مهارات صنعتها الموهبة ، وإبداعات صنعت لأصحابها التميز.. ومن هذا المزيج : «الموهبة المهارة الإبداع» خرجت إلى النور أعمال عظيمة أضافت إلى الحياة رونقاً جديداً وسمت بالفكر الإنساني الخلاق إلى مصاف القدرة على الإنتاج الخالد في ذاكرة الزمن ليصبح المبدع بلا منازع هو الوجه المتجدد للحياة دون أن يفقد شيئاً من ثقافته الموروثة لأنها تمثل أصالته التي هي منبع سريانه المتدفق بالعطاء في زمانه المعاصر وصولاً به إلى رسم ملامح رؤيته المستقبلية.. وهذا التميز للمبدع هو مايجعلنا نقف أمامه بكل إجلال وإكبار ونبذل مااستطعنا على رصده وتوثيقه - أياً كان نوعه أو مجال إبداعات فكره ووجداناته في الحياة.. الإبداع والحياة إذا كان الإبداع هو عبق الحياة ونبض حيويتها المتجددة.. فإن المبدع هو الزهرة التي يفوح منها ذلك العبق وهو قلبها النابض بالحيوية المتجددة بل إنه - أي المبدع - هو الحقل الذي تنمو في تراباته النقية تلك الأزاهير العاطرة ويظل يرويها من نبع مواهبه وقدراته الفذة حتى تصبح أشجاراً من الإبداعات المثمرة التي تؤتي أكلها كل حين.. لذلك فإن العلاقة القائمة بين الإبداع والمبدع من جهة والحياة عامة من جهة أخرى إنما تكمن في ذلك الأثر النافع والممتع الذي يتركه المبدع للناس والزمكنة فترقى به اليوميات الحياتية الإنسانية المعاشة وتصبح أكثر قدرة به ومعه على مواكبة العصر دون فقدان أي من القناعات الموروثة. نجارون مبدعون قد تبدو «النجارة» أنها صناعة بالدرجة الأولى قائمة على أسس علمية معطياتها الأساسية الآلات والمعدات المختلفة.. ولكنها في الحقيقة ليست كذلك لأنها فن ومهارة وإبداع متوارث جيلاً بعد جيل منذ عشرات السنين لسبب بسيط جداً وهو أن هذه المهنة وخاصة في بلادنا اليمن لم يعرفها مبدعوها عن طريق الدراسة العلمية أو بتوافر الآلات والورشات المعروفة الآن وإنما امتهنوها وبرعوا فيها بماتوافر لهم من مواهب ومهارات وخبرات متوارثة صقلتها إبداعاتهم المتجددة وطوعتها مع موكب الزمن لتصبح قادرة على تلبية متطلبات الحياة ومؤدية دورها في المجتمع وقد اشتهرت في تهامة بهذه المهنة الكثير من الأسر والبيوتات لدرجة أن بعضهم ارتبطت صفة عمله كنجار باسمه الحقيقي لتصبح لفظة «النجار» هي لقبه. ومن هذه الأسر المشهورة بحرفة النجارة في «تهامة» أسرة «آل خريم» بحيس.. دكاكين متواضعة على الطراز القديم في وسط السوق القديم بالمدينة.. مناجر تقليدية جداً وكل أدواتها لم يطرأ عليها أي تبديل أو تحديث فهي نفسها الأدوات المتوارثة من الأجداد فالآباء فالأحفاد المعاصرين. وبقراءة متأنية لمحتويات «المنجرة» أول ماتدخل بك قدماك تأسرك الدهشة من فوضى «الكراكيب» التي يضج بها المكان وكلها أخشاب متناثرة هنا وهناك وأول ماتمعن في النظر تكتشف وبدون أي عناء المشاريع المزمع تنفيذها من قبل «النجار» الذي يجلس القرفصاء وسط تلك الكراكيب وأمامه وبجواره أدواته التقليدية.. -الاسم: «محمود طيب خريم» وعمره لا يتجاوز الثلاثين عاماً. - المهنة: «نجار» ولكنه نجار مثقف وثقافته أكبر من عمره.. - أدواته: نفس الأدوات المتداولة في مناجر «بني خريم» وهي الموروثة عن الآباء والأجداد ومن قبلهما وهي كالتالي: -«القدوم» وهو مايقوم بمساواة الأخشاب المعوجة ويعمل على مساواتها وجعلها مستقيمة تفي بالغرض.. وهذه الأداة حل محلها الآن لدى الورش الحديثة حل محلها «الفارة الكهربائية». - «المنشار» وهو ما يستخدم لقطع الخشب وهو نوعان: فردي وزوجي ويسمى الأخير «الشريخ» ويقطع الأخشاب الكبيرة. - «المنقار» يستخدم في نقر الأخشاب بمختلف أحجامها ونقشها وتحسينها وقد حل محله الآن «النقاشة» الكهربائية. - «المخدر» ويستخدم في تثقيب الخشب لادخال المسامير دون ان يتشقق الخشب وقد حل محل هذه الأداة «الدريل الكهربائي». - «الفارة» وتستخدم لتنعيم وتحسين الخشب.. وقد حل محل هذه الأداة «الجلخ الكهربائي» ...