كان المريض الذي دخل إلى مكتبي صباح يوم صيفي قائظ قادماً من منطقة باب المندب في تهامة. وعلى عكس أهالي هذه المنطقة، كان مريضي يتمتع ببنية متميزة مختلفة، فقد كان ذا قامة طويلة متناسقة، وبنية عظمية عضلية قوية، عريض المنكبين، ويبلغ منتصف الحقبة الخامسة من عمره تقريباً، ويكاد يخلو من أية ترهلات أو تجمعات شحمية، وكأنه يمارس رياضة كمال الأجسام. وعلى الرغم من بنيته القوية وطلعته المهيبة بلحية صغيرة مستديرة مشذبة بعناية وقد وخطتها الشعيرات البيضاء، فقد كان الألم واضحاً على سحنته، ولم يستطع الرد على تحيتي وترحيبي، بما يتناسب مع ما فيها من الحفاوة، وأدركت الأمر عاذراً. دعوته إلى الجلوس على الكرسي أمام مكتبي، فجلس ببطء وعناية، وأحنى جسمه مائلاً على مكتبي، حتى يتيح لنفسه الجلوس على شق من مؤخرته. وقبل أن ينبس بكلمة بادرته بلهجة تحمل شعوراً بمشاركته ألمه، قائلاً: يبدو أن لديك ألماً شديداً تحت، في الأسفل..أعني في الدبر، وكان شعوره بالارتياح من هذه البادرة واضحاً فقال: نعم..نعم..يا دكتور..الله يخليك ويحفظك..أنا طول عمري لم أعان من أي مرض، وحتى ما سبق لي أن تعاينت ولا مرة عند أي طبيب..لكن هذه المشكلة حدثت لي منذ أربعة أيام..فقد فوجئت بإمساك شديد، وخروج براز صلب بصعوبة شديدة، وخروج دم كثير بعد البراز الصلب لم يخرج بالكامل..فقد بقي جزء منه عالقاً في فتحة الشرج، ويسبب لي الألم الشديد والعذاب خلال هذه الأيام ..وقد تعاينت كل يوم لدى أحد الأطباء .هذه العلاجات التي وصفوها لي ..بدون فائدة..وأنا أذهب للتبرز كل ساعة أو ساعتين وأقضي كل وقتي في حالة من الآلام الشديدة حتى أني لا أنام ساعة كاملة أثناء الليل...وقام مرافقه بوضع ثلاثة أكياس من البلاستيك تحمل الأدوية التي وصفها له ثلاثة من الأطباء خلال الأيام الثلاثة السابقة، وكلها تحتوي على مجموعة متشابهة من المضادات الحيوية ومسكنات الألم والمراهم الشرجية والفيتامينات وداخل كل كيس الوصفة الطبية وفحوصات الدم العام التي أجريت له. سألته: وهل تلك القطعة من البراز الصلب التي حدثتني عنها لا تزال عالقة في مكانها؟ فأجاب بسرعة: طبعاً ...طبعاً هي المشكلة الأساسية ..وكلما حاولت أسحبها أثناء البراز، فإنها تسبب لي قدراً من الألم ..ويندفع منها الدم بغزارة . وعدت أساله: هل قام أحد الأطباء الذين عاينوك بفحصك من الدبر؟ فأجاب متبرماً: لا...لا..ولا واحد منهم كل واحد يقيس لي الضغط ويقول لي تمام ويعمل لي فحص دم ويكتب لي الرشدة...! فقلت له بلهجة تقريرية: إذاً ..سوف تكون أول خطوة نقوم بها هي أن أفحصك من الدبر، وأن ألقي نظرة على المنطقة الشرجية، وربما احتاج أيضاً إلى إجراء منظار شرجي إذا استدعى الأمر، فأمن على قولي وهز رأسه موافقاً وطلبت من الممرض المساعد أن يجهز للمريض المنظار شرجي بسرعة. وبعد نصف ساعة كان المريض جاهزاً للكشف الشرجي وكذلك الأدوات الضرورية، وقد قام الممرض بحقنه وريدياً بمسكن قوي للألم مع الديازيبام. كانت المنطقة حول الشرج متسخة ببراز شبه سائل، وقطع برازية صغيرة حولها مع دم متجلط وغير متجلط وبعد تنظيف المنطقة، أردت أن أبدا الفحص كالمعتاد بإدخال الإصبع السبابة إلى فتحة الشرج، ولكن شيئاً بارزاً حاداً وشديد الصلابة صدم طرف أصبعي، وكان جزء من ذلك الجسم الصلب بارزاً خارج فتحة الشرج، وهو الذي يسبب تسرب البراز من جوانبه. طلبت من الممرض أن يناولني جفتاً لاقطاً، أمسكت به طرف تلك القطعة الصلبة وأخذت أداورها وأحركها ببطء شديد وأناة إلى الجانبين، وأدركت أنها بالفعل ناشبة وعالقة في فتحة الشرج، فدفعتها ببطء نحو الداخل، وفجأة أحسست بأنها لم تعد عالقة، وأصبحت حرة الحركة، فقمت بسحبها إلى الخارج وتبعها قليل من الدم أكملت الفحص الشرجي بإدخال أصبعي، وفحص المستقيم فكان ممتلئاً بالبراز المحتجز، وخلاف ذلك لم يكن هناك شيء آخر، ولم يعد هناك ضرورة ولا إمكانية لإجراء التنظير. أنهيت الفحص، ثم قمت بغسل ذلك الجسم الصلب مما علق به في حوض الماء وبعد أن أصبح نظيفاً