قد يمتعض من يراني أمشي الهوينا في خيلاء ، رافعاً رأسي في كبرياء، مزهواً بنفسي ،لا ألوي على شيء ، مختلس النظر بين الفينة والأخرى إلى حذائي الغالي اللامع خيفة أن ينثال غبار عليه ، ..يتدلى من وسط خاصرتي خنجر معقوف كمنقار الببغاء ، صنعت قبضته من قرن وحيد القرن ، وبمئزر حيك بيد حرفي غالى في إتقانه ،أسبلته حتى أخمص قدمي في تكلف ، ..صائخ السمع لحفيف شجيرات الزيزفون الهرمة ،التي أكل الدهر عليها وشرب ، تتهادى في دلال وغنج ، ما إن ترضى قدماي الاقتراب منها حتى تحفني بظلالها الوارفة ، مسبغة علي الحبور ، نختال بنفسينا في شموخ ، تلفحنا الريح إذا ما رأتنا قد رنونا نبلغ الجبال طولا. محض افتراء من يدعي أنه سيسري في عروقي يوما ما بعض تواضع. لطالما وددت أن ينزاح عن كاهلي مشقة عبوري هذا الطريق ،إذ لا مناص لي من عبوره ، مرغماً أسلكه ، مرد ذلك أنه لا سبيل لوصولي إلى عملي سوى اجتيازي إياه،.. اصطفت فيه في خشوع منازل كئيبة ، متهالكة ،استحالت دون إذن قاطنيها إلى أطلال وعروش ، تكتنز في جنباتها المتآكلة روائح عطنه ، تزكم الأنف ، تنبعث دفقاً دفقا ، تهمس لكل قادم هاهنا موئل الفقر المدقع ، مشيرة لشظف العيش الحضيض ، حيث ما وليت وجهك أيها الرائي ترتسم أمامك دلائل العوز. و في الجهة المقابلة يقبع منزل وضيع ، يؤثر الفقراء دوننا نحن الأغنياء بالمأوى ، هجره مريدوه من أعالي القوم عندما أصبح ينتمي إلى الضعة والبؤس، وأيضاً شجيرات الزيزفون الخرفة ، ضاربة جذورها في الأعماق كأنها أم رءوم ، مسدلة أوراقها إلى الأرض عن عمد ،إحداها تغطى جذعها بلحاف مهترئ ، ربما نسيه جَواب آفاق ، تصطفيني بمنزلة عندها ،إذ أعيث فساداً بأوراقها ، وألكز جذوعها في خشونة ولا تنبس ببنت شفة . صفوة القول ، إن جاء رسامو الواقعية إلى هنا يوما ما ، فلن ينقصهم شيء إن هم أرادوا تجسيد الفاقة في أبها صورها. تابعت سيري بخطوات وئيدة متثاقلة ، يندلق الفخار من جنباتي ، مصوباً ناظري إلى أعلى ، مخترقاً عنان السماء ،وفجأة انبرت على حين بغتة عجوز شمطاء في أسمال رثة ، جلبابها ممزق عتيق ، مكسو رأسها بخرقه مليئة بالأدران ، يشي الفقر المدقع من بين ثناياها ، كأنه خرج للتو من حجرها ، يستقي آلامه ومآسيه من زبدة نحرها ، شدت إزاري بقوة وفي خنوع وبصوت ضارع متهدج قالت: أطعمني لا أبدو وديعاً حين تستثار عندي مشاعر التقزز ، أبدو كالشيطان وربما أشنع ، اكفهر وجهي جراء فعلتها النكراء ، وسرت في جسدي قشعريرة ممضة ، ولولا أنني أمسكت فجاءة في صبر بتلافيف الحكمة ، وتجشمت عناء ما راودني من خواطر ، في زجرها زجراً مقذعاً ، لكنت أسمعتها أقدح ما قيل ، ولنهرتها بعنف واحتدام . تالله ، كيف كبحت جماح سورة الغضب الذي تملكني ؟..لا أعرف !. زعقت في وجهها في حدة متهكما ، وبصوتي الأجش قلت :- رعاع. نظرت شذراً من عل إليها ، بدت لي بوجه كالح ،وبعينين غائرتين في محجريهما ، يشعان بريقاً متوحشاً لا أفهمه ، وبجسد ضامر حالك السواد ، أفل نجمه ، عاثت بلاءً فيه التجاعيد . تفتقت عن ذهني خاطرة جهنمية سوداء ، تبادرت وأنا أهم بالابتعاد عنها ، ماذا لو سولت لي نفسي ، وامتشقت خنجري المذهب ، وأغمدت نصله في كبدها ، أرديتها في غيلة قتيلة ؟.. لا ريب سيكون الأمر وبالاً علي !.. حينئذ سيكلفني عناء تنظيفه من أدرانها . انفرجت أساريرها عن بسمة عريضة صافية ، محت بها تجاعيد وجهها ، وفي حنو وبصوت متهدج ، ملتفتة إلي قالت :- قوم طيبون ، طيبون . أقترب مني صبي صغير في تؤدة ، لم يكمل ربيعه الرابع بعد ، ضارباً بقدميه أديم الأرض في حياء، وبلثغة مست حديثه قال :-أت..ري .. أتريد ..هي بعشرة.. لم أمهله حتى ينهي حديثه ، إذ ما كان مني إلا أن رميت من لحظي لججاً من الشرر المستطير عليه ، أفضت إلى أن آثر السلامة مبتعداً عني في خيفة ، مهرولاً صوب أمه ، نظرت نظرة إمعان إليها فساءني ما رأيت:- أهي من استودعتها آثام شرخ الشباب ؟، أيكون الولد ولدي ؟، وتكون العجوز من ربتني ؟، ويكون الحي مرتع صباي ؟، حين وصلت إلى الطرف الآخر من الحي ، ألقيت نظرة وداع إلى صديقاتي شجيرات الزيزفون ، ألفيتها منتصبة تكابد الهرم في عزم ، ربطت عنقي في صدرها حتى يسهل شنقي ، وذهبت دون رجعة.