من محاسن الصدف أن تتمحور هذه الإطلالة ونحن على أعتاب استقبال شهر رمضان الكريم مدينة أثرية أسست في الثلث الأول من شهر رمضان ولكن في القرن العاشر الهجري وهي مدينة حققت نمواً مضطرداً وازدهاراً واسعاً في فترة زمنية قياسية أهلها لأن تصبح مركزاً ومقراً رئيسياً لإدارة شئون ولاية اليمن آنذاك لما يقارب الست سنوات فبلغت بذلك دوراً مهماً في النواحي السياسية كما مثل بناؤها نموذجاً للسياسة الإدارية التي اتبعها الولاة العثمانيون في إقامة المنشآت العمرانية والخدمية والتجارية والاقتصادية في اليمن. والغريب العجيب أن مدينة ملحظ التي تناثر اسمها في مصادر قليلة وعلى استحياء لاتكاد تكون معروفة لدى شريحة واسعة من المثقفين رغم المكانة التي تربعتها لدرجة لم يستطع معها أحد المؤرخين الذين تناولوها ولو بشكل عرضي تحديد المكان الذي انشئت عليه ومعالمه المختلفة بصورة دقيقة وكل ماقرأناه لايعدو مجرد تخمينات ذهبت إلى أن المدينة شغلت مساحة واسعة خارج مدينة ذمار أو شغرت جزء منها ويزداد الغموض عمقاً عدم العثور على شاهد تاريخي بارز من أي نوع لهذه المدينة مع أنها لا تعود إلى عصور تاريخية موغلة في القدم بل على العكس فالمدينة حديثة النشأة حيث اختطها الوالي العثماني بهرام باشا في سبعينيات القرن ال16 تقريباً الأمر الذي يفرض على أهل الاختصاص إيلاء هذه المدينة التاريخية الكثير من الجهد والتنقيب في سبيل الكشف عن أسرار وخبايا التاريخ اليمني الذي لايزال معظمه مطموراً. خلفية تاريخية بعد معارك ضاربة دارت رحاها في العديد من مناطق اليمن ضد الغزو العثماني أو كما يحلو للبعض أن يطلق عليه الفتح العثماني الأول لليمن في العام الذي بدأ في العام 1538م شهدت تحولاً ملحوظاً في العام 1570م تمثل في ميل الأوضاع إلى الهدوء واستتباب الأمن والسكينة على مختلف أرجاء الوطن الكبير من محور عدن إلى أطراف صعده وبخاصة في زمن الوالي سنان باشا وتعزيزاً لهذه الحالة الجديدة أرسل الباب العالي بهرام باشا في مهمة محورية لتنظيف بعض الجيوب التي لازالت تشكل مصدر قلق للعثمانيين وفي مقدمتها حصن حب وأميره علي بن الإمام شرف الدين الذي استطاع إلحاق الهزيمة بالجيش العثماني المحاصر للحصن وسرعان ماتمكن بهرام باشا من السيطرة عليه بعد جولة من المفاوضات أسفرت عن عقد صلح بينه وبين الأمير المطهر بن شرف الدين. الموقع والتأسيس يقول المؤرخ أحمد صالح المصري المدرس المساعد في قسم التاريخ بجامعة ذمار أن مخطوطة «بلوغ المرام في تاريخ دولة مولانا بهرام» للمؤرخ محمد بن يحيى المطيب الزبيدي من أهم المصادر التاريخية التي وردت فيها معلومات أكثر دقة عند مدينة ملحظ كونها دونت سيرة بهرام باشا مؤسس المدينة.. إلا أن المطيب رغم ذلك لم يحدد موقع المدينة بشكل دقيق وكل ماذكره حول ذلك بأنها بقيت خارج مدينة ذمار مبيناً أهمية اختيار موقعها لتوسطه بين صنعاء وتعز وعدن وبعدان وزبيد والتهائم وماوالاها إلى جازان وهي أهم مناطق النفوذ العثماني بموجب الصلح المبرم المذكور آنفاً إلا أنه يمكن تحديد الموقع من خلال الإشارات التي وردت في سياق الحديث عن أهم الأحداث التي وقعت فقد ذكر المؤرخ أن بهرام باشا أقام معسكره الأول قرب مدينة ذمار ومن ثم نقل ركابه إلى مخيمه الجديد أي مدينة ملحظ وعادة ماكان العثمانيون يقيمون مخيماتهم قرب المدن.. كما أن المؤرخ يتحدث عن مدينة ذمار وكأنها مقر بهرام باشا لايذكر مدينة ملحظ إلا لماماً. ومن خلال مراجعة لما ورد في مخطوطة بلوغ المرام فإن ذلك يضعنا أمام احتمالين الأول: أن المدينتين كانتا مقران دائمان لبهرام باشا أو تكاد تكون جزء منها وهو ماجعل المؤرخ يطلق على ملحظ أسم ذمار في أكثر من موضع. الثاني: أن مدينة ملحظ قريبة جداً من ذمار منفصلة منها بشيء يسير وهو الاحتمال الأكثر ترجيحاً. التأسيس وذكر المؤرخ أن تأسيس المدينة كان في 10 من رمضان سنة 978ه الموافق 7فبراير 1570م بقوله وفي العاشر من رمضان المبارك منها أي من السنة المشار إليها اختط مولانا أسعده الله تعالى مدينة ملحظ حرسها الله سبحانه وأمد أهلها من الخيرات بأوفر نصيب وحظ.. مشيراً إلى أن الوالي العثماني دخل مدينة ذمار نهار يوم الجمعة الموافق 15شعبان 978ه 13ديسمبر 1570م، وأنه اجتمع فيها ب سنان باشا مؤكداً أنه لم يقم في معسكره الأول في ذمار سوى خمسة وعشرين