للهوامش سطوة على المتن ، فهي القادرة على الإيضاح والإضاءة للمعتم ، والذاهبة إلى التحديد وإثبات الحق والمرجع ، فتصبح العودة إليها وقراءتها ضرورة من ضرورات إدراك المتن وإكمال صورته ، من هنا جاءت هذه الهوامش التي نحررها على دفتر الفن لنضع علامات هامسة لمن يريد أن يكمل وجه الحقيقة الفنية اليوم ، فإن وجدت فيها ما تبتغيه ، وإلا دعها، فلست المعني بهذه الهوامش الهوامس. في البدء همسة تعجز الكثير من الأمم عن معرفة وفهم وإدراك مكوناتها الحقيقية، تلك المكونة لفرادتها ونبوغها وتميزها المشكِّلة لخصوصيتها وهويتها، عجزٌ إذا ما استفحل في كيان أمة آذن بتقوقعها وانحسارها عن ركب الحضارة ودفع بها إلى التلاشي والاختفاء من قائمة التفاعل الحضاري المجدد لروحها ودورها الذي تتغياه. كانت الغيل إن المتابع لنشوء وتكوِّن وتطور مدينة العلم والنور، الثقافة والفنون، والتفوق والنبوغ، التجدد والحضور، في مجالات الحياة كافة، مدينة المياه الرائقة والأزهار العطرة، والأشجار المثمرة، والنخيل الباسق، غيل العلماء والأدباء والفنانين والرياضيين العظام في تاريخ حضرموت، يقف اليوم عاجزاً عن فهم حقيقة ذاك الحضور الذي كانته مدينة غيل باوزير في كتاب الحضارة والأصالة والتراث الحضرمي الكبير، إذ تكالبت عليها في السنوات القريبة الماضية معاول هدم - كغيرها من مدن الإشعاع الحضاري الحضرمي– ليخفتوا دورها الحقيقي الذي لعبته في المراحل السابقة، فلم تعد هذه المدينة مجايلة لروح الانتماء الثقافي والفني والتاريخي، إذ تراجع إسهامها في تلك المجالات كافة، وإن بقيت روحها تتنفس هواء الأيام الخالية وتنبض بعمق الولاء لزمنها الذي شكَّلها وشكَّلته، ومن هذه الروح، ما شهدته الغيل من هبة حقيقية لتكريم مبدعيها الذين أثروا حياتها الفنية والثقافية في الخمسين السنة الماضية ومازالوا يمدونها بمدد روحهم وعطاءاتهم التي تجدد بمرور الزمن في تحدٍ حقيقي يقاوم تكلس الآني وينبذ الدخيل الجاف. تكريم الأنصار نقطة ضوء إن الحفل التكريمي الذي دعت إليه وتبنته جمعية أنصار الثقافة بالغيل، يصب في خانة الوفاء والعرفان للأرض والإنسان في غيل أبي وزير خاصة وحضرموت عامة، وقد أحسنت صنعاً هذه الجمعية عندما جعلت منطلق مهرجاناتها التكريمة تلك الدرر النيرة في حياة المدينة، وعنوان أصالتها ومجدها الأصيل، فالأعلام المُحْتفى بها في ليلة الوفاء والتكريم – الاثنين الخامس من أكتوبر 2009م - التي شهدتها ساحة المدرسة (الأم) الوسطى التي أسست في مايو من عام 1944م، بما تحمله مدرسة الأمس، المركز الثقافي اليوم، من دلالة رمزية لا تخفى على لبيب، وبما حملته من خلفية جلية لحفل التكريم والوفاء، تعطي مؤشراً ايجابياً بعودة الغيل إلى واجهة المشهد الثقافي والفني والتعليمي بقوة، وتوسم القائمين على كيانَي المركز والجمعية بميسم الانتماء الصلب للكيان الكبير، وتدفع بهم إلى ضرورة الذهاب إلى ما هو أعمق وأكبر وأكثر حضوراً وتأثيراً، والابتعاد عن ما يخدش هذا الحضور والدور من خلال الخروج بالفعل إلى المدينة وعدم البقاء في الغرف المغلقة، مع ما يصاحب ذلك الانغلاق من اجترار لمآلات لا تضيف شيئاً إلى ما نذهب إليه وترغب فيه مدينتهم الأثيرة. درر ورموز إن المحتفى بهم الشاعر الغنائي الكبير أحمد سالم البيض وصنوه الآخر الرائع سالم أحمد بامطرف، ونغمته الرائقة الملحن محمد علي عِبيّد والموثق للتراث سعيد يسلم بن دويل، والشدو النسائي الفنانة الشعبية آمنة سعد بن عطية، أعلام – لا شك – كلٌّ منها قدم عصارة جهده ومعاناته وسهره وولعه للارتقاء بقيمة الجمال واحتفى بنبض الحياة وواجه مشكلات مجتمعه وعصره ليجعل منها حديث الشعر وهمس اللحن وشجن الناس وصوتهم الذي يتجدد عندما تكالبت عليه الإحن والبغضاء والتفتيت والتهميش والموت السريري الذي يرغب الآخرون في إدخاله إليه. وقائع وشواهد وإذا أردنا أن نتأمل ليلة الوفاء التي حضرها