تنتشرُ القُمامَةُ في شارعِ سوقِ الحارةِ..أكياسٌ، صناديقٌ، علبٌ، وقواريرُ فارغة، وتتحول إذا هَبَّتْ ريحُ على المكان إلى أشباحٍ تتحركُ بشكل هستيري!. وثمة كلبٌ أعورُ يركضُ وراءَ جريدَة مُمَزَّقةٍ.. تبرمُ في قَصَبَةِ ريحٍ دوَّارة، ك”دون كيشوت” في قتالِه المُستميتِ لطواحينِ الهواء.. ظناً أنها الشرُ كُلهُ، فسقطُ أرضا وقد خارتْ قواهُ وزادَ لُهاثُه، لكنه ظلَّ يُحركُ ذَيْلَه إشارةً إلى أنه ما يزالُ حياً لقطٍ أسود سمينٍ وَقفَ يُشاهدُ “العَرضَ” وهو يَجلسُ مُنتصباً على قائمتيه الأماميتين وعَجِيزَته. يُشاركه متابعة قتال الكلبِ للريح رجلٌ نحيفٌ طويلٌ ناهز الستينَ من العُمر. له فكٌ بارزٌ وفَمٌ مفتوحٌ من دونِ أسنانٍ غير أرْحَاء تآكلتْ تيجانُها. يسترُ نصفَ جَسدِه، وان كانت قامته المديدة وملامحه تنم عن ماض لا يمت للحاضر ولا لحالته النفسية بصلة.. جسد لم يبقَ منه سوى عظامٍ وجلد، بأقمشةٍ رَثَّة مُرَقَّعَة لم يُشَاهدْ على جَسَدِه غَيْرُها.. يَشُّدها حولَ خاصرتِهِ بحبلٍ يستخدمُه لربط الأحمال ويَربطُ رأسَه بمنديلٍ أحمرَ يُحكمُ وِثَاقه.. اسمُه “حسون”، ويُضيفُ سكانُ الحارة وتجارُ السوق وزبائنُها صفةَ “المجنون” إلى اسمِه.. أقامَ له، بجوار جذع شجرةٍ عجوزٍ ليس لها من الحياة سوى أغصانٍ أشبه بالنبال، غرفةً صغيرةً لا تتجاوز أبعادُها طولَ قامَتِه.. بناؤها من موادٍ تتراوحُ بين إطارات السيارات وألواح الكرتون. يَعملُ خلال النصفِ الأولِ من النهار حمالا.. يجمع أكياسَ الكُنَاسة من المطاعم والدكاكين والمنازل، وينقل مشترياتِ الزبائن إلى مَنازلِهم أو سياراتِهم على أكتاف نصفِ عاريةٍ.. جهدٌ بلا ثمن!. وخلال النصفِ الثاني من النهار، يَتحوَّلُ إلى حلاق يفترشُ الأرض. بيدَ أن جنونَهُ لا يمنعُ الناسَ، لاسيما الفقراءُ منهم، من تسليم رِقَابِهم لشفرةِ الحلاقةِ التي يُمسِكُها بيدٍ ترتجف! لا يشترطُ سعراً محدداً لخدماتِه وإنما يتركُ الأمرَ للزبون لِدَسِّ ما يقدرُ عليه من النقودِ في عبوةٍ معدنيةٍ صغيرةٍ وَضَعها إلى جَانبِه مادامَ المبلغُ قطعا مَعْدَنية، فهو لا يَثِقُ بالعُمْلَةِ الورقيةِ مهما كانت قيمتُها؛ فقد شُوهِدَ ذاتَ مرةٍ يُنَظِّفُ شفرةَ موسِه بواحدةٍ منها. هو أيضا لا يتقيدُ بوجود زبونٍ قد حلقَ نصفَ ذقنِه، أو قصّ بعضاً من شعرِ رأسِه عن مُسَاعَدةِ عَجوزٍ لا تقوى على حَمْلِ مُشْتَرَياتِها من دُكانِ البقالةِ أو الوقوفِ وسطَ شارعِ السوق لتنظيم حركةِ المُشاة والسيارات. يَصعُبُ تَفسيرُ ذلك التناقضِ الظاهرِ في شخصيتِه.. تلك التي تجمع بين الرُّشدِ والجنون.. بين صفاءِ الذِهنِ الذي يَسْتَدْعيْه تنظيمُ حركةِ المرور؛ إذا ارتفعت أبواقُ السياراتِ، وأصواتُ العتّالينَ، والعُصابِ الذي لا يُمَثلُ خطرا على أحد حتى عندما يضعُ شفرةَ الحِلاقَةِ على رَقَبةِ زَبونٍ يَمْسُك برأسِه وكأنه على وَشَكِ ذَبْحِ شاه!. وإذا غاب فإن صوت خافت يأتي من خيمته دلالة على معاناة من آلام حادة تصيبه في الرأس.. “صداع شديد يمنعه أحيانا من النوم أياما!”. هذا ما قاله صبي القهوة وهو يحضر لي كوبي اليومي المعتاد الشاهي باللبن. جنونُ حسون مثارُ شكِ بَعضِ سكانِ الحارة.. يظنُ بعضُهم أنه مَدْسوسٌ، وتُؤكِّدُ صحةَ شُكُوكِهم سلاطة ُ لسانِه لاسيما على المَرْمُوقينَ من الرجال والمسئولين، ولا يسلم من بذاءة كلامه أغنياءُ المدينةِ وتجارُ السوق!. لا أحدَ يعرِفُ كيفَ جاءَ حسون ومن أين غير ما يَذْكُرُه أحدهم أنه شاهدَ صورَتَه قَبْلَ سنواتٍ مُرْفَقَة ً بإعلانٍ في جريدةٍ يدعو كُلَّ من يَعرفُ شيئا عنْه إلى الاتصالِ بأهله؛ فَقَدْ “خَرَجَ ولمْ يَعُدْ!.