ولامعاً، أتضح أنه عبارة عن عظمة من عظام السمك ثلاثية الأذرع، وينتهي كل ذراع منها بطرف حاد قوي، وقد كان الذراع الأطول من العظمة هو الجزء البارز من فتحة الشرج، أما الذراعين القصيرين على كل جانب فهما اللذان كانا ناشبين ومنغرزين داخل الغشاء المخاطي لفتحة الشرج ويمنعان خروجها، ويسببان له كل تلك الآلام الهائلة والمكابدة والمعاناة مع النزف الدموي الشديد. وبعد أن أفاق المريض، وأراد المغادرة اخترت له واحداً من المضادات الحيوية التي كانت معه، ونوع من المراهم الشرجية لاستعمالها لعدة أيام، وسلمته عظمة السمك التي كانت سبب بلائه، وسألته: متى كانت آخر مرة أكلت فيها السمك ؟ فقال أنا أتناول السمك كل يوم يا دكتور ..”، وعدت أساله : ألم تحس بشيء عندما بلعت هذه الشوكة، أو أي شيء يجعلك تظن أنك قد ابتلعت الشوكة في الأسبوع الماضي؟ أجاب كلا...كلا لم أحس بشيء على الإطلاق”. وأدركت حينئذ أن البنية الداخلية لديه في الفم والأضراس والحلق والبلعوم، لا تقل قوة وشدة عن بنيته الخارجية الظاهرة.
مثلما يكون إهمال القصة المرضية أو جزءاً منها، مصدراً للأخطاء الطبية، فإن إهمال الفحص الحكمي أو جزءاً منه يشكل مصدراً آخر للأخطاء الطبية وقد تناقصت مهارات الفحص الحكمي لدى الأطباء بشكل كبير، وأصبح الفحص شكليا ومحدودا عند كثير من الأطباء بسبب اعتمادهم على المختبرات الحديثة، ووسائل التصوير الكشف الحديثة الفائقة الدقة كالموجات فوق الصوتية، والكشف المقطعي، والرنين المغناطيسي، والمناظير الداخلية المختلفة. أما المرضى فقد أصبح الأغلبية منهم، وخاصة النساء والفتيات، يعتبرون الفحص الحكمي فضولاً لا لزوم له، واقتحاماً لخصوصياتهم من غير طائل يعود من ورائه ويعتقدون أن الكشوفات والفحوصات الحديثة هي الفيصل الحاسم في الوصول إلى التشخيص وهذا التوافق بين الأطباء والمرضى قد أدى إلى إهمال أجزاء من الفحص وتحويل المرضى مباشرة إلى المختبرات ووسائل الكشف الطبي الحديثة وعندما أطلب من أحد المرضى الاستلقاء على سرير المعاينة، لإجراء الفحص الحكمي عليه، فإن الكثير منهم يتساءل باستغراب: “وأين الجهاز؟....”، وهو يقصد جهاز الموجات فوق الصوتية، وكأنه يقرر بحسم أن الاستلقاء على السرير لا يجب أن يكون إلا للكشف بالأمواج فوق الصوتية فحسب. كما أن لكثير من النساء والفتيات اللاتي يتحرجن من الفحص الحكمي وما يتطلبه من رفع الملابس عن بعض أجزاء الجسم، لا يجدن أي حرج ولا يبدين أي امتعاض أو اعتراض عند الكشف عليهن بالأمواج فوق الصوتية، بعد دقائق قليلة من رفضهن القاطع للفحص الحكمي العام. وأضطر كثيراً إلى تحمل شكوك المريض ومرافقيه مما يعتبرونه تضييعاً للوقت والجهد في الفحص الحكمي، لكي أمنعهم من دفعي إلى القفز فوق الوسائل الإكلينيكية ولكنني مثل كثيرين من غيري، أتجاوزها أحياناً، وأساير المرضى في طلباتهم ورغباتهم، على الرغم من إدراكي العميق لأهمية القصة المرضية والفحص الحكمي، وأولويتهما على الوسائل التكنولوجية الحديثة في الوصول إلى التشخيص. والحالة السابقة نموذج مثالي لخطأ حدث لثلاثة من الأطباء أهملوا جميعاً استكمال جانب مهم من الفحص الحكمي وهو الفحص الشرجي. وعلى الرغم من أن قواعد العمل الطبيب الإكلينيكي الراسخة تجعل الفحص الشرجي ركناً أساسياً يجب على الطبيب الباطني أن يجربه لكل مريض، ولكن ذلك أمر مزعج لا يريده معظم المرضى ولا الأطباء، ولذلك فإن الفحص الشرجي أصبح منحصراً للمرضى الذين يعانون من أعراض في المنطقة الشرجية، لكن الكثير من الأسباب الاجتماعية والثقافية تجعل إجراء الفحص الشرجي مزعجاً للمريض ومستنكراً على الطبيب الذي يطلب الإذن فيه من كثير من المرضى، الذين يتحرجون ويترددون،ويبدون من مشاعر الخجل والحياء، ما يجعل الطبيب نفسه يغرق معهم في مشاعر الحياء والخجل، ويتراجع عن طلبه محرجاً. وقد يذهب بعض الأطباء مع مرور الوقت إلى اعتبار ذلك الطلب غير لائق، ويحجمون عنه، بل ويسقطونه بشكل كامل متنازلين عن أداة ممتازة من الأدوات التشخيصية التي بحوزتهم.