جمع كبير من قاطني الغيل والمكلاوالشحر، وغيرها من مناطق حضرموت، في ليلة ليست ككل الليالي الغيلية، فإن أول ما أدهشنا هو هذا الحضور الكبير لفناني حضرموت – قاطبة – فمن شيخ الأغنية الحضرمية سعيد عبدالمعين إلى المخضرم الرائع كرامة سعيد مرسال إلى شادي المكلا الممتع مفتاح سبيت كندارة إلى صوت المحضار الدافئ محفوظ محمد بن بريك، إلى شباب الأغنية الحضرمية وأملها في الاستمرار والتجديد، علي سالم بن بريك، عارف سالم فرج، وصوت الغيل الرخيم وسام بامطرف، هذه الأسماء التي جمعت بين الزمن الذي كان، والفن الكائن، تؤكد أن روح حضرموت وفنها المهيمن على ساحات الغناء في الجزيرة والخليج، حتى وإن تراجع عن الواجهة الإعلامية لعجز في مؤسساتنا المعنية القائمة، ومن منطلق التغييب والتهميش أيضاً، واتجاه رياح الفن الخليجية صوب الاستعراض الجسدي المشين فكان لابد من الانغماس في الأغنيات لدول عربية أخرى تجيد هذا السباحة في تيارات الجسد العربي المستلب والمستباح، ولكن، حضرموت وثراها الغنائي عصية على مثل هذه المسالك، وهو ما أكده هؤلاء الكبار في ليلة الوفاء والعرفان.. كلمات .. ألحان .. أداء في ليلة فن حضرمية بعد كلمات الحفل الرسمية، كانت الفقرة الأولى في الحفل الغنائي لشادي المكلا ذي الصوت الشجي العذب مفتاح سبيت كندارة الذي تغنّى برائعة الشاعر الكبير سالم أحمد بامطرف (قل لبو محضار ما انصلب لي بار قل لبو محضار)، ليصعد الفنان الكبير كرامة سعيد مرسال شادياً برائعة الشاعر الكبير أحمد سالم البيض (طبعك تغير) ويكمل برائعة بامطرف (ليه تغتر بدنيا تاليتها تراب)، ثم يقدم الفنان وسام بامطرف رائعة البيض (من زعلك يا حبيب القلب) ليأتي دور الفنان الكبير وصوت المحضار محفوظ محمد بن بريك مقدماً رائعة بامطرف (ما شي فايده) ويعقبها برائعة البيض (قصير حبل الكذب) ليصعد الفنان الشاب المتألق عارف سالم فرج مقدماً رائعة البيض (نحمد الله جات منك) ليكمل هذه الأمسية الغنائية الشجية والعذبة الفنان الرائع علي سالم بن بريك برائعة بامطرف (لا تئمن الخاين ولا تضمن قليل الخير) وهذه الروائع، جميعها، من ألحان نهر الألحان الصافي محمد علي عبيد. من همسات ليلة الوفاء الأولى: تجاذبت الحديث مع الملحن عبيد، وذكرته بدفتره الحميم، الذي خطه بقلمه الأنيق منذ أول لحن غنائي له، فقال لي مع محفوظ (بيغني) منه بعد قليل، قلت له ، مازحاً: وإذا سرى به طريق الشحر، رد: قد قال لي محفوظ كما (هو ذا) الكلام، قلت له: (با مغص لك).. وضحكنا معاً.. الثانية: التفت الرائع عبيد إلى الخلف ، فوجد الدكتور سعيد الجريري والدكتور عبدالقادر باعيسى، ففرح بشدة، وصافحهما بحرارة، فقلت له: قدركم أستاذي عندنا كبير جداً، أردف: وانتم ما لكم جزاء إلا عند ربي، فما قدمتموه لنا كثيرا جداً. الثالثة: همست للملحن عبيد عن طريقة تواصله مع الشاعر الكبير زمن اغترابه بالكويت، فقال: كان يرسل خمس قصائد إلى دكان في الغيل، نشلها ونجلس نشوف ايش اللي تثير فيّ الشوق للحن، وقد نلحن واحدة فقط ونحفظ الأخريات، ولكن، لا قل إنتاج البيض رجعت (نبحرث) في السابقات. الرابعة: وعلى ذكر التلحين أضاف عبيد، حضر يوماً الراحل الكبير المحضار عقد زواج في الغيل، فلما رآني قال لي: شي معك جديد يا محمد، قلت له: (ورا نحنا عبارك) يا الحبيب.. ضحك كثيراً. الخامسة: في ختام الأمسية التقيت الفنان الرائع علي سالم بن بريك، مودعاً له: فقال: تصدّق يا عزيزي صالح عندما اقتربت من العمالقة لأخذ الصورة دموعي خرجت مني غصب.. قلت: لا تستغرب ففيك ثلاث أصالات وليس أصالة واحدة، دهش مني: فأكملت: الأولى نسبك العريق، والثانية شحرك الحميمة والثالثة تراثك الحضرمي الأصيل.. فكاد أن يبكي ثانية.. ودعته، وقد أيقنت أن حضرموت لن تسقط في مستنقع التهميش والتسطيح والتشويه وفقدان الذاكرة مهما تكالبت عليها صروف اللحظة الآنية، فهي كالعنقاء تصعد من تحت الرماد!.