يهل هلال شهر رمضان الكريم، ويستشرف المسلمون طلعته للاحتفال به كل حسب مايسره الله له، فمنهم من يتطلع إليه ليجد في العبادة ويجني ثمار طاعته مغفرة وعتقاً لرقبته من النار، ومنهم من يجعل همه فيه أن يتفنن في جلب أطايب الطعام والشراب حتى يتخم معدته، ومنهم من يستعد له فيسهر ليله وينام نهاره ليشاهد ماتعرضه القنوات الفضائية من أفلام ومسلسلات، ومنهم من يستعد له بشراء أفخر الثياب والحلي ليتزين بها في العيد الذي يعقبه. والإسلام دين أحل الطيبات، وحرم الخبائث في نطاق لا إسراف فيه ولاتقتير، ليجتث جذور الترف والتبذير من معيشة الفرد وحياة الجماعة، حتى يسلم للأمة كيانها، ويبقى لها تماسكها، لأن الجدير بالأمة المسلمة أن تجعل حياتها جندية لله، وتاريخها جهاداً موصولاً لإعلاء الحق وحماية دعوته، وليكون ظاهر أمرها وباطنه ترفعاً عن فتن الدنيا وملاهيها الصغيرة، ذلك لأن التهالك على الشهوات والتهاوي في المحرمات إنما هو فرار من التكاليف ونكوص عن الجد وتضييع لمعالم الشرف، وتلك خلال إن تسربت إلى أمة وأدتها، وفي الحديث: «سيكون رجال من أمتي يأكلون ألوان الطعام ويشربون ألوان الشراب ويلبسون ألوان الثياب ويتشدقون في الكلام أولئك شرار أمتي».. رواه الطبراني. إن الإسلام يحب البساطة المطلقة في حياة أصحابه، ويوصي بنبذ التكاليف والمبالغة في النفقات، وذلك ابتعاد للمسلم عن الإسراف الذي هو مجاوزة القصد، أو وضع الشيء في غير موضعه، أو هو ماأنفق في غير طاعة، أو هو مجاوزة حد الاعتدال في الطعام والشراب واللباس والسكنى ونحو ذلك من الغرائز الكامنة في النفس البشرية. أسباب الإسراف للإسراف أسباب وبواعث توقع فيه وتؤدي إليه ومنها النشأة الأولى، وذلك إذا نشأ الإنسان في أسرة حالها الإسراف والبذخ، فما يكون منه سوى الاقتداء والتأسي، وقد يكون سبب الإسراف هو السعة بعد الضيق، أو اليسر بعد العسر، فتتغير الموازين وتتبدل الأحوال فيصعب على أصحابه التوسط والاعتدال، وقد يكون سبب الإسراف هو مصاحبة المسرفين ومخالطتهم، والإنسان غالباً مايتخلق بأخلاق صاحبه وخليله. وقد يكون سبب الإسراف عن طريق الزوجة والولد، ولعلنا نفهم مقصد الإسلام حينما أكد انتقاء الزوجة وأكد تربية الولد والاهتمام به. وقد يأتي الإسراف بسبب التهاون مع النفس وهي دائماً تتطلع إلى الشهوات وتلح في الانغماس فيها، ولهذا يقول سبحانه وتعالى : «قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها». وقد يأتي الإسراف بسبب الغفلة عن طبيعة الحياة الدنيا، وأنها لاتثبت على حال، ولايقر لها قرار، وأنه ينبغي الحذر منها، وقد لايدرك الإنسان الآثار الوخيمة التي تترتب على الإسراف فيسقط فيما لاينبغي من الإسراف وعواقبه. آثار الإسراف ونتائجه للإسراف آثاره المدمرة وعواقبه المهلكة للفرد والمجتمع والبيئة، وأول هذه الآثار يكمن في علة الأبدان، ذلك لأنها محكومة بطائفة من السنن والقوانين الإلهية بحيث إذا تجاوزها الإنسان بالزيادة أو النقص فإن العلل تتطرق، وحين تتطرق إليه العلل فإنها تقعد به عن الواجبات والمسؤوليات الملقاة على عاتقة. وأشد نتائج الإسراف خطراً إنما هو قسوة القلب، وللجوع أثره في رقة الطبع، كما أن للشبع أثره في قسوة القلب، وحين يقسو القلب ويجمد فإن صاحبه ينقطع عن البر والطاعات، والويل لمن كانت تلك حالته.. يقول تعالى : «فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله أولئك في ضلال مبين». ومن الآثار السيئة والأضرار الوخيمة للإسراف خمول الفكر والبطنة أهم أسبابه، فإذا امتلأت البطنة نامت الفطنة، ويصاب الفكر بالخمول يوم يحرم المسلم من الفقه والحكمة، وحينذاك يفقد الإنسان أخص الخصائص التي تميزه عن باقي المخلوقات، ومن آثار الإسراف المدمرة أنه يحرك دواعي الشر والإثم، لأن الإسراف يولد طاقة ضخمة من الغرائز الساكنة والكامنة في النفس، ووقتها لايؤمن على المسلم الوقوع في الإثم والمعاصي. ومن الآثار القاتلة للإسراف الانهيار وعدم الصمود في ساعات المحن والشدائد، لأن المسرف يكون قد قضى حياته في الدعة والترف والاسترخاء فلايستطيع أن يقاوم النوازل، وهنا لايلقى من الله أي عون فينهار، لأن الله تعالى لايؤيد إلا من جاهد نفسه.. قال تعالى : « والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا». ومن نتائج الإسراف عدم الرعاية والاهتمام بالآخرين، فالإنسان لايرعى شؤون غيره إلا إذا أحس بحاجاتهم وأضناه التعب وعضته الحاجة، والمسرف مغمور بالنعمة من كل جانب فأنى له أن يفكر أو يهتم بالآخرين. إن المسلم خاصة في شهر رمضان عليه أن ينظر إلى ملذات الطعام وحطام الدنيا بأنها أقل من أن يتفانى فيها الناس على النحو الشائن الذي نراه في عصرنا هذا. إن الإسراف يضيع الثروات، ويفني الأوطان، ويكثر الأمراض والعلل، ويودي بأصحابه إلى النار، والمسرفون هم أصحاب النار، والله الهادي سواء السبيل.