أما انحشار البراز العادي فيحدث كثيراً لدى المسنين وخاصة الذين يعانون من إمساك مزمن وأمراض أخرى كالسكري والروماتيزم والقلب تحدد من حريتهم في الحركة، ولكن التشخيص لديهم كثيراً ما يتأخر بسبب الشك في الانسداد المعوي وما قد تسببه من الأورام السرطانية والتهاب رتوج القولون والتواء القولون وغيرها. من الظواهر التي يصعب تفسيرها في العمل الطبي في معظم المجالات أنه يحدث تجمع لحالات مرضية معينة خلال فترة قصيرة، فعلى سبيل المثال قد تمر علي ستة أشهر أو أكثر لا أشاهد حالة من حالات التدرن “السل”، ثم خلال عدة أيام أفاجأ بثلاث أو أربع حالات، ومن مناطق متباعدة وكأنهم على موعد، أو قد تمر علي أشهر عديدة لا أشاهد حالات من سرطان المريء أو المعدة أو المستقيم أو التهاب الزائدة الدودية أو الالتهاب الرئوي أو غير ذلك، ثم أواجه حالات عديدة من أي نوع منها خلال أيام متقاربة أو أسابيع متتالية. وقد حدثت مثل هذه الظاهرة لدي مع حالات انحشار البراز خلال عدة أشهر في مستشفى الحكمة، وكنت عندما أشخص حالة كهذه فإنني أنقلها إلى قسم الرقود حيث نجري لها تفريغ المستقيم، بتفتيت الكتلة بالإصبع، ثم بالحقنة الشرجية، وكان قسم الرقود الصغير يتحول إلى مكان لا يمكن لأحد أن يطيق الدخول إليه من شدة الروائح الكريهة التي تملأ جو القسم. وفي البداية كان الأطباء يتساءلون عن الأسباب، فيقول لهم الممرضون والممرضات بأن الدكتور الشريف قد أرقد حالة من حالات انحشار البراز، فيهزون رؤوسهم وينصرفون متأففين، ريثما تنتهي الإجراءات وتتحسن أجواء القسم وتعود إلى حالتها الطبيعية. وبعد أن تكررت الحالات خلال عدة أسابيع متتالية، فإن الأطباء كانوا إذا أراد أحدهم الدخول إلى القسم، وصدمته الروائح المنبعثة منه، يتراجع بسرعة وهو يقول “ها.. الشريف قد جاب حالة من حالاته!”، ويسألني بعضهم: “من فين تجيب مثل هذي الحالات!”.
وما يدهشني كثيراً أن ترفض النساء إجراء الفحص الشرجي، وعندما أطلب إجراء الفحص فإنني أقدم طلبي مغلفاً وسط كم من الاعتذارات والكلمات الغامضة وأنظاري منكسة إلى الأسفل، وبمجرد أن أدرك أنها فهمت طلبي، وأبدت أية علامات أو إشارات دالة على رفضها، فإنني أتراجع بسرعة عن طلبي، وكأن شيئاً من ذلك لم يخطر لي على بال. هذا طبعاً في الأحوال العادية، أما في الأحوال الأخرى التي يقوم لدي شبهة من الشك في وجود شيء مهم، وأن الفحص الشرجي ضروري للتشخيص والعلاج، فإنني أطلب إجراء الفحص بكلمات واضحة ومحددة، وأقوم بواجبي غير عابئ برأي المريض أو مرافقيه، أو أن الأمر يخرج عن حدود الذوق أو الأعراف الاجتماعية طالما كان ذلك يتطابق مع الأعراف والقواعد العلمية والمهنية الطبية، وفي مثل هذه الأحوال إذا ظلت المريضة متمسكة برأيها في الرفض، فإن ذلك حقها يخرجني من المسئولية أمام واجبات مهنتي وضميري. حضرت إلي مريضة ذات مرة تقترب من الأربعين من عمرها، وهي تعاني من نزف دموي شرجي شديد منذ ثلاث سنوات يتكرر عليها كل عدة أشهر، وقدمت إلي ملفاً كبيراً يحتوي على أوراقها ونتائج التحليلات المخبرية والمناظر الهضمية التي أجرتها، ومنها تنظير