهم الصعوبات، وطمأنتهم وأعدت عليهم التأكيد أهمية الحضور في اليوم التالي، وانصرفوا جميعاً بدون اقتناع وقد تزايدت شكوكهم في مدى خبرتي وحكمتي.
المريضة التالية شابة في الثلاثين من عمرها، زوجة، وأم لخمسة أطفال تشكو من الصداع لمدة خمسة أشهر مع آلام في الرقبة، وإحساس عام بالفتور والإرهاق والقلق.
ومن خلال أسئلة الاستقصاء لم أجد شيئاً يثير القلق أو الشكوك في وجود سبب عضوي للصداع، وقدرت أنه “صداع التوتر العصبي”، ووصفت لها بعض الأدوية المهدئة بعد أن طمأنتها وحددت لها موعداً للمراجعة بعد شهر.
مرت بقية الحالات بهذا الشكل وانتهيت من آخر مريض في الساعة الثانية تقريباً وأسرعت بالخروج حتى أتمكن من تناول الغداء والراحة.. وعند مدخل العيادة، وجدت أحد المرضى الذين عاينتهم قبل نصف ساعة، قد عاد ليطلب مني وصف دواء للديدان، وطلبت منه الروشتة لأصف له الدواء، ولكنني اكتشفت أنني لم أضع قلمي في جيبي عند خروجي من مكتبي كالمعتاد. سحبت المريض من يده إلى الصيدلية المجاورة، وأنا أصيح بالصيدلي داخلها: “يا خليل أعط هذا الرجل أقراص “الألبيندازول” للديدان، وانصرفت مسرعاً نحو سيارتي للهرب قبل أن يوقفني مريض آخر.
عدت إلى منزلي وتناولت طعام الغداء بسرعة لكي استطيع النوم ساعة أو أقل بعد الغداء، وهو أمر اعتدت عليه طوال حياتي، لأنه يعيد لي قدراتي ونشاطي، ويمكنني من مواجهة عملي لبقية اليوم، ولو حدث أن أعاقني عن نوم القيلولة طارىء، فإن بقية اليوم تصبح تعيسة ومرهقة للجسم والأعصاب وأعاني منها أشد العناء، ومهما حاولت فإن جزءاً من ذلك العناء والتعاسة ينتقل إلى مرضاي، الذين قد أتعامل معهم بجفاء وحدة وعصبية تزيد من قلقي وتعاستي.
وفي المرحلة الثانية من العمل التي تبدأ في الرابعة مساءً، تكررت الحالات وتتابع المرضى مثل ما كان خلال الفترة الصباحية، وتنفست الصعداء أخيراً في الساعة الثامنة والنصف مساءً تقريباً بعد أن خرج من عندي آخر مريض مع مرافقيه، وراجعت بعض الأمور خلال ربع ساعة، وعدت إلى بيتي قبل التاسعة بقليل.
جلست أمام التلفاز مرهقاً ومتعباً، وأقدامي تؤلمني وعضلات القدمين والساقين مشدودة ومؤلمة، وانتقل بين قنوات التلفاز وأشاهد بعضها من غير اهتمام، وبدون قدرة على التركيز.
بعد ساعة واحدة فقط من الراحة والاسترخاء، استطيع الشعور بأن كل تعب وألم وإجهاد قد زال تماماً، ثم استطيع أن أشعر بالصفاء الذهني والراحة يتسرب إلى عقلي، وتعود الطمأنينة إلى قلبي، وأصبح قادراً على الاهتمام بأموري الخاصة، وأبدأ في القراءة باهتمام وتركيز.
ومهما كانت مصاعب ومشاق العمل وإجهاده، فإن نفسي تمتلئ بمشاعر الرضا والراحة النفسية العميقة، لأنني قد قمت بواجبي نحو مرضاي الذين يمنحونني الحب والتقدير والثقة، واستطعت أن أقدم لهم الرعاية الطبية التي يستحقونها وأسهمت في تخفيف الآلام عن بعض بني الإنسان، حتى لو كان ما أقدمه إلى بعضهم ليس سوى ابتسامة أو كلمة طيبة أو أملاً في الصحة والشفاء.
وتحين ساعة النوم قبل الواحدة صباحاً، فأتوجه إلى مخدعي واستلقي على سريري لأحظى بساعات من النوم المريح، تعوض ساعات العمل المرهقة والمجهدة طوال اليوم.
وما أن أطفئ النور حتى يبدأ شريط المرضى الذين شاهدتهم خلال اليوم يمر أمامي متقطعاً، ولكن “صالح عبدالله” يقفز إلى ذهني ويطيِّر النوم من عيني، وتبدأ الوساوس والشكوك والأسئلة تتقافز إلى ذهني كالأرانب الشاردة: ترى كيف حالته الآن؟ ألم يكن علي أن أصمم عليه، وأبذل جهداً أكبر لإقناعه بالرقود في المستشفى؟ هل ما وصفت له من علاج كاف لإنقاذه من حالته؟ وما هو تشخيصه يا ترى؟ أليس في حاجة إلى جراحة إسعافية عاجلة اليوم؟.. ألم يكن من الواجب علي تحويله إلى أحد الجراحين وأخلي مسئوليتي عنه؟...؟...؟
وتلك الشابة التي اشتبهت بالتهاب الزائدة الدودية لديها.. أليست الآن في أشد حالات الألم؟... ألم ارتكب خطأً بوصف العلاج؟..
يمر بقية المرضى أمامي، وذهني يُقلب ما قمت به مع كل منهم... هل وصفت لذلك المريض المضاد الحيوي المناسب؟... أليست جرعة دواء الضغط التي وصفتها لتلك المريضة زائدة عن الحد؟.. ألم يكن أفضل لو طلبت كشفاً مقطعياً لتلك الشابة التي تشكو من الصداع؟... ألم يكن واجباً عليِّ أن أصمم على تلك المريضة التي لم تعد أدوية السكر الفموية مناسبة لها أن تتحول إلى العلاج بالأنسولين؟...
أحاول أن أوقف الشريط من الاستمرار في المرور أمام ذهني المتيقظ، ثم اجتهد في إبعاد المرضى عن تفكيري واحداً تلو الآخر، ولا انجح إلا عندما يتغلب علي سلطان النوم القاهر.
وغداً.. يومٌ آخر.
هوامش
(1) من : وصايا أبقراط” : ينبغي للطبيب أن يكون محتملاً للشتيمة، لأن قوما يقابلونا بذلك، وينبغي لنا أن نحتملهم عليه، ونعلم أنه ليس منهم، وأن السبب فيه المرض الخارج عن الطبيعة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.