خلال عملي لسنوات طويلة في الطب الباطني أتذكر عشرات الحالات التي كان فيها الفحص الشرجي أداة تشخيصية مهمة، قدمت لي خدمات جُلى،وتوصلت بواسطتها إلى تشخيص كثير من المشكلات منذ بداية عملي الطبي وحتى اليوم. في بدايات عملي في قسم الباطنية، كان الدرس الأول الذي تعلمته في أهمية الفحص الشرجي من طفلة في التاسعة من عمرها، أحضرت في مساء اليوم السابق إلى قسم الإسعاف بانتفاخ شديد في البطن وآلام بطنية شديدة وإقياءات متكررة وإمساك حاد كامل. كان التشخيص الابتدائي الانسداد المعوي الحاد،ولما لم تظهر الأشعة العادية للبطن سوى كميات كبيرة من الغازات المحتجزة في الأمعاء،بدون علامات الانسداد فقد رأى طبيب الجراحة،وكان أحد كبار الجراحين الصينيين في مستشفى الثورة العام بتعز رقودها في قسم الباطنية للملاحظة لمدة 24 ساعة. وفي صباح اليوم التالي كان اثنان من أطباء الباطنية الصينيين يتشاوران في حالتها مع زميلهم الجراح من أجل إجراء العملية، لاحظت أن الطفلة كانت في حالة مستمرة من الألم،ولكن الألم يشتد بين حين وآخر على شكل موجة من المغص في عمق الحوض،وليس في منتصف البطن كالمعتاد، وتمتد يدها إلى دبرها لتضغط عليه وينحني جسدها ويميل جانباً، وهي تصرخ من شدة الألم. قلبت أوراق المريضة فلم أجد إشارة إلى الفحص الشرجي،فقلت للأطباء المجتمعين حولها، :إنني سوف أخذها إلى غرفة مجاورة منفردة لإجراء الفحص الشرجي،وعندما أدخلت أصبعي من خلال فتحة الشرج وجدت المستقيم مسدوداً، بكتلة برازية هائلة شديدة الصلابة، وعندما بدأت العمل على تفتيت الجزء الصلب من الكتلة كان كل ما يخرج منها كميات كبيرة من بذور التين الشوكي أو البرشومي الشديدة التماسك والتلاصق، وقد تطلب مني تفتيت الجزء الأكبر من الكتلة حوالي نصف ساعة، وأصبحت الأجزاء التالية أقل صلابة وأقل تماسكاً، فطلبت من الممرضة إجراء حقنة شرجية لتنظيف بقية محتويات القولون. وخلال الفحص دخل الأطباء الصينيون علي لإلقاء نظرة وكانت دهشتهم شديدة بأن التين البرشومي يمكن أن يحدث انحشاراً برازياً في المستقيم، ويتشابه مع الانسداد المعوي، وسألني الجراح إن كنت قد شاهدت مثل هذه الحالة كثيراً في بلادنا؟ فقلت له:إن هذه أول حالة أشاهدها ولا أعتقد أنها ستتكرر. كانت الطفلة من قرية من قرى جبل صبر المطل على مدينة تعز،حيث تكثر في قراه أشجار التين الشوكي” أو البُرشُم” وهي مشاع لكل من لديه القدرة على تحمل الأشواك والصبر عليها ليجمع منها قدر ما يريد، قالت لي أمها: إن أبنتنا تحب التين البرشومي وإنها خلال اليومين السابقين قد أحضرت منها كميات كبيرة، وإنها لم تتناول طعاماً آخر سوى التين.