القولون مرتين أحدهما في القاهرة في مصر قبل أقل من عامين، كان قد تم تشخيص المريضة بأنها حالة من “التهاب القولون القرحي المزمن” وهو نوع نادر من التهابات القولون المجهولة الأسباب، وقرروا لها العلاج اللازم لذلك وهو الأمينو سالازين الذي تتناوله باستمرار منذ ذلك الحين. وفي تقديرها فإن العلاج لم يكن له أية فائدة تذكر، لأن نوبات النزف الشرجي لا تزال تتناوبها على نفس الوتيرة التي كانت عليها قبل العلاج. سألت ما إذا كانت تعاني كذلك من نوبات من الإسهال بدون حدوث دم، فقالت أنها لم تصب بالإسهال بدون دم أبداً، ويحدث لديها إمساك بسيط نادراً، ليوم أو يومين، ولكن حركة الأمعاء طبيعية دائماً كان هذا أمراً غريباً فمن الصعب قبول تشخيص التهاب القولون القرحي بدون نوبات من الإسهال، قد يصحبها الدم أحياناً، وقد لا يصحبها. وعدت أسألها ما إذا كان يحدث لديها ألم في الدبر أي فتحة الشرج عند خروج الدم،فامتعضت، وتبرمت، وأشاحت بوجهها إلى الجانب الآخر ، قائلة: “قده يخرج دم بلا حساب والأوراق قدامك..ليش عاد هذا الكلام..؟!”شرحت لها أنني أتفهم وضعها ومعاناتها،ولكن هذه المعلومات مهمة في التشخيص،وأنه مثلما يقول الفقهاء”لا حياء في الدين” فإن الأطباء كذلك يقولون:”لا حياء في الطب”. أعدت السؤال عن الألم في فتحة الشرج، فهزت رأسها موافقة، وعدت أسألها عن شدة الألم،فأشاحت بوجهها من جديد.استدرت نحو زوجها الذي لم يكن قد شارك بكلمة خلال المقابلة كلها، وهو أمر غير معتاد، وقلت له:”ألا تستطيع المساعدة في إخباري عن الألم وشدته وغير ذلك”. فقال :”المشكلة يا دكتور مثل ما تشوف قدامك الآن..تدخل الحمام وتتأخر ربع ساعة..وتخرج مدوخة..متألمة..وتتمدد نصف ساعة أو ساعة وهي تصيح وتئن وتتأوه..ولكنها لا تكلمنا عن أي شيء..وبعد ساعتين..ثلاث ..أسألها أو تسألها واحدة من البنات إن كان قد خرج منها دم..فتهز رأسها...لكنها لا تتكلم بشيء..وأنا أظن مثلما قلت يادكتور الآن أن ألم الدبر، هو المشكلة الأساسية عندها...لكنها لا تتكلم..زي ما أنت شايف”. قلت له أن هذه معلومات مهمة، ولكنني أريد أن أجري فحصاً شرجياً بمنظار صغير خاص بالشرج وحده، وشرحت له بأن تنظير القولون لا يشمل فحص فتحة الشرج، وفي المرتين التي أجري فيهما تنظير القولون، فإن الأطباء فحصوا وشاهدوا المستقيم والقولون ولم يقوموا بفحص فتحة الشرج، التي تتطلب منظاراً خاصاً لا يتطلب وقتاً ولا يسبب الكثير من الآلام. لكن المريضة رفضت إجراء الفحص بتصميم شديد وإصرار، وأبديت عدم رضاي، وأضفت لها بعض الإنزيمات الهضمية، ورجوتها أن تعيد التفكير في الأمر وتحضر إلي في أول فرصة إذا غيرت رأيها. وبالفعل عادت إليّ بعد أسبوع، وأجريت لها المنظار الشرجي وصدق حدسي فقد كان لديها ثلاثة أشراخ شرجية مزمنة ملتهبة، تنزف بشدة بمجرد اللمس ومحتقنة بشكل فائق. أجرت المريضة عملية الشرخ الشرجي بعد ثلاثة أيام، وكنت قد رجوت زوجها أن يتصل بي بعد شهر، لإبلاغي بالنتيجة أو يعود بها إليّ، إن ظلت تعاني من أي مشكلة وقل اتصل بي بعد أكثر من شهرين، وكان رقيقاً وكريماً في تقديم شكره وامتنانه.