يوماً فقط وأنه انتقل إلى ملحظ. مدينة البركة ورخص الأسعار وفي سياق حديثه عن التسمية ب«ملحظ» يعلل المطيب تلك التسمية بأنها من باب التفاؤل كي تكون ملحظ للخير والبركة والنصر مبيناً أن عدد حروف أسمها قد وافق تاريخ بنائها ويستطرد بالقول: فكانت والله كذلك فطابق الاسم المقصود واجتمع في ربعها الخيرات والسعود ورخصت بها الأسعار وجلبت إليها البضائع من جميع الأقطار حتى صارت محط أمن للوفود وملجأ خير للقاصدين ومريحاً للغادين والرائحين. المنشآت العمرانية الجامع: أورد المؤرخ معلومات حول جامع ملحظ وحدد تاريخ الانتهاء من تعميره بشهر شعبان من السنة المذكوره أي سنة 980ه ديسمبر 1572م بقوله عمر مولانا وفقه الله تعالى جامعاً بمدينة ملحظ وأكده وأحكم عمارته وشيده ورتب فيه إماماً ومؤذناً ومقيماً وأقام به جمعه في غرة رمضان منها «أي من السنة نفسها» وكان من المشاعر المحظوره وأماكن الفضل المشهورة. القصر والمباني وفي هذه المنشآت أشارت المصادر المختلفة إلى وجود القصر والمباني الفخمة وهذه المعلومات تشير إلى التطور العمراني في المدينة في عهد بهرام باشا وقد بالغ البعض من المؤرخين في وصف المباني والتي جعلوها في وصاف القصور التي بناها ملوك الفرس ويبقى السؤال هل شاهد هؤلاء المؤرخون أو جزء منهم تلك المباني وبمعنى آخر هل زاروا المدينة أم أنهم اعتمدوا على روايات من شاهدوها. مركز حكم ولاية اليمن أصبحت المدينة بعد أن استقر فيها الوالي العثماني وعمرها مركزاً لحكم ولاية اليمن فقد أدار منها شئون الولاية خلال فترة حكمه وقد أشار المطيب إلى أهميتها والمقومات التي أهلها لتصبح مقراً لوالي اليمن بقوله: وهي جديرة بأن تصير تحت المملكة العثمانية ومن الطبيعي أن تتهيأ لاستقبال العديد من الوفود داخلية مثل وفادات المشائخ القبلية اليمنية وخارجية لعدد من ممثلي الدول. تنفيذ العقوبات «سلخ جلود المشائخ» ومثلما كانت ملحظ محطة لوصول الوفادات فإنها في الوقت ذاته غدت ساحة تنفذ فيها العقوبات ضد الجماعات والأفراد والخارجين عن سلطة الدولة العثمانية كون هذه الإجراءات تنفذ في مركز حكم الولاية بغرض التشهير والردع للآخرين ولأخذ العظة والعبرة وأهم ماذكرته المصادر التاريخية في هذا الخصوص هو معاقبة بهرام باشا لمشائخ بني مطر حيث أورد صاحب بلوغ المرام مايلي تم في ثالث جمادي الأولى من سنة 980ه 1572م أمر مولانا أعزه الله بالتجهيز على طائفة تدعى بنى مطر فمكنه الله تعالى منهم وأوثق خمسة من أشياخهم وأسر فسلخت جلودهم وحشيت بالتبن وجعل المذكورين عبرة لمن اعتبر واركبوا تلك السلوخ المحشية ظهور الحمر. محمل الحج أهتمت الدولة العثمانية بعمل الحج وأولت عملية تنظيمه عناية فائقة وسخرت الإمكانات الاقتصادية والعسكرية للمحافظة على سلامة الحج حيث ربطت بقاء ولاتها في مناصبهم السياسية بمدى سلامة محامل الحج. فكان أول عمل وصل إلى ملحظ بعد عودته من موسم الحج بإمرة الأمير محمد آغا وفي تلك السنة التي وافقت 980ه كسا المحمل الشريف كسوة جديدة منسوجة بأنواع من «الابريسم» وهو لفظ فارسي يعني الحرير وقد طلع الأمير آغا بالمحمل الشريف من مدينة زبيد إلى مدينة ملحظ بأمر من مولانا أيده الله فلم يزل الآغا محمد المذكور يسير بالمحمل في السهل والوعر يدير السفرية في ذلك بألطف أمر وصحبته الرتبة المعنية في أعيان العسكر فدخل المحمل الشريف مدينة ملحظ وكل واحد متعجب منه وإليه بنظره يلحظ. كما رصدت المصادر التاريخية إلى جانب هذا المحمل أربعة محامل أخرى للحج في السنوات التالية للحمل الأول وهو مايشير إلى أن المدينة أصبحت مركزاً لتوافد حجاج اليمن ليسيروا من المحمل إلى بيت الله الحرام وهو من الشعائر الدينية التي حرص الولاة العثمانيون على إقامتها واستمرارها. تتشابه وحي بئر العزب وهنا بدا واضحاً الدور السياسي الذي لعبته ملحظ في تاريخ اليمن وأن الغرض من بنائها كان سياسياً بالدرجة الأولى لتكون مقراً للحاكم العثماني بعيداً عن مساكن العامة بذمار وقد اجتمعت فيها عناصر المدينة «الجامع دار الحكم دار العزب الأحياء السوق» وهي بذلك تشبه إلى حد كبير حي بئر العزب في صنعاء الذي اختط في القرن العاشر الهجري/السادس عشر الميلادي وربما تكون مدينة ملحظ الأقدم من حيث التأسيس فحي بئر العزب لم يشتهر وتنتقل إليه الطبقات الحاكمه إلا في فترات متأخرة.