سراديب مظلمة إلا من إشعاع الوحشة يتصاعد منها الدخان في كل مكان فيكاد يلف الكل .. الموت يبدو أقرب إلينا مما نتصور. نلتمس طريقا ضيقا في الظلام ...وسط السرداب الأضيق...يمسك كل منا بجسد صاحبه في خوف. _صه ...عواء ذئب موتور غدار يتعالى..من أحد السراديب. _سليمان يا حبيبي يا فلذة كبدي...لا تفقدن الأمل. لابد من نهاية لهذا السرداب المظلم.(يتهادى صوت والدي الخمسيني في هدوئه المعهود ليعانق قلوبنا مشتتا عنها الشعور بالرعب للحظات). ارتمى أخي الأكبر سليمان الضابط عند قدميه ...يتنفس بصعوبة ...يزفر بشدة ...أحسست بزفيره الساخن فوق صفحة وجهي المرعوب ...تحسست رأسه ورقبته فبدا غارقا بالعرق. _ سليمان تحرك تحرك . العواء... إنه يتصاعد ويقترب ...أجذبه إليّ بقوة ...أساعده على الوقوف بجراحه...يتحرك ولكن بصعوبة وببطء. _هناك يبدو نور ضئيل ... هيا بنا إليه .(يعلو صوت والدي ينتشلنا من أحاسيس اليأس القاتلة ...يتقدمون خلف أبي وأنا آخرهم ...أنادى فيهم ..) _أبي كن حذرا ..أبي لا تجازف..عامر كن بالقرب من سليمان. عامر الصغير الفتى الجامعي المتمرد صاحب اللسان اللاذع والجسم الرياضي مفتول العضلات... صامت الآن على غير العادة ...لكن إلى متى سيظل صامتا لا يتكلم.؟. أحس بأشباحهم تتقدم ...أتجلد وأمضي خلفهم وكأني لا ألوي على شيء...(فجأة) العواء ما ينفك يعود يمزق الهدوء الرتيب إلا من وقع خطواتنا على أرضية السرداب الرطبة العفنة ...العواء صار قريبا جدا ...يا ويلي العواء الآن يبدو صنو الموت. _ تبا للساعة التي ولجنا فيها هذه السراديب وحيدين. أسمع عامرا يبدأ الشكوى من جديد ... كم كان صمته رائعا ولكنه يواصل: _لقد قلت لكم من الأفضل أن أصطحب معي زملائي الأفذاذ...كي نغزو السرداب مجتمعين فلم تسمعوني. يتصدى له سليمان الضابط أخي الأكبر في ضعف ظاهر: _ تبا لك ... ألا ترى ما نحن فيه ... السراديب والدخان والحر والرطوبة والذئب ... نعم الذئب ثم أنت ... كفى كفى، ارحمنا ...آه ،آه (يعجز أخي عن الكلام .لو واصل لو ... لقال كلاما أعظم ...فيما يبدو). _لا تجهد نفسك يا ولدي ..أنت مريض وجريح ..دعك من عامر الفتى أخرق... لا يعي ولا يعني ما يقول (يربت والدي على رأسه مهدئا ومشجعا). _ هيا تقدم ها قد بلغنا نهاية السرداب (العواء من جديد يعود لكن أشد مما كان) يأبى عامر إلا أن يرجع بالسخرية الممجوجة: _ سمعت أيها المغامرون في هذا السرداب الواسع الرغيد معلومة مفادها ... أن الذئاب لا تهاجم فريستها مباشرة وابتداء ... بل تطارده وتجهده وتميته ألف مرة من الرعب ... ثم وفي اللحظة المناسبة.. _ قلت كفى ... كفى .. ليتني أستطيع الوصول إليك ... وإسكاتك يا عديم الشعور (يصرخ سليمان المسكين فاقدا أعصابه). نصل إلى ما يبدو أنه نهاية السرداب المأمولة .. يوجد مشعل بالجوار ... لحسن الحظ... يخطفه والدي خطفا ... بدا المشعل في تلك الساعة أملا آخر للنجاة... يقربه منا يتأكد من عددنا .. بدت وجوهنا عندئذ وجوه أشباح أسطورية كتلك التي كانت تخيفنا بها جدتي صغارا .. يرفع والدي المشعل إلى أعلى من مستوى رؤوسنا جميعا ليضيء أكبر مساحة من السرداب الموحش... ونواصل السير الحثيث. _ لقد تعبت يا أبتي ... لا أقوى على التقدم أكثر من ذلك... واصلوا أنتم .. واتركوني هاهنا (يكاد سليمان أن يستسلم لليأس في تلك اللحظة في قاع السرداب). _ ما هذا الكلام يا سليمان؟! ما عهدناك خوارا تستسلم لليأس .. هيا يا ولدي تجلد ... لا تفقد الأمل فالمشعل في يدنا ... والله معنا ... وباب السرداب قريب ..الباب قريب .. لا شك قريب. _ أي أمل عاد لنا الآن ... كم من الساعات قضيناها ... في بطن السرداب ... وليتنا ندري ما حل بأهلنا فوق... ألا يمكن أن ندري إلا إذا صعدنا لفوق... وهذه السراديب اللعينة أمست كحياتنا المكدودة لا ندري وليتنا ندري إلى أين ستنتهي . ( يتعالى عواء الذئب) يواصل سليمان: _ وذلك الذئب اللعين هل تسمعون عواءه هل تسمعون؟ يترصد لنا ... يتربص بنا ... يحصي منا الخطوات.. وفي النهاية ... سيقضي على كل شيء ... كل شيء... لا أمل يا أبي ...لا أمل لا أمل. العواء هدوء من نوع خاص يغتال الوقت ثم: يصيح المخرج في صوت مبحوح : stop يصفق الفنيون والمصورون بحرارة تقديرا لجودة الأداء ... تضاء الأنوار الكاشفة في كادر الاستديو لتنتزع من عيني ومن عقلي إحساسي بالوهم السابق ... أعانق بقية الممثلين فرحا بنجاح المشهد. أفكر للحظات بالمشهد ... وأجيل الفكر... حمدا لله على نعمه .. أن كان مجرد مشهد ... وأراني من غير هدى ... أتنفس الصعداء.