صنع الجذام عند اطرافه تكويرات لحمية عظمية باهتة السواد.. حماره يتفادى المارة والأشياء بخطى هدها الهزال الناخر في جسده، والتكرار طبع عند أرجل الحمال طريقه.. من قرية الجذام وحتى المدينة.. وليست المسافة بقليلة.. وبقي زمن بدء العودة من المدينة والذي يقرره الحمار كالعادة بقي سراً يتندر عليه من الفوا مرأى الحمار وراكبه. يزداد التعب بالحمار.. يغمض عينيه وتنسرب منهما حبات الدموع، ورغم اغماض عينيه إلا أنه لم يفقد يوماً الطرقات التي اعتاد السير فيها، ولا الأمكنة التي عرف من زمن بعيد الوقوف فيها في انتظار العطايا.. ويأتي من داخل الدكان أو البيت من يغمس يده في الخرج واضعاً شيئاً، أو في جيب هذا الجالس فوق الحمار.. - كلب اجرب.. نتن.. ملعون أنت وحمارك يا... كف الحمار عن نقل سيقانه ليتفادى رغم اغلاق جفنيه ذلك الشيء الذي كاد أن يرتطم ببوزه. التقطت المرأة، وهي تكيل السباب، طفلها من أمام الحمار.. احتضنته وتواصلت شتائمها خلف الحمار الذي واصل سيره.. - عيناه حفرتان جف نورهما من عمر نشوء مدينتنا،وأذناه قرض الجذام صينيتهما وسد من زمن وإلى الأبد منافذ وصول صراخك له.. و... وابتسامة شكلها العائد إلى عربة خضاره بعد أن اسقط في الخرج شيئاً، ولنفسه واصل كلامه. -نعرفه..يعرفه الجميع تقريباً.. لكن لانعرف إسمه.. وفي الحقيقة هو لايعرفنا كما ترين.. إنما حماره يعرفنا حق المعرفة. عند منتهى رحلة العودة.. في قرية الجذام.. ينزلونه والخروج من فوق ظهر الحمار.. لم يقعدهم الجذام تماماً مثله.. يفرغون مااحتوته فتحتا الخرج وجيوب راكب الحمار.. يتقاسمونه. يطرحونه فوق ظهر حماره وقت انسكاب ضوء النهار على من يبصرون.. ويتهادى الحمار به إلى حيث المدينة بأسواقها التي يعرفها.. كانت الرتابة وطول الأيام تثقل راكب الحمار.. ينبش في ذاكرته حتى يقتل السكون الذي يحتويه، والذاكرة لاتختزن الكثير، ولم يعد يفرحه أن يقف الحمار أو يسير.. أن تندس يد في جيبه أو في الخرج.. ولاحتى أن يعتصر عروق رأسه لاستدعاء ماانسرب إليها يوماً.. وحتى الحكاية التي كانت تدغدغ قلبه كلما تذكرها.. ودوماً يتذكرها. الحكاية التي يحكيها لنفسه بصوت عال.. رغم أنه لم يعرف الكلام، فالعاهة الوحيدة التي نزل بها من بطن أمه هي البكم، ومع ذلك فهو يحكي لنفسه بصوت مرتفع.. هذا مايظنه.. يوم أن بدأ الجذام يقرض أطرافي.. يوم أن صار الكل ينبذني يوم أن نصحني الأهل بالهرب من قريتي وإلى أي مكان.. يوم أن جئت إلى هذه البقعة وكنت الوحيد ثم امتلأت بعد ذلك بالمجذومين. تعبت.. مللت سرحاتي.. أردت أن أهجع في «خصي».. أو مأت لهم أني تارك حماري لمن يرغب في الذهاب بدلاً مني.. هدني التعب والجذام والعجز.. أي منكم له حماري فهو أعرف منا.. فقد يركبه ويتسول قوتنا من المدينة. ولأنه يصرخ بأعلى