إلخ. وبهذه الأدوات استطاع المبدع «محمود طيب خريم» تجاوز حدود إمكانات الموروث إلى مرحلة متقدمة من القدرة على إنجاز أعمال حديثة بنفس الروح التي ورثها + قدرته على الإبداع.. فإذا نظرنا إلى أهم أعمال منجرته منذ القدم فإنها لاتعدو ان تكون ملبية طلبات المنازل ذات الطابع القديم. - «منابر صغيرة وكبيرة» وهي تستخدم للجلوس عليها في البيوت والأماكن العامة. - «أدوات آبار الماء القديمة» كالبكرة وأدوات الأطفال في مهادهم «الجراية - الجلاسة» وأدوات ألعابهم «الطبابة - الدروام». - أدوات زراعية كالمحراث والمخلب وعمود الثور.. - أدوات بناء «أبواب - شبابيك - عيدان سقف - صناديق - خزانات.. إلخ. - «أجباح العسل للنحل».. - «المعاصر» التي يستخدم فيها «الجمل لعصر زيت السمسم» ...إلخ. لكن هذا المبدع وبرغم حداثة سنه وتواضع إمكاناته إلا أن «محمود» وصلت به الموهبة إلى القدرة على صناعة دواليب حديثة - العاب حديثة «كيرمات - بلياردو - قطعات شطرنج ...إلخ، وكله من الخشب وبنفس الخشب المحلي والأدوات التقليدية.. - عندما سألته عن كيفية اكتسابه لمهنة فن النجارة.. رد علي بالقول اسألني كيف استطعت الصمود بهذه المنجرة أمام تقدم فن النجارة وهنا سأقول لك ان الإبداع لايعترف بالزمن وليس له حدود وأنا انسان يمني من آلاف اليمنيين المبدعين غيري الذين حافظوا على هويتهم الثقافية الموروثة واستطاعوا بمهاراتهم ومواهبهم أن يطلوا على العصر بإبداعاتهم.. والنجارة كفن لها جذورها الأصيلة وقادرة - كما ترى - على الخلق والتجدد فاليمنيون مبدعون بالفطرة فإن توافر لهم الدعم اللازم أصبحوا أكثر إبداعاً.. وهأنت ترى بأم عينيك ان النجارة الفن كيف يستطيع المبدعون عصر أفكارهم ومهاراتهم ومواهبهم الموروثة وتطويعها وإحالتها أعمالاً فيها من عبق الأصالة مااستطاع ان يزاحم المعاصرة بكل تحدٍ وثقة ومواكبة.. فهأنت ترى «قاعدية عملنا» نكهة الأصالة وسر مهنتنا الذي نعتز بها استطعنا تلبية متطلبات «البيوت» وهنا مكمن الإبداع.. ثم حمل في يده «دروان» من صناعته وآخر «صناعة مستوردة » وقال لي قارن بين النوعين.. وإذن !! فإن هذا الزخم الذي تنضح به مناجر «بني خريم» إنما يتمثل في هذا الجيل من الشباب أمثال المبدع «محمود» الذين رأيناهم ومازلنا وقد أعطوا آباءهم وأجدادهم قسطاً من الراحة وأمسكوا بزمام المبادرة في تجديد رصيدهم الفني في النجارة داخل بيوت فنهم العريق لتبدو بهم المهنة حية متجددة تعكس روح هذا الجيل المبدع المتشبع من ثقافة تراثه والمليء بالتحدي والقدرات على مواكبة العصر وبمالايطمس ملامح الهوية. وقبل الوداع ابتسم في وجهنا بعد ان شرح لنا كثيراً عن النجارة التقليدية والمعاصرة في صومعاتهم المتواضعة، ثم قال لنا: ألا يوجد إعلام خاص بفنون التراث اليمني؟ ليس في النجارة فقط بل وفي كل إبداعات شعبنا المعاصر؟ وعندما هممت بالرد عليه.. قاطعني: أقصد أن مثل هذه اللفتة الكريمة من صحيفة الجمهورية بادرة طيبة نرجو ان نكون في محل اهتمام واعتبار الحكومة ليس إعلامياً فحسب بل ودعماً مادياً يجعلنا أكثر إبداعاً. - الدروام : هو قطعة خشبية تلف عليها خيط من الجد وبوسطها مسمار يلعب بها الاطفال.