لأكثر من نصف قرن من الزمان ظلت الأغنية الحضرمية تراوح مكانها، وتستقي من عذب مياه تراثها الشجي الصافي، إذ أن مسألة التأهيل للمواهب الفنية - شعراً ولحناً وأداءً - لم تتجاوز ما حصدته العبقرية الفنية المكلاوية الدكتور الفنان عبدالرب إدريس الذي ابتعث للدراسة في المعهد العالي للموسيقى العربية بجمهورية مصر العربية في منتصف ستينيات القرن الماضي - قبل الاستقلال الوطني - على نفقة الدولة يومئذ، هذه الفرصة التي رافقه فيها - كذلك - الفنان أحمد بن غودل في مجال الفنون المسرحية، واستبدلها بعد ذلك بالدراسة الموسيقية، وقد كانت هذه البعثة المصغرة مؤشراً لمدى وعي وإدراك النخب السياسية لأهمية المنظومة الثقافية ودورها في تشكيل بنية المجتمع، والارتقاء بنسقه الحياتي المعيش، ودفعه إلى فضاء التنوير والتحديث، وقد أتت هذه الخطوة أكلها من خلال ما وصل إليه الفنان الكبير عبدالرب إدريس من حضور طاغ في المشهد الفني من المحيط إلى الخليج. من هنا كان هذا التراجع المخيف في عدم متابعة خطوة البداية في تأهيل كوادر فنية مستوعبة للغة الفن ومنهجيته ومدارسه المتعددة أمر أدّى إلى نكوص كبير في عملية التأصيل العلمي والمنهجي لتراث حضرموت الغنائي، وظلت الرحى تدور في نفس موضعها دون مقدرة على التجاوز والانزياح عن هذا التراث التراكمي الكبير، مما جعل المواهب تقصر بها إمكانياتها عن الانطلاق في فضاء الفن المحلي وما هو أبعد منه، على الرغم من امتلاكها لمواهب عميقة ورائعة في فنون الغناء والطرب وقوالبه المتعددة. مواهب شقّت طريقاً دون سند: في الخمسة عشرة السنة الماضية تبوأ المشهد الغنائي في حضرموت عدد من المواهب الغنائية المتمكنة من (هنكها) اللحني والإيقاعي، ونجحت هذه المواهب في تسجيل حضور كبير، واستطاعت أن تكسب ثقة المستمع (الذّواق) من خلال مراسيم الأعراس من على خشبات (المخادر) التي تعد ، بحق، المحك الحقيقي لمقدرة الفنان وإمكانياته، فهذه المراسيم هي البوتقة التي تصهر الموهبة وتدفع بها إلى المواصلة بقوة وثقة أو تعود به القهقرى على أن يرضى من الغنيمة بالإياب، ومن هذه المواهب التي توسدّت الصفوف الأولى في واجهة الفن الغنائي الحضرمي اليوم للتمثيل لا الحصر: عبدالله علي العطاس، علي بن بريك، عارف فرج، محمد الناخبي، محمد بن حميد، وغيرهم من الوجوه التي تتفاوت أعمارهم الفنية بين العشرين وما دونها، ولكنها وهي تصارع للتقديم الأفضل والأجمل تصطدم بتهافت ما يقدّم من كلمات لا ترتقي إلى مستوى عطاءات المبدعين الكبار، وتقصر بها قدراتها عن اللحن الجميل، بعد أن تراجع مواهب الملحنين إلى حد التلاشي، فلم تشهد الغنية الحضرمية في هذه السنوات بزوغ موهبة متمكنة قادرة على المنافسة والبقاء مع سيل الألحان الرائعة التي تناثرت من شعراء الأغنية الكبار في الخمسين السنة الماضية.. أصوات فنية مهاجرة: يبدو أن قدر الأغنية الحضرمية شبيه بقدر إنسانها، فالاغتراب هو المآل الذي يذهب إليه، أو يقترب منه، لذا لم تكن الأغنية الحضرمية بمنأى عن هذه الحقيقة الأزلية، فالكثير من أعلامها الكبار وروادها هم اليوم في المهاجر المتعددة، يقبضون على تراثهم الغنائي بقوة وأصالة، خاصة، العملاق الكبير أبوبكر سالم بلفقيه، الذي تعبت منه المطارات - كما غنى - ولم يستقر به حال، في رحلة فنية هي الأطوال، كما نظن، لفنان، عرف التعب والسهر والكد والمعاناة، لتفرز كل هذه العوامل وغيرها عبقرية شعرية ولحنية وصوتية صارت مثالاً يقتدي به العديد من الفنانين في دول الجزيرة والخليج.. ولأن أبا أصيل، غير قادر على التغريد خارج الهوى الحضرمي ظل ممسكاً بخيط الوجع الغنائي من خلال حرصه بين فينة وأخرى على دندنات الفنان الموهوب عوض بن ساحب - عازف آلة العود في الفرة المصرية المصاحبة له في جولاته الفنية والغنائية. لذا نعود، مجدداً، إلى سؤالنا الذي وضعناه عنواناً لموضوع، أتحتضر الأغنية الحضرمية؟! فقد قلنا ما لدينا، فهل لدى الاخرون ما يضيف أو ينقض ما ذهبنا إليه أو استزادة تفيد؟! ننتظر.