صوته بحكايته هذه لنفسه ولهم.. ولأنهم لم يسمعوه أبداً، ولأنه تأكد أن من لم ينخرهم الجذام تماماً مثله لايبالون لاسترحامه لهم بصوت لم يخرج منه، ولم يصلهم.. بألم يقتلعه ولم يحسونه.. بدموع لاتنقطع ولم تنزل ويرونها.. لكل ذلك آثر ألا ينبشها مرة أخرى، وماتت.. لم تعد تصاحبه.. ربما لم يعد يذكر هذه الحكاية. ولكن مايذكره أنهم يومياً يضعونه فوق ظهر الحمار، وينزلونه.. ويذكر بقوة حكاية أخرى بعد طول السكون.. وهذه تملؤه رغبة في قولها بأكثر من قوته. ومع أن هذا العناء اليومي تمناه طويلاً ألا يحدث.. أن يمارسه رفاقه بدلاً منه.. مع أن هذا الشيء لم يحدث.. صار لايحسهم يحملونه.. لا إلى انزاله على الأرض.. لم يفرح.. لم ينتابه أي احساس.. فقط الآن، فقط الآن.. أحب أن يقول : كانت مرارة وملوحة ليست مثل التي صحبتني كل سنيني.. فلحظة أن انخلع ظهر حماري فجأة من تحتي وعلى غير العادة، ولحظة أن، استقر جسدي بين أشياء لينة وصلبة.. ولحظة أن تلاشى طنين الاردتطام من أطرافي المجذومة ومن احشائي.. نفسها اللحظة التي نعقت فيها آفة جذامي بأعلى من استغاثاتي المكتومة.. كنت عرفت أن استحالة عظامي ولحمي رماداً بعد سقوطي من فوق الحمار، كان من النار التي لاتخبو في انتظار قمامة المدينة وزبالتها.. كانت الآلام التي لاتطاق تنسرب مع رماد أعضائي المختلطة برماد القمامة التي أكلتها النيران وحرقتني معها.. وقتها لم ألعن حماري الذي على غير عادته جاء إلى محرقة قمامة المدينة.. وقتها لم ألمه حيث قذف بي وسط القمامة.. ولم أعد أذكر حماري حتى.. فقد كانت القابلة تقطع حبلي السري.. وتمسح أمي بيدها لزوجة جسمي.. وكنت في حجر أبي وضاربة الرمل تنبئه بيوم سأكون الفارس.. يطاير الهواء الرماد الذي لم يبرد.. يأتيني الآن صوت مع الرياح.. ربما كان صوت أبي الذي لم أسمعه أبداً.. اسميتك ياولدي أبا الفوارس.. وكما أرادت العرافة.. أوصيتك ياولدي بأرضك وأهلك.. يشب الهواء في النار التي تأكل قمامة المدينة وتطاير الرياح رمال جد لم تهدأ من الألم.. وأرقب أمي تجرني طفلاً في كل البلاد، وتنشد.. تدفع الرياح الهواء فوق المحرقة.. ينخر آفة الجذام حبات الرمال التي لم تزل ساخنة.. وتتناغم أناشيد أمي.. وتتناغم معها أصوات من البلاد التي ارتحلنا إليها والبلاد الأخرى.. يعلو الدخان فوق المحرقة.. ومن داخله تصدح الاناشيد.. انتشي.. افتقد حالة لا أذكر متى كنتها. ومع أنه لم يعد يتمنى أن يحملونه أو لايحملونه.. ومع أنه لم يأخذه الحنين أبداً إلى رفيق عمره، الحمار.. أو إلى القابلة وأمه وأبيه.. ومع أنه لم يكف أبداً عن ترديد حكايته هذه الاخيرة.. ومع أن الأيام صارت سنين طويلة.. لازال الدخان يحمل الاناشيد.. والحالة التي كانها يوماً لايذكرها، يفتقدها.. ولم يكف أبداً عن ترديد حكايته الأخيرة.