وإذا كنت أتفهم وأتعاطف وأقبل عدم موافقة النساء، والشابات منهن خصوصاً، على الفحص الشرجي، فإنني استغرب عندما يصدر ذلك عن الرجال،ولحسن الحظ فإن رفض الفحص الشرجي بينهم أمر نادر. حضر إليّ مرة مريض من مدينة حيس القريبة من زبيد في تهامة، وكان يعاني من النزف الشرجي منذ شهرين، وقد استخدم علاجات عديدة للبواسير بدون جدوى،وأجريت له فحصاً عاماً وأخبرته بأنني سوف أجري له فحصاً شرجياً للتأكد من عدم وجود شيء آخر، ولكنه انتفض بحدة وانتصب بقامته، وقفز من فوق سرير الكشف قفزاً، وكأن ثعباناً قد لدغه، وهو يردد عبارات الرفض، وأنه لا يمكن أن يقبل بذلك وأن ذلك أمر معيب لا يجوز الحديث فيه. قلت له حينئذ بصراحة، أن الأمر قد يكون أكثر من البواسير، وقد يكون هناك شيء آخر وربما ورماً سرطانياً، ولابد من تشخيص مبكر حتى نقدر على فعل شيء تجاهه ولكنه راح يؤكد أنه ليس هناك أي شيء آخر، وأنه يريد مني علاجات قوية وأدوية فعالة للبواسير فحسب، وأمام إصراره لم يكن لدي سوى مجاراته في طلبه، وكتبت له بعض الأدوية، وطلبت منه أن يعيد التفكير في الموضوع، وأن يحضر إليّ في أي وقت يريده إذا غير رأيه. ولكنه لم يعد إلا بعد حوالي شهر، وعندما عرضت عليه الفحص من جديد استسلم بعد قليل من التردد، وأجريت الفحص ووجدت لديه بالفعل ورماً أسفل المستقيم،وقلت له: إنني يجب أن أجري له منظاراً للشرج والمستقيم وأخذ عينة من الورم, ولكنه عاد للرفض من جديد, وشرحت له خطورة الأمر ولكنه ازداد تصميماً. وبعد شهر عاد مبدياً موافقته على إجراء التنظير الشرجي, وقمت به في نفس اليوم وأظهر وجود ورم متقرح كبير أخذت منه عدة خزعات للفحص النسيجي, الذي أكد تشخيص السرطان. وعندما شرحت له وجوب إجراء عملية جراحية عاجلة عاد إلى الرفض من جديد, ولكنني في هذه المرة كنت حازماً وصارماً في عدم الموافقة على وصف أي دواء آخر, وقمت بكتابة تحويل له على أحد الجراحين الممتازين وقلت له أن هذا هو العلاج الصحيح ولاشيء غيره. وبعد أسبوعين كنت أدخل من بوابة المستشفى الخاص الذي حولته إليه لإجراء العملية الجراحية, وكان جالساً على أحد المقاعد, فقام نحوي بمجرد مشاهدتي وهو يقول لي:”خلاص.. خلاص يادكتور.. سمعت كلامك وباسوي العملية بكرة..!”. كانت لهجته وهو يقول ذلك تحمل نبرة يشوبها بعض الابتهاج, وكأنه يفعل ذلك ليجاملني ويدخل السرور إلى قلبي, فابتسمت له, وشددت على يده مشجعاً, ومتمنياً له السلامة.