في مساء الليلة التالية أصيبت المريضة بألم هائل في جميع أنحاء البطن مع الإغماء الكامل، وتم نقلها إلى قسم الإسعاف بأحد المستشفيات الكبيرة، وكانت في حالة صدمة دورانية شديدة حيث هبط ضغط الدم لديها إلى درجة لايمكن فيها قياسه وهبط تركيز هيموجلوبين الدم إلى أقل من 4جم/ ليتر “الطبيعي في مثل هذه الحالات من 1113 جم/ ليتر” وبدأ إسعافها على الفور بنقل الدم والمحاليل الوريدية. أظهر الكشف بالأمواج الصوتية أن الجنين في حالة من الكرب ونبضه متقطع وغير منتظم، ولكن تجويف البطن والحوض كان ممتلئاً بكمية كبيرة من السوائل، وبسبب الحمل،فإن أحداً لم يستطع التفكير بأن هذا السائل يجب أن تسحب منه عينة صغيرة بالإبرة العادية للتأكد من طبيعته في مثل هذه الحالات. لو أن المريضة كانت حامل في الشهر الثاني أو الثالث على الحد الأقصى لكان تشخيص الحمل خارج الرحم، هو أول الاحتمالات التي تقوم في الذهن ، ولكان أي طبيب قد قام بسحب عينة من السائل، ولأصبح وجود الدم في التجويف البطني علامة واسمة على الحمل خارج الرحم، لكن الحمل لدى هذه المريضة كان في الشهر السادس وهي قد أنجبت خمسة من الأبناء سابقاً، ويصعب التفكير بوجود آفات الرحم الخلقية في مثل هذه الحالات. وفي صباح اليوم التالي استقرت حالتها بعد نقل عدة ليترات من الدم وتم إدخالها إلى غرفة العمليات كحالة استكشافية وكان الدم يملأ كل تجويف البطن والحوض بكميات كبيرة. وبعد تنظيف وتصريف الدم الذي كان يملأ الحوض والبطن، ظهر أن الرحم كان متمزقاً بشكل شديد في جهته الخارجية العليا، وأن هذا الرحم ليس ألا القرن الأصغر من الرحم ذي القرنين، أما القرن الآخر الأكبر فقد كان متضخماً كما هو متوقع وملتصقاً بجانب القرن الأصغر المتمزق والذي يحمل الجنين الذي قد كان نبضه قد توقف قبل إدخالها إلى غرفة العمليات بعدة ساعات. ولم يكن هناك أي تصرف آخر ممكن سوى استئصال الرحم مع الجنين الميت لإنقاذ حياة المريضة، وهذا يعني أن المريضة كان لديها الخلل الخلقي المعروف “بالرحم ذو القرنين” وأن كل حملها وولاداتها الطبيعية السابقة كانت تتم في القرن الأكبر، ولكن هذه المرة حدث لديها الحمل داخل القرن الأصغر، وهذا يفسر حالتها بكل وضوح ويعيد ترتيب القصة كلها بشكل طبيعي ومفهوم. إن الألم البطني مع حدوث الدوخة والإغماء لدى أي مريضة في سن الحمل هو نموذج وصفي للحمل خارج الرحم، يسببه انبثاق الدم إلى التجويف البريتوني الذي يتميز بشدة الإحساس بالألم، ويصيب المريضة بهبوط ضغط الدم والدوخة والإغماء، مثلما يحدث لشخص تلقى لكمة شديدة مفاجئة على بطنه. أما تكرار حدوث النوبات الألمية مصحوباً بالهبوط والدوخة والدوار والإغماء، فمن الصعب أن يتسبب فيه شيء آخر غير الحمل خارج الرحم. ولكن الحمل لدى هذه المريضة كان واضحاً أنه داخل الرحم، وأنه طبيعي تماماً، ولما كانت المريضة تقترب من الأربعين، ولديها خمسة من الأبناء فقد كان من الصعب إن لم نقل المستحيل، أن يجرؤ طبيب على وضع الحمل القرني على قائمة الاحتمالات التشخيصية. لقد كان الطبيب الذي عاينها قبلي محظوظاً حين وجد “الماء” في البطن، ولكنه لم يستغل هذه الفرصة للحصول على عينة من السائل البطني، ويكتشف أنه دما، ويحقق الفرصة لاكتشاف حالتها بشكل مبكر، وللإنصاف فإنه ما كان أي طبيب آخر سوف يفكر أن ذلك السائل دماً، حتى يطلب فحصه، ولا أعتقد أن امرأة حبلى سوف تقبل غرس إبرة في بطنها للحصول على عينة من السائل، ولكن التفسير المريح الذي قدمه الطبيب لوجود ذلك السائل بوجود مرض مزمن ومتقدم لديها في الكبد كان خاطئاً، ولكنه قد يكون مبرراً وربما مقبولاً، لأن تليف الكبد هو أكثر الأسباب شيوعاً لحدوث الاستسقاء البطني. عندما أتت المريضة إلي لم أقدر مثل غيري تمييز الوصف النموذجي المتميز للنوبات الألمية البطنية الحادة المصحوبة بالدوخة والهبوط والإغماء، ولم أضع هذا الاحتمال في قائمتي التشخيصية، وما كان لي أن أقدر عليه. ولأن الدوخة والإغماء أعراض منتشرة، ويشكو منها الكثير من المرضى والتي يندر جداً أن نجد لها سبباً محدداً، فإن الطبيب يتعود على التقليل من شأنها أو تجاهلها. لو أن حظي كان جيداً، ووجدت “الماء في البطن” الذي شاهده زميلي قبل عشرة أيام، فربما كنت سوف أعرض عليهم بزل البطن للحصول على عينة، ولكن ذلك ليس قائماً على احتمال أن يكون السائل دماً، بل لأنني ألتزم بقواعد محددة وصارمة في عملي، ومنها الحصول على عينة من أي سائل في البطن مهما كان التشخيص لدي واضحاً. لو كان ذلك قد تم فربما كان وجود الدم في البطن سوف يدهشني وسوف أضع العديد من الاحتمالات، وربما يكون بينها الحمل القرني بكل تأكيد، خاصة إذا أعدت تفسير النوبات الألمية المصحوبة بالإغماء بناء على معرفتي بوجود دم في تجويف البريتون. ولأن الرياح لا تجري دائماً كما تشتهي السفن، فإن ماحدث صار واقعاً بالرغم من كل شيء. ظللت لعدة أيام بعد ذلك أعيد تقدير موقفي وأعيد التفكير كيف قادني فكري إلى وجهة خاطئة، ولكنني لم أشعر أبداً بأنني قد أهملت شيئاً، أو أغفلت شيئاً كان يمكن تداركه. إن هذه الحالة بطبيعتها وبطريقتها في الظهور تشكل نوعاً من الأخطاء الذي يمكن أن نصفه “بالخطأ الذي لا يمكن اجتنابه”، والذي يحدث كثيراً في جميع أنحاء العالم، حين تظهر حالة شائعة على شكل شديد الندرة، أو حين نواجه مرضاً نادراً غير محدد، أو مرضاً جديداً مثل ظهور الإيدز، أو ظهور حمى الضنك في بلادنا خلال السنوات الأخيرة. كما يحدث مثل هذا الخطأ لدى بعض المرضى النفسيين، مثل مرض “مونشوزن” الذي يقوم فيه المريض بنفسه بإحداث الأعراض وتزييفها، ويزيف العلامات ويضلل الطبيب ويقوده إلى تشخيصات بعيدة كل البعد عن حالته. ويحدث “كذلك، لدى بعض المرضى الذين لا يقدمون المعلومات الضرورية للطبيب، ويخفونها عمداً لأسباب أسرية أو قانونية، مثل مريض شاب شاهدته مرة مصاباً بطعنة نافذة في تجويف البطن من سكين صغيرة حادة حدثت له أثناء العبث و”الصفاط” مع صديق عزيز لديه كان يرافقه، وصمم على أن الإصابة كانت ناتجة عن وقوعه من الدراجة الهوائية التي كان ينطلق بها مسرعاً وأحدثت تلك الإصابة لديه. وعندما اتضحت الحقيقة بعد يومين بحدوث الالتهاب البريطوني العام الناتج عن انثقاب الأمعاء، كانت النتيجة بالنسبة له كارثية.
وبعد حدوث هذه النتيجة السعيدة للمريضة والتي تعاطفت معها بشدة بيني وبين نفسي بعد ذلك، وإحساسي بأنني قد ظلمتها وتكونت لدي مشاعر سلبية ونفوراً منها عندما عاينتها على الرغم من أنني لم أظهر لها شيئاً من ذلك، وتمنيت لو أقابلها وأعتذر لها وأشرح لها مبرراتي راجياً أن تتمكن من تقدير حجم التحديات التي كانت تضعها حالتها أمام أي طبيب، وربما أطلب منها المسامحة والغفران لي وزملائي الذين سبقوني في معاينتها. ولكنني بعد عدة أشهر قابلت زوجها بالصدفة، وسلمت عليه بحرارة وهنأته على سلامة زوجته، وأخبرته أنني تابعت حالتها بقلق شديد تلك الأيام ساعة بعد ساعة، وكنت أخشى أن تفقد حياتها بسبب التشوه الرحمي الخلقي النادر الذي يصعب تشخيصه على أي طبيب. ولكنني فوجئت به يقول لي بإنكار شديد لتعاطفي وحماسي للنتيجة السعيدة التي أعادت إليه امرأته من فم الموت، وكان وجهه عابساً ومتجهماً : “ بس.. وإيش الفايدة ...؟!!..”، ورفعت عيوني إليه مندهشاً، وأنا أسأله :” كيف مافيش فايدة ؟!، فأجاب بامتعاض شديد، وهو يشوح بيده : “راح الجنين.. راح الرحم.. وراح كل شيء!! خفضت بصري، وغصصت بريقي، وكتمت مشاعري، وباخ حماسي عندما أدركت أنه لا يعتبر الأمر كله يستحق التهنئة على السلامة لحياة زوجته، وربما كان يعتبر أنه يستحق التعزية لخسارته، ولم أستطع أن أنبس بكلمة، لأنني أدركت ساعتها أن مايقلقني ويشغل بالي ويقض مضجعي، ويعطل ساعات راحتي، من مسائل التشخيص والخطأ الطبي، وما أحس به من تقصير أبحث له عن أعذار ومبررات، هو أمر لا يشغل بال أحد غيري، فالناس في وادٍ، وأنا في وادٍ آخر.